03-مارس-2022

سفيان موسى لـ"الترا تونس": فسيفساء منزل سوروثون تكشف عن مدى ثراء هذا الشخص

 

حين تتجول في محيط منازل أثرياء روما في مناطق عديدة من مدينة سوسة، تشتم رائحة "هدريمتم"، تلك الحضارة الغابرة التي حملت معها الرّقي الثقافي والازدهار الحضاري.. كانت منازل أقوام فغيّرها مُرّ الليالي.

كنا تحدثنا عن أسرار الموتى ورحلة البحث عن الراعي الطيّب في دواميس سوسة، وروينا لكم قصة دار الأقنعة وثقافة المسرح عند الأغنياء، وأبحرنا في أعماق البحر باحثين عن بقايا الميناء البوني القديم.

منزل سوروثون يُنسب إلى صاحبه الثري "سوروثون"، يوجد اليوم في موقع قريب من أسوار المدينة العتيقة من جهة "الباب الغربي" خلف الثكنة العسكرية

 منزل "سوروثون" وعالم البرية في هدريمتم

اليوم وقفنا عند "منزل سوروثون" (maison sorothon) الذي صار أثرًا من ماضي القرن الثاني ميلادي، وامّحى من وجه الأرض بعد أن كشف عن أسراره أول مرة سنة 1886، تاريخ الحفريات التي نفذتها الفرقة الرابعة للجندية الفرنسية بسوسة تحت إشراف الملازم ميرلان.

هذا المنزل الذي ينسب إلى صاحبه الثري "سوروثون"، يوجد الآن في موقع قريب من أسوار المدينة العتيقة من جهة "الباب الغربي" خلف الثكنة العسكرية، وقد تم قبره نهائيًا بعد أن أنشئت فوقه إحدى البنايات الحديثة فطمست معالمه بالكامل.

فسيفساء منزل سوروثون (صورة المعهد الوطني للتراث)

كانت عملية الحفر الأولى في غابة زيتون على عمق متر ونصف لما أبانت الأرض النديّة عن بقايا جدران منزل يكشف تصميمه عن نسبته لأحد أثرياء روما، "ضربات الفأس الأولى أظهرت أرضية فسيفسائية في شكل دائري يتوسطها صورة "فهد" بنيّ ضخم في حركة جميلة ولون مشرق، وبتقدم عملية الحفر والتنقيب، تم الكشف عن أبرز رسومات فسيفسائية في العالم: "الخيول الفائزة "، "نبتون "، الحياة البرية الحيوانية.. وغيرها.

في سنة 1887، تمت إزالة ميدالية "الفهد" ووضعها في القاعة الشرفية في مقر القيادة العسكرية الفرنسية بسوسة داخل الأسوار، وقد ظهرت تلك الفسيفساء ضمن مجموعة من القطع الأثرية التي تزيّن المكان، ثم تم الكشف عن فسيفساء "الخيول الفائزة" فتم نقلها إلى متحف باردو، ونقلت على متن قارب وفق منشورات في المكتبة الوطنية الفرنسية.

اقرأ/ي أيضًا: متحف "القبة" بسوسة.. درّة عمرانية تروي قصة "خديجة السوسية"

ميدالية النمر بقيت على حالها بأعجوبة، بعد أن أصابت قنبلة مقر القيادة العسكرية سنة 1943، وكان أن أرسلت هذه التحفة الأثرية إلى الأميرالية ببنزرت، وعند إخلاء القاعدة من طرف البحرية الفرنسية سنة 1962، تم نقلها خارج تونس في متحف البحرية نابليون بانتيب (فرنسا).

واعتبر الباحث في التاريخ هنري لافاني (henri lavagne) أن "صورة هذا الفهد من أجمل تمثيلات فن الحيوان التي يمكن العثور عليها في فسيفساء تونس الرومانية وذلك لإخلاصها للحركة الطبيعية للحيوان أثناء المشي، والرسم مستوحى من وحش حقيقي على عكس الفهود ذات الفراء النمطي"، خلال دراسة علمية لفسيفساء سوروثون.

القاعة الشرفية لمركز قيادة الفيلق الرابع العسكري بسوسة وتظهر صورة الفهد ومعلقة الخيول (الأرشيف الوطني الفرنسي)

كما يروي لنا الباحث في التاريخ هنري لافاني، أن "شظايا" القطع الفسيفسائية التي تضررت إبان القصف، تم نقلها إلى متحف باردو وطواها النسيان بعد استقلال تونس، ولم يتم استصلاح اللوحات من جديد رغم أن القطع المتناثرة محفوظة، وخاصة تلك التي تجسّم الخيول الفائزة.

