26-ديسمبر-2024
البذور الأصلية العمارة التقليدية التغيرات المناخية تونس

من المعمار إلى الزراعة، تتمتع تونس بممارسات تقليدية عريقة أثبتت فاعليتها في التصدّي لمختلف التحديات البيئية التي واجهتها البلاد عبر تاريخها

 

في منطقة وادي الخيل بأقصى الجنوب التونسي، حوّل رضوان التيس ثلاثة هكتارات ورثها عن والده إلى إقامة جبليّة إيكولوجيّة فريدة تحيط بها مزرعة خضراوات لا مكان فيها سوى للبذور المحليّة الأصيلة.

ورغم أنّ المنطقة تتميّز بطقس قائظ صيفًا وشديد البرودة شتاءً، أبرز رضوان التيس في حديثه لـ"الترا تونس" أن نزله صديق للبيئة و ولا يتطلب تدفئة مركزية أو تبريدًا لتوفير مناخ ملائم لزواره.

وبسبب ندرة عمال البناء الملمّين بطرق البناء التقليدية، اضطر رائد الأعمال، البالغ من العمر 56 عامًا، للاستعانة بعدد من عمال البناء المخضرمين وتوظيف مشرفٍ على الأشغال في عقده الثامن لإنشاء إقامته المقبّبة من الجبس على الطراز الأمازيغي.

مع هيمنة نمط البناء الغربي الذي لا يتناسب مع المناخ القاسي لجنوب تونس، كشف أسلوب بناء المنازل الأمازيغية قدرة السكان القدامى على ترك إرث عمراني مستدام يمنع تسرب الحرارة في الشتاء ويحافظ على برودة الداخل في الصيف

ومع هيمنة نمط البناء الغربي الذي لا يتناسب مع المناخ القاسي لجنوب تونس، كشف أسلوب بناء المنازل الأمازيغية الذي اعتمده رضوان على قدرة السكان القدامى على ترك إرث عمراني مستدام.

 

صورة
حوّل رضوان التيس ثلاثة هكتارات ورثها عن والده إلى إقامة جبليّة إيكولوجيّة فريدة

 

وأكدت المُخططة العمرانية تسنيم العربي أنّ عدة عوامل معمارية وبيئية قد تظافرت لجعل البناءات الأمازيغية في جنوب تونس باردة صيفًا ودافئة شتاءً.

وأوضحت تسنيم العربي، في تصريح لـ"الترا تونس"، أنّ السكان المحليين استخدموا الطين والحجر والجبس لبناء مساكنهم، وهي مواد طبيعية تتميز بخصائص عزل حراري جيدة لأنها تمنع تسرب الحرارة في الشتاء وتحافظ على برودة الداخل في الصيف.

تسنيم العربي (مخططة عمرانية) لـ"الترا تونس": السكان المحليون للجنوب استخدموا الطين والحجر والجبس لبناء مساكنهم، وهي مواد طبيعية تتميز بخصائص عزل حراري جيدة لأنها تمنع تسرب الحرارة في الشتاء وتحافظ على برودة الداخل في الصيف

وأضافت المخططة العمرانية أن السكان تكيفوا مع عيشهم في مناطق ذات مناخ قاري، حيث تكون درجات الحرارة متباينة بين الصيف والشتاء. لذا، ركزوا في تصميمهم على الاستفادة من هذه الفروقات من خلال بناء جدرانها سميكة، مما يساعد في عزل الحرارة.

 

صورة
تكيف سكان الجنوب مع مع عيشهم في مناطق ذات مناخ قاري حيث تكون درجات الحرارة متباينة بين الصيف والشتاء

 

  • موروث عمراني مهدد بالاندثار

منذ حوالي ألف عام، بنى أمازيغ تونس منازلهم على قمم الجبال لتخزين مؤنهم وتحصينها من الغزاة، كما حفروا في الأرض كهوفًا مخفية ذات تصميم بديع ومختلف مقارنة بالصورة النمطية للعمارة التونسية ذات المنازل البيضاء والأبواب والنوافذ الزرقاء المنتشرة في المدن الساحلية.

لكن هذه المباني الحجرية القديمة المنتشرة في عدة قرى أمازيغية مثل شننّي والدويرات أضحت خالية من سكانها، باستثناء أعداد قليلة رمّمها أصحابها وحوّلوها إلى مشاريع سياحية صغرى.

منذ حوالي ألف عام، بنى أمازيغ تونس منازلهم على قمم الجبال لتخزين مؤنهم وتحصينها من الغزاة، كما حفروا في الأرض كهوفًا مخفية ذات تصميم بديع ومختلف مقارنة بالصورة النمطية للعمارة التونسية

وغادرت العديد من العائلات الأمازيغية المنازل تحت الأرض عندما تم بناء المدن والقرى الجديدة خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين كجزء من حملة التحديث التي قادها آنذاك الرئيس الحبيب بورقيبة (1957-1987).

