17-مايو-2022
ميغاليت اللاس 2

لا تلقَ "ميغاليت اللاس" أيّ اهتمام من السكان المحليين أو السلط الرسمية رغم أهميتها (رمزي العياري/الترا تونس)

 

قديمًا وحسب رواية الأساطير كانت "فينوس" آلهة الجمال تجوب الأرض فتنشر الشعر والحب وطاقة الافتتان ونعومة الحياة وتبذل الغواية بين الضلوع حتى تنخلع الأفئدة عند الجبال وعند السفوح، فقط من أجل إغناء الحياة بفكرة الجمال الأبدي. لكنها دائمًا ما تصطدم بطموح "سيراس" آلهة الخصب والخصوبة تلك التي ترصّف أزهار الربيع كما يرصّف الشاعر كلمات قصائده وتحاكي طيّ السنابل في الحقول وتستمع إلى صوت البيادر البعيدة وهي تذري الحبوب أمام ريح الشمال وتَعدُ الرّعاة بالأحلام والأعشاب والأنغام والغفو الظليل.

إن القبور الجلمودية المتناثرة كالوشم على الزند والنائمة منذ آلاف السنين أعلى هضبة "اللاّس" تعد أقدم إشارة تاريخية عن وجود الإنسان على أرض تونس

وذات زمن غير معلوم، التقتا على ظهر سهل فسيح أسيل كخدّ فتاة ريفية سال على وجهها الغروب وهي عائدة من غبطة اللقاء الأول على ضفة وادي "عمّير". هذا السهل العظيم تحده غربًا مملكة "مكتريس" الكبرى وشرقًا "اللاّس" الرابضة على مرمى عين من "زنفور" تلك الإبنة المدللة لـ"سيكافينيريا". هنا تصالحتا واتفقتا على التحريض على الجمال وخصوبة الأرض والحياة معًا و"إعادة الأشياء إلى أشيائها وإعادة الأحياء إلى ما فقدوه وإلى من فقدوهم" فكانت "اللّاس" منطقة منزوعة الكراهية والجدب.

 

هنا على هذه الأرض القديمة التي توسدتها الآلهة ومنحتها روحًا فوق روحها: ماء العيون يراقص هامات الجبال التي تتشبه بصلابة النخل البعيد وهشاشة الزهر القريب، والطير تتوق حناجره إلى سوناتا زهر اللوز أو أبعد. 

 

أمّا إذا ما رمنا دراسة كل هذا الطنين والدّوي الأسطوري الذي لا يدركه العقل في العديد من الأحوال، وكل هذا الكم الفائق من التاريخ والجمال الباذخ، فإنه لا مفر لنا من أن نحط الرحال أسفل تلك القبور الشامخة التي قدّت هياكلها من جلاميد صخر عظيم، ربما حملته طير أبابيل من أقاصي الروح حتى تخلّد صرخة الإنسان في ثنايا الوجود.

ميغاليت اللاس
تمتد القبور الجلمودية على عدة هكتارات وتحتوي على سبعين هيكلًا جنائزيًا (رمزي العياري/الترا تونس)

تلك القبور الجلمودية المتناثرة كالوشم على الزند والنائمة منذ آلاف السنين أعلى هضبة "اللاّس" تعد أقدم إشارة تاريخية عن وجود الإنسان على أرض تونس. وحسب المعلقة الرسمية التي ثبتها المعهد الوطني للتراث التابع لوزارة الشؤون الثقافية بالموقع الأثري باللّاس (معتمدية السرس من ولاية الكاف) والتي تحمل عنوان "العمارة الجنائزية باللاّس"، فإن هذه المدافن تمتد على عدة هكتارات وتحتوي على سبعين هيكلًا جنائزيًا مازالت في حالة جيدة، أما قبور اللاّس فتتكون من هيكل متداخل إذ تحتوي على مغطى يفضي إلى ستّ غرف تتوزع على جانبين، ولكل جانب ثلاث غرف وفي نهاية الرواق نجد الغرفة السابعة ليكون البناء متوازنًا.

