09-سبتمبر-2021

مدرب في السلوك التربوي: وراء الشاشة نتخيل أنّ المسؤولية عما نقوله وننشره أقل وضوحًا لهذا يبرز العنف الرمزي (Getty)

 

إن المتابع للأحداث السياسية والاجتماعية في تونس على مواقع التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية يلاحظ موجة من التشنج في تناول المسائل الخلافية. فبين مؤيد لـ"التدابير الاستثنائية" التي أعلن عنها رئيس الجمهورية قيس سعيّد وبين المعارضين له، تستعر حرب كلامية تصل حد الإقذاع، مما أصبغ موجة من التوتر وتعثر التواصل بين الأفكار، وتعطلت لغة الحوار بين مكونات المجتمع المتنوعة.

ثنائية "التواصل" و"العنف" صارتا متلازمتين في الفضاء الافتراضي والإعلامي، خاصة فيما يتعلق بالمسائل السياسية الخلافية، مما أفرز سلوكيات سلبية تهدد وحدة المجتمع وتنتج خطابًا منغلقًا على ذاته

منظمات وطنية وجمعيات حقوقية ونقابية أطلقت صيحة فزع في بيان مشترك تناولت "بقلق كبير تنامي وتيرة التشهير وهتك الأعراض ونشر المعطيات الشخصية لصحفيين ووسائل إعلام ونقابيين ونشطاء ومدافعين على صفحات مشبوهة على شبكات التواصل الاجتماعي متجاوزة كل الحدود القانونية والأخلاقية " حسب نص البيان المشترك.

كما انتشرت في الآونة الأخيرة ظواهر اتسمت باللا حوارية أو ما يطلق عليه بـ"حوار درجة الصفر" الذي عطل منطق التلاقي وتبادل الأفكار وتغذية لغة الحوار الذي يتقدم بالفرد والمجتمع والسلطة على حد سواء.. وفي المقابل، انتشرت ظاهرة "الانقضاض" والمقصود به "اختلال في مبدأ الإيقاع الطبيعي للتعاون بين المحاورين" وهي ميزة من ميزات أحادية الفكر والانغلاق والاعتقاد في امتلاك كامل الحقيقة وسواد الكراهية وعدم الامتثال للرأي الأصوب.

اقرأ/ي أيضًا: "الكرونيكور" في تونس.. من يقدم الإثارة أكثر؟

إن ثنائية "التواصل" و"العنف" صارتا متلازمتين في الفضاء الافتراضي والإعلامي، خاصة فيما يتعلق بالمسائل السياسية الخلافية، مما أفرز سلوكيات سلبية تهدد وحدة المجتمع وتنتج خطابًا منغلقًا على ذاته وتكرّس منطق الاشتباكات الكلامية التي تنتج بدورها ثقافة التآمر والحوار "اللاتفاوضي".

ولمزيد تفكيك هذه الظواهر الهجينة المتفاقمة في الآونة الأخيرة اتصل "الترا تونس" بالباحث في علم الاجتماع المجالي (la sociologie spatiale) فوزي الزين الذي حاول إبراز الأسباب الكامنة وراء هذا العنف اللفظي وبيان تجلياته في مجتمعنا والحلول الممكنة للإسراع إلى الحد من وتيرته.

يقول فوزي الزين: "العنف اللفظي المنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المنابر الاعلامية لا يمكن أن نطلق عليه ظاهرة اجتماعية بالمعنى العلمي للكلمة، لأن المظاهر الاجتماعية لها شروطها الموضوعية، بل يمكن القول إنها حالة نفسية اجتماعية ظرفية أو ظاهرة طارئة تزول بزوال أسبابها أو تتقلص، وأسباب هذه الحالة مركّبة ويمكن أن نفسرها بعدة عوامل".