وتبدي الشابة نورس مازيغ أسفها لأنّ الكهف الذي أنشأه أجدادها بمنطقة بئر ثلاثين (ولاية تطاوين) أصبح مهجورًا أسوة بالكهوف الأخرى في المنطقة.

ولفتت نورس، في حديثها لـ"الترا تونس"، إلى أن قدرة المسكن على  تأمين درجة حرارة معتدلة بمختلف الفصول "أمر مثير للإعجاب ودليل على ذكاء الأسلاف وقدرتهم على تطويع الطبيعة".

 

صورة
المنازل القديمة لها قدرة على تأمين درجة حرارة معتدلة بمختلف الفصول

 

وإثر الاستقلال، اعتبرت الحكومة التونسية أن المنازل الأمازيغية  المنتشرة في شمال البلاد (كسرى وتكرونة) وجنوبها (مطماطة وشننّي والدويرات) عبءٌ كبير لأنّ إيصال الماء والكهرباء للمرتفعات مكلف ماديًّا ومعقّد تقنيًّا.

وشجعت الدولة السكان على الإقامة في مدن مبنية بالإسمنت والآجر بمناطق سهلية بتلك القرى وأصبحت  الكهوف والقصور المهيبة مجرد ديكور يجذب السياح الراغبين في التقاط الصور في عدد من الأماكن التي شهدت تصوير مشاهد  سينمائيّة.

الباحث في الأنثروبولوجيا مبروك الأزعر لـ"الترا تونس": موجة "التحديث" التي عرفتها تونس بعد الاستقلال لم تسعَ إلى توظيف أفضل الممارسات في مجال البناء وأفرزت نمطًا عمرانيًا هجينًا لا يتناسب مع خصوصية شمال إفريقيا

وعلى سبيل المثال، أضحت منطقتا مطماطة (ولاية قابس) وقصر الحدادة (ولاية تطاوين) اللتان احتضنتا تصوير مشاهد من سلسلة حرب النجوم للمخرج الأمريكي  جورج لوكاس مزارًا لمحبي الفن السابع.

وشدّد الباحث في الأنثروبولوجيا مبروك الأزعر على أن البناءات الحديثة لم تراعِ خصوصية المنطقة وثقافة سكانها الذين أسّسوا نموذجًا عمرانيًا مميزًا لم يقع تثمينه.

وأضاف مبروك الأزعر في حديثه لـ"الترا تونس" أنّ موجة "التحديث" التي عرفتها تونس بعد الاستقلال لم تسعَ إلى توظيف أفضل الممارسات في مجال البناء وأفرزت نمطًا عمرانيًا هجينًا لا يتناسب مع خصوصية شمال إفريقيا".

 

صورة
المباني الحجرية القديمة أضحت خالية من سكانها، باستثناء أعداد قليلة رُممت وتحولت إلى مشاريع سياحية

 

  • الجسور والمواجل لتخزين المياه وتوظيفها

ابتكر سكان جنوب تونس عدة تقنيات لاستغلال كميات الأمطار الشحيحة التي تهطل على المنطقة والاستفادة منها إلى أقصى حد. وأشارت تقارير حكومية إلى أن مناطق الجنوب الشرقي التونسي ذات المناخ الصحراوي الجافّ هي الأكثر تأثّرًا بتغيّر المناخ حيث لا يتجاوز معدل تساقطاتها عتبة الـ200 مم سنويًا.

وأنشأ مزارعو هذه المناطق  تقنية الجسور، وهي عملية  بناء حواجز ترابية عالية أسفل الجبال والهضاب لحجز مياه الأمطار النازلة من القمم بعد جريانها على سفوح هذه المرتفعات. وتبقى هذه المياه محصورةً داخل الجسر ليستفيد منها المزارعون المحلّيون في سقي بعض زراعاتهم العائلية مثل الزيتون والنخيل، وهو ما يعكس تناغمًا مع تضاريس المنطقة للحد من تداعيات تغير المناخ على سبل عيش السكّان.

ابتكر سكان الجنوب عدة تقنيات لاستغلال مياه الأمطار الشحيحة من بينها تقنية الجسور، وهي عملية بناء حواجز ترابية أسفل الجبال لحجز مياه الأمطار النازلة من القمم بعد جريانها على السفوح وتبقى هذه المياه محصورةً داخل الجسر ليستفيد منها المزارعون

وأكد المهندس المعماري والباحث في شؤون العمران عمر ونس أنّ تقنية "الجسور" منتشرة على نطاق واسع في منطقة الظاهر الممتدة من مطماطة إلى تطاوين مرورًا بولايتي مدنين وقابس، جنوب شرق تونس.

