19-ديسمبر-2024
اندثار قاعات السينما في تونس

لم يتم الحفاظ على الرصيد الهام من قاعات السينما في تونس مع تتالي العقود الزمنية (صورة توضيحية/ سينما ABC)

 

يصف الكاتب والناقد السينمائي التونسي "الهادي خليل" قاعة السينما بأنها "المنطقة الوحيدة التي تقدم لنا عالمًا جماليًا زاخرًا بأقدار الإنسان وأيامه وأشيائه الأليفة البسيطة والمعقدة، الغامضة والوامضة، إنها المنطقة الحالومية التي تحثنا على دروب النور والانسياب والتدبر والبحث عن الحياة خارج الحياة.. كل ذلك يحدث مع انبعاث أصوات ماكينة بث الأفلام وانفتاح بهرة الصور المتدفقة لتصنع الخيال وتدفع بقلقنا نحو استحداث الأسئلة وتشوّف مسالك التيه والضياع.. قاعة السينما بصمتها المهيب هي منطقة الهروب من الغربة والانفصال والأسى العاطفي والتجدد بعد البكاء في الظلام وغفوة القيلولة.. السينما تعلّة لكل ذلك".

هذا الوصف الرهيب يجعلنا نأسف لضياع قاعات السينما في زحمة السياسي والاجتماعي!

قاعات السينما رافقت رحلة السينما في تونس طيلة قرن من الزمن.. كان في هذا الفن الناشيء بمثابة طفرة العصر، ففي سنة 1908، بعث البرجوازي اليهودي التونسي "ألبير شمانة شيكلي" أول صالة لعرض الأفلام السينمائية حملت اسم "أمنية باتي"، ومنذ ذلك التاريخ تنامى عدد القاعات ليتجاوز 100 قاعة إلى حدود سنة 1956 موزعة على طول البلاد، وتوجد أساسًا بالعاصمة تونس والمدن الكبرى مثل سوسة وبنزرت والكاف وصفاقس وجندوبة.. وأغلبها يندرج ضمن سياسة الترفيه التي أرساها الاستعمار الفرنسي بالتنسيق مع الشركات التجارية الفرنسية التي تقوم بتوزيع الأفلام، وورثت دولة الاستقلال فيما بعد هذا التمشي الثقافي.

تنامى عدد القاعات ليتجاوز 100 قاعة إلى حدود سنة 1956 موزعة على طول البلاد، لكن تقلص العدد إلى 18 قاعة عرض في سنة 2019 في وقت تنامى فيه عدد السكان في تونس

كما كرست هذه القاعات عادات ثقافية جديدة غير معهودة في المجتمع التونسي المختلط ومتعدد الجاليات والذي لم يتجاوز عدد سكانه 5 ملايين نسمة، وذلك إلى جانب عادات قديمة في علاقة بالمسرح والموسيقى (الكافي شانطات)، لكن هذه القاعات -وبالنظر لما يعرض داخلها- سمحت بتثقيف التونسيين عبر رؤى جمالية وفكرية طرحتها محتويات الأشرطة. 

وبعد سنوات قليلة من الاستقلال، تحولت السينما إلى قطاع استراتيجي، فأنشأت تونس سنة 1966 وباقتراح من مثقفيها ونخبها تظاهرة "أيام قرطاج السينمائية"، وهي مهرجان دولي ينهض بالتفكير والجمال وصناعة الذوق الرفيع، وهو المنعرج الذي قطع مع السياسة القديمة والذي أردفته في السنة نفسها، بإنشاء "الشركة التونسية للإنتاج والتعميم السينمائي" المعروفة بـ"الساتباك". ورافق ذلك انبعاث قاعات سينما جديدة تسند تلك الخيارات الثقافية العليا، مع تجهيز جلّ دور الثقافة بآلات بث الأشرطة السينمائية.. فانعكس ذلك انعكاسًا لا مرئيًا على حياة المجتمع في مستوى الوعي بالقضايا السياسية والاجتماعية والفكرية مما ساهم في صناعة الشخصية التونسية على نحو جديد ومختلف يراوح بين الأصالة والمعاصرة.

سينما
اعتبر ملاحظون أنّ تحرك وزارة الثقافة تجاه ملف اندثار قاعات السينما لم يرق إلى مستوى الجهد الإداري الأدنى (صورة توضيحية/ pexels)

 

هذا الرصيد الهام من قاعات السينما، ومع تتالي العقود الزمنية، لم يتم الحفاظ عليه كإرث معماري عريق وثقافي بالمعنى الحضاري والأنثروبولوجي والتاريخي كجزء من ذاكرة الشعب التونسي.. حيث تقلص العدد إلى 18 قاعة عرض في سنة 2019 في وقت تنامى فيه عدد السكان في تونس ليصل إلى 12 مليون نسمة أي بمعدل قاعة لكل من 666 ألف مواطن.

ولعلّ حادثة زوال قاعة سينما "البالماريوم" القديمة والعريقة مع بداية ثمانينات القرن العشرين، شكّل نقطة مفصلية ورمزية، وبداية قاسية لانهيار عقد القاعات أمام سطوة الرأسمالية و"البيترودولار" الذي بدأ يشتغل بقوة في تونس مع نهاية حكم بورقيبة الذي انتهت معه سياسة الدولة الراعية أو الدولة الأم، وفسح المجال لسياسة السوق و"البزنس" الدولي. 