فوزي الزين (باحث في علم الاجتماع المجالي) لـ"الترا تونس": من عوامل العنف اللفظي، الليبرالية الاقتصادية التي تؤدي بالضرورة إلى تقلص الطبقة المتوسطة، فتصبح الدولة متهمة لعدم محافظتها على هذه الطبقة وتتولّد النقمة

ويضيف الباحث فوزي الزين: "من أهم العوامل لهذه الظاهرة الطارئة، العامل الاقتصادي في بلادنا، فمنذ ما يزيد عن العقدين انخرطت تونس في ما يسمى بـ"الليبرالية الاقتصادية"، ومعلوم أن الليبرالية تفرض مفهومًا اجتماعيًا وهو "الفردانية"، والليبرالية الاقتصادية تؤدي بالضرورة إلى تقلص الطبقة المتوسطة وهذا يؤدي إلى ارتفاع منسوب الفقر مما يخلق ردة فعل اجتماعية، فكل عنصر من عناصر المجتمع ينتابه شعور بالخوف من أن يسقط من هذه الطبقة وبالتالي يتولد عنده طموح إما بأن يرتفع أو على الأقل يبقى في الطبقة المتوسطة خوفًا من التدحرج إلى الأسفل، ومن هنا تولدت بمرور الزمن الفردانية. فالإنسان يعمل كل ما بوسعه كي لا يسقط في خانة الفقر ويعوّل على ذاته، أي أن الدولة الراعية تنتفي أو تضيع، وتصبح الدولة متهمة لأنها لم تحافظ على الطبقة المتوسطة، ومن هنا تتولّد النقمة".

اقرأ/ي أيضًا: القدوة الاجتماعية في البرامج التلفزيونية

ويستعين الباحث فوزي الزين بنظرية "التغيرات الحاصلة في تقنيات تأطير المجتمع" التي تحتوي الجانب الثقافي والديني والتقاليد وغير ذلك من المدخلات فيقول: "الخطاب الديني أو العامل الديني عادة ما يكون عامل محافظة على الروابط داخل المجتمع، واليوم، خاصة في العقد الأخير، تفاقمت ظاهرة التحزب الديني وجعلت منه لا يخاطب العقل الجمعي للتونسيين على أساس أن هذه الظاهرة تكرّس الفرقة والانقسام بين أفراد المجتمع، فأصبحنا نطلق تصنيفات دينية مختلفة: إخوانية، سلفية، جهادية، تكفيرية.. فالخطاب المجمّع كان تحت سيطرة الدولة فاندثر. والحقيقة التي كان يمررها رجل الدين أصبحت حقائق دينية وكل فرد يتموقع في التوجه ضمن ما يطلق عليه بـ"المرجع الشخصي الوحيد" وبواسطته تنخرط مطلق الأحكام على كل القضايا والمسائل التي من حوله" وفق وصفه.

ويضيف فوزي الزين: "غير أن المرجع الشخصي والعلاقات التفاعلية بين مكوناته سادته حالة مما نسميه (اللامنطق) وهذا ما أدى إلى التشنج والانفعال المبالغ فيه، وهذا ما يفسر ردود الفعل العنيفة"، مشيرًا إلى أنّ الفردانية اخترقت النشاط والعمل الثقافي مما تسبب في تعدد الخطابات الثقافية فلم يعد خطابًا جامعًا حسب رأيه.

فوزي الزين (باحث في علم الاجتماع المجالي) لـ"الترا تونس": تكنولوجيا الاتصال كرست الانزواء وعدم التواصل مع الآخر الاجتماعي ومزيدًا من تعميق الشعور بالاستهداف والخوف من الآخر.. فأي مخالف يصير معاديًا 

أما عن الشأن السياسي فيقول الباحث فوزي الزين: "تونس عرفت طفرة في التنظيم السياسي وبرزت ظاهرة تعدد الأحزاب التي فاق عددها الـ 200، بما ينبئ عن وجود مائتي فكرة ورأي، ولعل ما شاهدناه في البرلمان يعتبر مشهدًا متكونًا من مجموعة من الأفكار المتناقضة، فالحقيقة أصبحت حقائق، والخطاب السياسي كذلك لم يعد مجمّعًا على غرار الخطاب الديني والثقافي الذي أشرنا إليه، وهذا يعني تمرير الانقسام ومزيدًا من التشتيت، كما شهد المجتمع المدني التونسي في العقد الأخير "الطفرة النقابية" وهذا ما أدى بنا إلى "العصبيات القطاعية" وتحول إلى حرب القطاعات، فالخطاب النقابي العمالي لم يعد كذلك جامعًا بل فئويًا".