 

 

وبالإضافة إلى الزراعة، بنى سكان جنوب تونس المواجل  (مفردها "ماجل") وهي خزانات للمياه يتم تشييدها بحفر "بئر منزلي" بعمق بضعة أمتار لتجميع مياه الأمطار من خلال أسطح المنازل واستعمالها للشرب والطبخ وسقي الحيوانات.

ورغم أن عملية بناء المواجل خفت بريقها خلال العقود الماضية بسبب تغيّر النمط المعماري في تونس، أعاد تفاقم أزمة المياه الاعتبار لهذا الحل التقليدي الذي لطالما ساعد العائلات التونسية على تأمين حاجياتها من المياه.

 

صورة
أعاد تفاقم أزمة المياه الاعتبار لبناء المواجل كحلّ لتأمين الحاجيات من المياه

 

بذور محلية متأقلمة مع تغيّر المناخ

إلى جانب أسلوب البناء وترشيد استغلال المياه، يستعمل مزارعو تونس بذورًا أصلية لمواجهة زحف البذور المهجنة التي اكتسحت سوق البذور.

وكشف الكاتب العام للجمعية التونسية للزراعة المستدامة رضوان التيس أنّه يخصّص معظم أوقات فراغه للزراعة وتشجيع المزارعين على التخلّي عن البذور الأجنبيّة التي اجتاحت البلاد وجعلت البذور التونسيّة مهدّدة بالاضمحلال.

الكاتب العام للجمعية التونسية للزراعة المستدامة رضوان التيس لـ"الترا تونس: "

"بذورنا المحليّة ممتازة وتتأقلم بشكل فعّال مع مناخنا القاسي.. للأسف، الفلاحون المحليون يكتشفون بشكل متأخر أن البذور المهجنة تمنح تحسنًا وقتيًا في المحصول مقابل أضرار جسيمة للتربة وهو ما يهدّد خصوبتها

ويقود رضوان جهودًا حثيثة لدعم انتشار البذور المحليّة التي تواجه بذورًا معدلّة تغري الفلاحين بمحاصيل وفيرة.

 

صورة
البذور التونسية الأصلية تتأقلم بشكل فعّال مع مناخ تونس القاسي (صورة تعبيرية)

 

والبذور المحلية أو الأصيلة، هي تلك التي لم تطرأ عليها عمليات صناعية عميقة تغيّر من خصائصها الجينية من أجل غايات تجارية تبادلية بحتة. وتتميز هذه البذور بتأقلمها التاريخي مع العناصر الطبيعية والمناخية للبيئة التي نشأت واستمرت فيها لفترة طويلة. هذا التأقلم يجعلها أقل عرضةً للأمراض ومخاطر التقلبات الجوية، كما أنها تحافظ على خصوبتها جيلاً بعد جيل. 

وتوجد في تونس العديد من الأصناف الأصيلة خصوصًا في الحبوب على غرار "المحمودي" و"جناح خطيفة" وغيرهما.

من المعمار إلى الزراعة، تتمتع تونس بممارسات تقليدية عريقة أثبتت فاعليتها في التصدّي لمختلف التحديات البيئية التي واجهتها البلاد عبر تاريخها. لهذا السبب، تبدو العودة إلى الجذور حلًا منطقيًا ومستدامًا في مواجهة الأزمات المناخية الراهنة

أما البذور الهجينة، فهي تلك التي نتجت عن تقاطع  نوعين أو أكثر من البذور من أجل تقديم أفضل الخصائص بينها. ولا يأتي هذا التلاعب الجيني من دون عواقب، فعملية التهجين تنتج جيلاً غير قادر على التكاثر، كما أنه يكون حساسًا جدًا للتقلبات الجوية وتضعف مقاومته للأمراض. لذا، فإن هذه البذور الهجينة تأتي دائماً مصحوبةً بترسانة من المواد الكيميائية الحمائية كالأدوية والأسمدة.

وبدأ زحف البذور الهجينة إلى تونس في ستينيات القرن الماضي من خلال برنامج الأغذية العالمي الذي قام بتوزيعها على المزارعين التونسيين بدعوى أنها ذات مردودية أفضل. وأدّت هذه الخطوة إلى انحسار المساحات المزروعة بالبذور التونسية وتهديد السيادة الغذائية في البلاد.

من المعمار إلى الزراعة، تتمتع تونس بممارسات تقليدية عريقة أثبتت فاعليتها في التصدّي لمختلف التحديات البيئية التي واجهتها البلاد عبر تاريخها. لهذا السبب، تبدو العودة إلى الجذور حلًا منطقيًا ومستدامًا لتعزيز الأمن الغذائي ومواجهة الأزمات المناخية الراهنة.


صورة