رغم التتويجات العربية والعالمية التي حصدتها السينما التونسية نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، وتلك الأسماء التي صنعت موجة عالية، فإنّ ذلك قابله زوال قاعات أخرى وخصوصًا بالمدن الكبرى والضواحي

وقد هزّت تلك الحادثة أركان المجتمع التونسي وخاصة النخبة التي لاذت برأس السلطة طالبة التدخل فتم إنقاذ معلم "المسرح البلدي" بتدخل عاجل من الرئيس العجوز الحبيب بورقيبة الذي قال إنه لا يعلم بإزالة هذه المعالم التاريخية لصالح شركة كويتية مستثمرة. وزالت "البالماريوم" إلى الأبد وبقي صداها إلى اليوم كشاهد على رأسه نار.

ورغم التتويجات العربية والعالمية التي حصدتها السينما التونسية نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، وتلك الأسماء التي صنعت موجة عالية على غرار المخرجين: النوري بوزيد ومحمود بن محمود والناصر الكتاري ومفيدة التلاتلي وفريد بوغدير وكلثوم برناز.. فإنّ ذلك قابله زوال قاعات أخرى وخصوصًا بالمدن الكبرى والضواحي، وأعطاب لماكينات بث الأفلام بدور الثقافة ودخلنا "زمن غياب القاعات".

 

السينما في تونس
لا بدّ للدولة التونسية أن تستعجل نفض الغبار على ملف اندثار قاعات السينما (صورة توضيحية/ pexels)

 

فقاعة السينما تمرّ بمرحلة عجز مالي ثم تغلق وقتيًا مضطرّة، فتتغيّر ملامحها مع مرور السنوات فتنطفئ أنوارها وتتغيّر ألوانها فيتأكد الخسران، فتدخل إلى مراحل النسيان، وفجأة تتحول إلى محل تجاري لبيع الملابس أو الحلويات أو الأحذية.. هكذا خسرت السينما التونسية أمكنة العرض فغابت قاعات مثل: "الشانزليزيه" و"الكابيتول" وأستوديو 38 و"سيني سوار" و"سيني موند" و"كليبار" بحي "لافيات" وسينما "لوديون" بالمدينة العتيقة و"سيني فوكس" بضاحية باردو بالعاصمة و"الباريزيانا" بقابس و"سيرتا" بالكاف وقاعة الأطلس بمدينة صفاقس وقاعتا "فوكس" والنجمة بمدينة سوسة وقاعة الصحراء في مدينة توزر.. وهي قاعات تروي جزءًا من الذاكرة الثقافية التونسية فتحولت إلى محلات طامسة للتاريخ.

عملية انهيار القاعات تلك والتي أدت إلى زوالها التام، سواء تغيير شكلها المعماري أو تحوير الصبغة، لم ترافقها عمليات إنقاذ واضحة رغم تعالي صيحات الفزع من قبل المهنيين وصناع السينما والمثقفين بشكل عام والذين طالبوا الدولة التونسية ممثلة في وزارة الشؤون الثقافية بوضع خطة عاجلة من أجل إنقاذ رصيد القاعات.. لكن ذلك قوبل ببرود سياسي وجحود إداري وقانوني من قبل الدولة التونسية. واعتبر الملاحظون أنّ تحرك وزارة الثقافة تجاه هذا الملف لم يرق إلى مستوى الجهد الإداري الأدنى.

لم يسعَ أغلب وزراء الثقافة لفتح ملف اندثار قاعات السينما في تونس، فراوح مكانه حتى في فترة الثورة التونسية، وسط وعود بالدعم والتعديل القانوني لأصحاب القاعات المتبقية

ملف اندثار قاعات السينما في تونس راوح مكانه حتى في فترة الثورة التونسية فأغلب وزراء الثقافة لم يسعوا لفتحه، في حين بقي أصحاب القاعات المتواصلة في حالة من الإعياء جرّاء الوعود بالدعم والتعديل القانوني في اتجاه الحسم والمحافظة على الرصيد المتبقي والذي لا يتجاوز 20 قاعة حسب معهد الإحصاء الوطني. كما تم التعويل على البدائل التي قدمتها مدينة الثقافة الشاذلي القليبي التي تحتوي ستّ قاعات كبرى منها ما هو مخصص للسينما على غرار قاعة عمر الخليفي وقاعة صوفي القلي.

إن اندثار قاعات السينما في تونس هو بمثابة الخسارة الثقافية على مستويين: على مستوى الذاكرة الوطنية، فأغلب القاعات كانت شاهدة على أحداث ومرور نجوم ومثقفين ومفكرين وسياسيين.. وعرفت بث أفلام محلية وعربية وإفريقية وعالمية هامة.. وعلى المستوى النفسي الاجتماعي يمكن اعتبار نهاية قاعات السينما في تونس بمثابة فك الارتباط الاجتماعي الثقافي والذهاب مهرولين إلى الفردانية بالمعنى السوسيولوجي، في ظل سطوة المنصات التي تبث الأفلام السينمائية بمقابل مادي. وعليه لا بدّ للدولة التونسية أن تستعجل نفض الغبار على ملف اندثار قاعات السينما.