ويضيف فوزي الزين: "ومن العوامل الاجتماعية الخطيرة كذلك، تفجير النواة الاجتماعية الأساسية وهي الأسرة، حيث كرست تكنولوجيا الاتصال الانزواء وعدم التواصل مع الآخر الاجتماعي، بل تفضيل ذلك الآخر الافتراضي مما أفقد مهارات التفاوض والإقناع والحوار والتصويب، فكل هذه العوامل أطاحت بالقيم الاجتماعية الجمعية مثل التسامح وكرّست مزيدًا من تعميق الشعور بالاستهداف والشعور بالخوف من الآخر وقلة الثقة في الفرد والمجموعة، فأي مخالف يصير معاديًا وتتحرك غريزة فطرية للدفاع عن النفس، وهنا نجد التجريح والثلب والقدح وتجريم الآخر وتخوينه ونصل إلى درجة التعنيف".

اقرأ/ي أيضًا: المحتوى الإعلامي الموجّه للأطفال.. ماهي الخطوط الحمراء؟

ولاحظ المدرب المختص في السلوك التربوي رضا بن عائشة من جهته، في مقابلة له مع "الترا تونس" أن هناك "مفارقة أو تناقضًا صارخًا بين العنف والتواصل: فالعنف هو كل سلوك (لفظي أو إشاري أو حركي) يستهدف إيذاء الغير أو الذات أو حتى المحيط، فهو سلوك مدمر للمعنف لا يعترف له بقيمة، بينما التواصل هو كل تفاعل (وجداني أو فكري أو جسدي) يشترط الانفتاح على الغير والاعتراف له بالقيمة والإنسانية لتبادل التجارب والإثراء المتبادل".

وأضاف بن عائشة أن "التواصل بما هو تفاعل أفقي مختلف عن الاتصال الذي هو أحادي الجانب -مثل علاقة مذيع التلفزيون بالمشاهد- غير أن التسمية الأنسب للشبكات المعلوماتية هي وسائل الاتصال الاجتماعي لأنها في حالات كثيرة تقيم بيننا علاقات مصطنعة ووقتية وعابرة ومزيفة. لأننا في الحياة يكون تواصلنا وجهًا لوجه (face to face)، بينما في الشبكات نتعامل عن بعد من خلال الشاشة البينية (interface). في الحياة اليومية نتحمل مسؤولية ما نقوله ونعبر عنه ونفعله أمام الآخرين من عائلة وأصدقاء وزملاء وجيران، بينما وراء الشاشة نتخيل أنّ تلك المسؤولية عما نقوله وننشره أقل وضوحًا خاصة إزاء علاقاتنا في الشبكة والتي ليس لها امتداد في الواقع، مما يؤدي إلى بروز مظاهر من العنف الرمزي في مواقع التواصل الاجتماعي في شكل سباب أو وصم الآخرين بصفات سيئة أو ترويج صور مفبركة ومشوهة".

رضا بن عائشة (مدرب مختص في السلوك التربوي) لـ"الترا تونس": الاتصال عن بعد يفسح مجالًا لبروز نوازع عدوانية كامنة في شخصية وجدت في الفضاء الافتراضي مهربًا من الرقابة السياسية والاجتماعية

ويقول بن عائشة: "الاتصال عن بعد يفسح مجالًا لبروز نوازع عدوانية كامنة في شخصية وجدت في الفضاء الافتراضي مهربًا من الرقابة السياسية والاجتماعية. والعلاقة بين عنف الأشخاص في الواقع وعنفهم الرمزي في الشبكات تقوم على تبادل الأدوار، فعنف الواقع كالصراعات السياسية والدينية وحتى الرياضية، يتم تصديره وتأجيجه في الشبكات، والعكس أيضًا إذ تستخدم الشبكات في تحشيد الجماهير في الشارع والتصادم مع الخصوم. وفي حقيقة الأمر الشبكات ليست مسؤولة عن كم العنف المخزون في مختلف مؤسسات المجتمع. ولكن المجتمع أعطى للأفراد قنوات لتصريف ذلك العنف، من بينها صناعة أوقات الفراغ والترفيه والنكتة، لذلك يمكن القول إنه لا يتحول إلى حالة مرضية إلا في بعض الحالات التي تعاني من سوء تكيّف اجتماعي. وأرى أن التعليم والجمعيات يمكنهم الحد من انحرافات العنف في الشبكات عبر تربية الشباب وتدريبهم خاصة على مهارات التواصل والإصغاء والالتزام بأخلاقيات الحوار الشبكي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الترامبية، الماكرونية.. والسعيّدية: الوصفة الدعائية لرؤساء الجيل الرابع

تأثير الجائحة على الصحة النفسية: تطور منسوب العنف المنزلي نحو جرائم أكثر وحشية