تتكوّن قبور اللّاس من هيكل متداخل إذ تحتوي على مغطّى يفضي إلى 6 غرف تتوزع على جانبين، ولكل جانب 3 غرف وفي نهاية الرواق نجد الغرفة السابعة ليكون البناء متوازنًا

وقُدت الغرف من دعامات صخرية على شكل بلاطات شاهقة غرزت في الأرض ودعمت بأخرى داخل الغرف من أجل تمتين الجدار وصلابة الهيكل ككل. وتشير نفس اللوحة إلى أن الباحثين المختصين في القبور الجلمودية لقوا صعوبة في تصور مراحل البناء لكنهم خلصوا إلى جملة من الملاحظات تتمثل في أن حضيرة بناء هذه الصروح عادة ما تكون في منحدر وبالقرب من موقع مواد البناء (جروف صخرية) وذلك حتى يقع تفادي مجهودات نقل الصخور الكبيرة من أماكن بعيدة وفيما يخص بلاطات الغرف فإنه يقع تحضيرها قبل تلك التي تغطي الرواق وعند نهاية يتم توطيد المعلم من الخارج. 

ميغاليت اللاس
تتكوّن قبور اللّاس من هيكل متداخل يتكون من 7 غرف (رمزي العياري/الترا تونس)

وحسب كتابات الأستاذ والباحث التونسي  المختص في دراسة "ميغاليت تونس" الراحل "علي مطيمط" الذي كتب عدة دراسات حول هذه الصروح الجنائزية طيلة سبعينات وثمانينات القرن العشرين، فإن "القبور الجلمودية هي مدافن صخرية مركبة ومهيبة الأحجام تزخر بها مناطق عديدة بالبلاد التونسية وخصوصًا ولاية سليانة وغالبًا ما تكون هذه القبور ذات حجرة واحدة إلا أنها تتخذ من منطقة التل الأعلى أشكالًا مركبة باحتوائها على أكثر من حجرة، وهي تعبّر عن تقليد جنائزي شاع انتهاجه في شرق حوض البحر الأبيض المتوسط منذ آلاف السنين ويعود تاريخه في شمال إفريقيا إلى الألفيّة الأولى قبل الميلاد".   

"ميغاليت اللّاس" تضم كل القبور الجلمودية على أرض تونس وهي "مقبرة مكثر" و"قبور حمّام الزواكرة" قبور "هنشير ميدد"  بولاية سليانة مقبرة "جبل القراعة" و"المقابر الجلمودية بدقّة" بولاية باجة

وحسب الموقع الرسمي لمؤسسة المعهد الوطني للتراث والمعلقات المثبتة بموقع اللّاس (السرس ـ ولاية الكاف) فإن "ميغاليت اللّاس" شملها تصنيف المعهد في 19 مارس/آذار 1994 ضمن قائمة تضم كل القبور الجلمودية على أرض تونس وهي "مقبرة مكثر" التي يوجد بها 25 معلمًا مكتملًا، و"قبور حمّام الزواكرة" بولاية سليانة وهي تتسم بإفريز قائم على دعائم جانبية وبغرف مبنية في شكل خرجات معلقة حتى يتسنى توزيع ثقل بلاطة الغطاء وتعدُّ هذه المقبرة أكثر من 100 هيكل بغرف مكتملة وتبدو فيها الحجارة معالجة ومنقوشة مما جعل الواجهة محكمة الصنع. 

ميغاليت اللاس
قُدت الغرف من دعامات صخرية على شكل بلاطات شاهقة (رمزي العياري/الترا تونس)

كما تضمّ قبور "هنشير ميدد" من ولاية سليانة أيضًا حيث يتسم الفن المعماري الجنائزي لهذا الموقع بكون الغرف في شكل صندوق صغير مكون من أربع بلاطات مثبتة في الأرض ومغلق ببلاطة الغطاء ويتم الدخول إليها من خلال نافذة صغيرة منحوتة بإحدى البلاطات الخارجية. ويبلغ عدد هذه الصناديق بمقبرة هنشير ميدد 300 هيكلًا وقد تمت استعادة عدد كبير من البلاطات غطاء الصناديق الصغيرة التي تم الاستيلاء عليها وإرجاعها إلى أماكنها الأصلية. 

ومن ولاية باجة تم تصنيف مقبرة "جبل القراعة" التابعة لمعتمدية "دجبّة" وتضم 11 صرحًا وكل صرح يحتوي على سبعة غرف تعود إلى العصر الحجري، كما تحتوي على عدة مخلفات تعود إلى الحضارات النوميدية والرومانية. وأيضًا "المقابر الجلمودية بدقّة" المعروفة بالصروح الجنائزية ذات الطوابق. 