وكشف منزل سوروثون عن لوحات جميلة لخيول سباق أصيلة، وقد صُممت بأحجار ومكعبات دقيقة بألوان مشرقة زادتها جمالًا، كما نقشت عليها أسماء تلك الخيول (Dominator وAdorandus وCrinitus وFerox وPegasus).

خيول سوروثون (المعهد الوطني للتراث)

ويقول سفيان موسى أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية لـ"الترا تونس"، إن فسيفساء منزل سوروثون تكشف عن ثراء هذا الشخص وامتلاكه لأراض فلاحية شاسعة، كما أنه مربّي خيول بارز، كما تظهره الرسوم وخاصة منها ميدالية "الفهد".

ويذهب سفيان موسى إلى أن "وجود السيرك الروماني في موقع ما نطلق عليه بالحجرة المقلوبة يعدّ دليلًا على دور هذا الثري ومربي الخيول ومروّض الوحوش، في تنشيط هذا الفضاء، فهي علامة الازدهار الذي تشهده هدريمتم على مدى هذه الحقبة خلال القرنين الثاني والثالث هجرية".

صورة الفهد في منزل سوروثون (الأرشيف الوطني الفرنسي)

"دار المقاعد".. فضاء المجتمع المدني في "هدريمتم"

ويستمر النبش في الذاكرة بعد أن لمست في موقع "دار المقاعد" (maison des banquettes) حكاية مجالس قوم آثروا الحوار والنقاش في أمور أمّتهم.. "دار المقاعد" التي تمتد على مساحة شاسعة بين قصر العدالة بسوسة والمركب الثقافي والمعهد النموذجي يحيط بها جدار يحجبها عن الناظرين.

لقد سبقنا القوم بتدبير أمور حكمهم بأن هيئوا فضاءات تجمعهم، فقيل إن أهل الحلّ والعقد عندهم، يجلسون إلى عامّة القوم وتجار المدينة يتباحثون في الثقافة والسياسة والاقتصاد ويجتمع آخرون للهو والمرح والتلذذ بطيب الحياة.

دار المقاعد بسوسة (مارتين غاسق)

كانت "المقاعد" في هذه الدار علامة الاجتماع، وكانت الحفريات التي أنجزت سنة 1968 قد كشفت عن عدد كبير من الحجرات تتوسطها ساحة وقد ازدانت الأرضية برسوم متنوعة من الفسيفساء واتخذت أشكالًا وألوانًا مختلفة لا يزال بريقها لماعًا إلى اليوم.

ورغم حداثة اكتشاف "دار المقاعد"، فإن جزءًا كبيرًا منها لم يتم بعد إنهاء الحفريات اللازمة لكشف بقية أسراره، وظل طيّ النسيان والتجاهل من مصالح المعهد الوطني للتراث.

سفيان موسى (رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب بسوسة) لـ"الترا تونس": يجب تثمين موقع "دار المقاعد" بجعله مفتوحًا للعموم وإدماجه ضمن فضائه العمراني الرحب وإعادة تشييد البناءات على الشاكلة التي شيدت عليها في الأصل

وعن هذا الموقع حدثنا الباحث ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب سوسة سفيان موسى، فقال: "لم تستكمل الحفريات بعد في هذا الموقع، وكان لا بدّ من استحثاث الأشغال واستئنافها من سلطة الإشراف حتى نتمكن من رسم ملامح هذا المعلم بالكامل، وقراءة المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي الذي شهدته تلك الحقبة الزمنية بين القرن الثاني والخامس ميلادي".

كما أشار سفيان موسى إلى ضرورة تقديم برنامج متكامل للموقع "يستوجب حسب اعتقادي تثمين الموقع بجعله مفتوحًا للعموم، وإدماجه ضمن فضائه العمراني الرحب، وذلك بتهيئته ضمن فضاء أخضر وفضاء أثري من جهة، وإعادة تشييد البناءات على الشاكلة التي شيدت عليها في الأصل، وإن استعصى ذلك، فليكن عبر استعمال التشييد العمراني الافتراضي بتقنيات متطورة " وفق قوله.

منزل المقاعد (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

تاريخ الموانئ البحرية في سوسة: أسرار وأسوار

عن أشهر لوحة فسيفساء تونسية.. "فرجليوس" الذي لا ترى وجهه إلاّ في تونس