لم تكن سنة 2024 بالسنة العادية على مستوى المشهد السياسي التونسي الذي عرف مرحلة دقيقة ومفصلية، سواءً بالنسبة للأحزاب والمكونات السياسية أو للساحة ككلّ، تمثّلت في الانتخابات الرئاسية التي لئن لم تضفِ تغييرًا على أعلى هرم السلطة فإنها مثّلت المحطة التي قلبت المشهد وخلقت ركودًا غير مسبوق في تاريخ تونس ما بعد الثورة.
لم تكن سنة 2024 بالسنة العادية على مستوى المشهد السياسي الذي عرف مرحلة دقيقة ومفصلية، تمثّلت في الانتخابات الرئاسية التي لئن لم تضفِ تغييرًا على أعلى هرم السلطة فإنها مثّلت المحطة التي قلبت المشهد وخلقت ركودًا غير مسبوق في تاريخ تونس ما بعد الثورة
في الواقع، وإن لم يكن منتظرًا جدًا أن تأتي الانتخابات الرئاسية بغير النتيجة التي أفضت إليها، فإنّ بصيص أملٍ في التغيير تراءى لعدة مكونات في المشهد السياسي ما دفعها لخوض غمار التجربة، أو أقلّه، لدعم طرفٍ أو آخر في دخول منافسة صعبة في مواجهة الرئيس قيس سعيّد الذي ترجح الكفة لصالحه على مختلف الأصعدة.
الرغبة في التغيير والأمل في مخرجاتٍ قد تُغيّر واقعَ الانغلاقِ والتفرّدِ بالسلطة، خلقا حركيةً سياسيةً نشطةً قبل موعد الانتخابات، سرعان ما انطفأت شعلتها عقب الإعلان عن نتائجها، غير المستبعدة أساسًا في ظل ما شاب العملية الانتخابية ككلّ من أحداث -سنعددها لاحقًا-، وهو ما أدخل الأحزاب والمكونات السياسية في تونس في حالة أشبه بالصدمة والخمول المبهم، الأمر الذي طرح عدة تساؤلات عمّا إذا كان ذلك مؤشر على طيّ صفحة الحركية السياسية، وربما حتى التعددية الحزبية في تونس، في ظلّ الركود السياسي غير المسبوق ما بعد ثورة الحرية والكرامة.
الرغبة في التغيير والأمل في مخرجاتٍ قد تُغيّر الواقع، خلقا حركيةً سياسيةً نشطةً قبل موعد الانتخابات، سرعان ما انطفأت شعلتها عقب الإعلان عن نتائجها إذ دخلت الأحزاب والمكونات السياسية في حالة أشبه بالصدمة والخمول
في التقرير التالي، نرصد لكم حصاد نشاط الأحزاب السياسية في تونس سنة 2024، من الأمل في التغيير إلى حالة الصدمة والركود:
-
بين الأمل والانقسام
مع بداية عام 2024، علّقت عدة أحزاب ومكونات سياسية في تونس الأمل على الانتخابات الرئاسية لتجاوز الأزمات التي عصفت بالبلاد خلال السنوات الأخيرة. إلا أن الانقسامات صلب المعارضة التونسية من جهة، وقبوع قيادات الصف الأول منها في السجون من جهة ثانية، أفرغت الساحة وعرقلت فرصة بروز بدائل حقيقية تُلبي طموحات الشعب وتقدّم منافسًا حقيقيًا على السلطة.
ولئن خيّرت أحزاب وشخصيات سياسية معارضة التنحّي جانبًا والدعوة لمقاطعة الانتخابات الرئاسية بناءً على فكرة أنّ "ما بُنيَ على باطل فهو باطل" وأنّها لا تعدو أن تكون "مسرحية انتخابية"، فإنّ عددًا من السياسيين لم يترددوا في إعلان نيتهم خوض غمار المنافسة، ولو أنهم اعتبروها "غير نزيهة" في ظل ما شابها من "تجاوزات"، وفق تقديرهم.
نيّة عدة سياسيين، ومن بينهم من هم مودعون في السجن، الترشح للانتخابات، كانت الغاية الأبرز منها فضح ما اعتبروها "تنافسية صورية" في الانتخابات.
الانقسامات صلب المعارضة التونسية من جهة، وقبوع قيادات الصف الأول منها في السجون من جهة ثانية، أفرغت الساحة وعرقلت فرصة بروز بدائل حقيقية تُلبي طموحات الشعب وتقدّم منافسًا حقيقيًا على السلطة
وأبدى كل من المعارضين لطفي المرايحي وغازي الشواشي وعبير موسي، المسجونين أو الموقوفين على ذمّة قضايا جارية، نيتهم في الترشح للانتخابات الرئاسية، وبالفعل مضوا قدمًا في تقديم ملفات ترشحهم، إلا أنه قد حالت تعقيدات إدارية دون تمكنهم من استكمال ملفاتهم، تعقيدات اعتبرتها أحزاب ونشطاء سياسيون تجاوزات لإقصاء مترشحين جديين للرئاسيات.
ولا يختلف الوضع كثيرًا بالنسبة لكلّ من عبد اللطيف المكي وعماد الدائمي ومنذر الزنايدي، الذين رفضت هيئة الانتخابات مطالب ترشحهم، لكن الجلسة العامة للمحكمة الإدارية قضت، في أحكام باتّة ونهائية، بإعادتهم للسباق الانتخابي وهو ما لم يُنفذ.