ميغاليت اللاس
معلقة تابعة للمعهد الوطني للتراث حول المقابر الجلمودية (رمزي العياري/الترا تونس)

الأثاث الجنائزي يتكون أساسًا من الخزف المقولب وهو ما يعني أنه في فترة تاريخية ما أصبح الاعتقاد سائدًا في وجود عالم الأموات وبالتالي تدعم الاهتمام برفاهية الميت فأصبحت توضع بعض الأواني والحلي وأدوات الزينة والحبوب

وتشير اللوحات الدّالة والمعلقة من قبل المعهد الوطني للتراث بالموقع الأثري باللّاس، فإن "الطقوس الجنائزية لا تخرج عن تلك التي نجدها في شمال إفريقيا منذ العصر الحجري والتي امتدت إلى بداية الفترة التاريخية، وتتمثل بالأساس في إعادة استعمال الغرف، فالغرفة يعاد استعمالها حيث يكون نظام الغلق قابلًا للتحريك، كما يمكن للغرفة الواحدة أن تحتوي على أعداد هامة من القبور (العشرات) وهو ما يوجِد نوعًا من الاكتظاظ الذي نلاحظه أحيانًا بتكديس بقايا الأموات في جوانب الغرفة حتى يتسنى وضع الأموات الجدد، ويكون الدفن عادة بتمديد الميت إلى أحد جوانبه ثم ثنيه وبالتالي وضع الميت في الوضع الجنيني". 

ميغاليت اللاس
معلقة تابعة للمعهد الوطني للتراث حول العمارة الجنائزية باللاس (رمزي العياري/الترا تونس)

 

وتشير نفس اللوحات إلى أن "الأثاث الجنائزي يتكون أساسًا من الخزف المقولب وهو ما يعني أنه في فترة تاريخية ما أصبح الاعتقاد سائدًا في وجود عالم الأموات وبالتالي تدعم الاهتمام برفاهية الميت فأصبحت توضع بعض الأواني والحلي وأدوات الزينة والحبوب، وغيرها". 

إن هذا الرصيد الأثري النادر من "الميغاليت" أو القبور الجلمودية المتناثرة مواقعها بالشمال الغربي التونسي تحيل فعلًا على المقولة الشهيرة التي يتناقلها التونسيون بين الجد والهزل: "تونس 3000 سنة من الحضارة"، لكن المؤلم أن هذا النسيج من المواقع التي يحق لتونس أن تباهي به يعيش عزلته الأبدية بعيدًا عن كل شيء وبالخصوص الإقصاء المقصود من قبل لوبيات السياحة في تونس عن المسالك السياحية الثقافية.

"ميغاليت اللّاس" التي يفوق جمالها وصلابتها وعلوها ولون جلاميدها وشموخها "أحجار ستونهيج" البريطانية الشهيرة فإنها إلى النسيان تنام وإلى الإهمال ممنوحة، لا أحد يلتفت إليها من سكان القرية المجاورين للموقع الأثري النادر أو من الجهات الرسمية

أما "ميغاليت اللّاس" التي يفوق عددها وجمالها وصلابتها وعلوها ولون جلاميدها وشموخها "أحجار ستونهيج" البريطانية الشهيرة فإنها إلى النسيان تنام وإلى الإهمال ممنوحة، لا أحد يلتفت إليها من سكان القرية المجاورين للموقع الأثري النادر أو من الجهات الرسمية (تمثيلية المعهد الوطني للتراث بالكاف) أو المجتمع المدني بالرغم من أنها تعدّ كنزهم المعلن، يراهم ولا يرونه، وكان يمكن أن يدر عليهم الخير العميم لو التفوا حوله ومنحوه بعض الاهتمام.

فلا علامات دالة عن وجود هذه القبور الجلمودية أو الطرق المؤدية إليها من جهة مكثر أو السرس، تبدو مهجورة بلا صيانة ولا إنارة ولا حراسة، بل تهددها عصابات النبش عن الآثار التي تكثف نشاطها في السنوات الأخيرة. وحتى الدراسات والزيارات العلمية إليها شحيحة.