وسرعان ما كان ذلك دافعًا لمجموعة من النواب لتقديم مشروع قانون مستعجل لتعديل القانون الانتخابي قبل أيام قليلة من يوم الاقتراع، لتفادي أي فرضية بإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية من قبل المحكمة الإدارية، لِما شابها من "إخلالات" وفق مراقبين. وهو ما حصل بالفعل، على عجل، إذ تمت المصادقة على مشروع التعديل القانوني، قبل أسبوع واحد من يوم الاقتراع، تم بمقتضاه إلغاء صلاحيات التقاضي الانتخابي من المحكمة الإداريّة وإسنادها إلى محكمة الاستئناف. الأمر الذي قطع الطريق أمام كلّ الترشحات الجدّية وأفرغ بذلك المحطة الانتخابيّة من الحدّ الأدنى من التنافسية والنزاهة المطلوبتين، حسب ما قدّرته مكونات سياسية ومنظمات تعنى بملاحظة الشأن الانتخابي.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل إنه تمت أيضًا إثارة تتبعات قضائية ضد المترشح العياشي زمال، وصدرت في حقه عدة أحكام سجنية، وتمّ بالفعل إيقافه خلال الفترة الانتخابية.
منع عدد من المترشحين البارزين من الترشح، وفتح تحقيقات قضائية ضد آخرين، وصولًا إلى توقيف بعضهم بتهم، جميعها دفعت بالأحزاب للتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية ودعتها للتنديد بما اعتبرته تضييقًا على التنافس الديمقراطي والتظاهر
منع عدد من المترشحين البارزين من الترشح، وفتح تحقيقات قضائية ضد آخرين، وصولًا إلى توقيف بعضهم بتهم أثارت جدلًا واسعًا، جميعها دفعت بالأحزاب للتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية ودعتها إلى التنديد بما اعتبرته تضييقًا على التنافس الديمقراطي، فكان منها أن نظمت تحركات احتجاجية، منها وقفة أمام البرلمان تزامنًا مع جلسة المصادقة على تعديل القانون لانتخابي ومسيرة شعبية جابت شوارع العاصمة قبل التعديل، كما أصدرت بيانات تنديد واستنكار وعدم اعتراف مسبق بنتائج الانتخابات، التي تدعم يقينهم بأنها "مسرحية شكلية" حسب تصورهم.
في نهاية المطاف، جميع العوامل التي طوّقت العملية الانتخابية ساهمت، بالإضافة إلى عوامل أخرى، في إمالة الكفّة لصالح المترشح قيس سعيّد، الذي فاز في الأخير بنسبة 90.69%، علمًا وأن نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية بلغت 28.8%.
-
الانتخابات الرئاسية وتأثيرها على المشهد السياسي
بعد غلق قوس الانتخابات الرئاسية التي انتظمت في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وتجديد ولاية قيس سعيّد لـ5 سنوات جديدة، دخلت الأحزاب السياسية بالبلاد في مرحلة أشبه بـ"الصدمة"، وشهدت نقلة غير مسبوقة نحو الركود، فقد تراجع النشاط الحزبي بشكل ملحوظ، وبدت الأحزاب وكأنّها عاجزة عن التفاعل مع الأمر الواقع الذي فرضته نتائج الانتخابات.
بعد غلق قوس الانتخابات الرئاسيةوتجديد ولاية قيس سعيّد لـ5 سنوات جديدة دخلت الأحزاب في مرحلة أشبه بـ"الصدمة" والركود غير المسبوق الذي عكس حالة من الإحباط وأضعف دورها كلاعب رئيسي في مواجهة التحديات المتزايدة
واختفى الخطاب الحماسي وحل محله نوع من الاستسلام، حيث بدت الأحزاب مترددة في إعادة تنظيم صفوفها أو تقديم بدائل حقيقية للمرحلة المقبلة. كما اختفت البيانات التي دأبت الأحزاب، خاصة أحزاب الصف الأول في المعارضة، على إصدارها تفاعلًا مع كلّ حدثٍ أو مستجدٍ على الساحة، ناهيك عن غياب التحركات الاحتجاجية في الشوارع.
هذا الركود السياسي، غير المسبوق في تاريخ تونس ما بعد الثورة، عكس حالة من الإحباط العام داخل المشهد الحزبي، وأضعف دورها كلاعب رئيسي في مواجهة التحديات المتزايدة.
اختفى الخطاب الحماسي وحل محله نوع من الاستسلام، حيث بدت الأحزاب مترددة في إعادة تنظيم صفوفها أو تقديم بدائل حقيقية للمرحلة المقبلة
-
أفق مبهمة
يمكن اعتبار سنة 2024 مرحلة صدمة للأحزاب السياسية في تونس. فقد كشفت عن هشاشة المشهد الحزبي الحالي وعزّزت الضرورة الملحّة، ربّما، لإعادة هيكلة الأحزاب ومراجعة خططها، حتى تكون أكثر تفاعلًا مع مطالب الشارع وأكثر قدرة على تقديم حلول واقعية.
يمكن اعتبار سنة 2024 مرحلة صدمة للأحزاب السياسية في تونس فقد كشفت عن هشاشة المشهد الحزبي الحالي وهو ما يحيل إلى أنّ الأحزاب السياسية اليوم أمام اختبار حقيقي لإثبات جدواها في المشهد العام
إن الحصاد السياسي لسنة 2024 في تونس يُظهر أن الديمقراطية الوليدة بالبلاد، لا تزال تواجه تحديات كبيرة. ورغم الصعوبات والتحديات الجسيمة، فإن التمسك بالمبادئ الديمقراطية والبحث عن حلول بديلة حقيقية، يمثلان ربما الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار وإضفاء فرقٍ ما. وهو ما يحيل إلى أنّ الأحزاب السياسية اليوم أمام اختبار حقيقي لإثبات جدواها في المشهد العام.