رأي

ملكيّون أكثر من الملك

16 مارس 2025
البرلمان التونسي مجلس نواب الشعب
"المجلس المفقود" عبارة تعود إلى بداية القرن التّاسع عشر، حين عبّر لويس الثّامن عشر عن ارتياحه للتّأييد المطلق الّذي حصل عليه من الغرفة السّفلى بالبرلمان
بسام بونني
بسام بوننيصحفي وكاتب تونسي

مقال رأي 

لست متأكّدًا من أنّ ترجمة La Chambre Introuvable إلى "المجلس المفقود" دقيقة، لكنّ العبارة تعود إلى بداية القرن التّاسع عشر، حين عبّر لويس الثّامن عشر عن ارتياحه للتّأييد المطلق الّذي حصل عليه من الغرفة السّفلى بالبرلمان. 

كان سياقًا تاريخيًّا مضطربًا في فرنسا عُرف بـ"استعراش آل بوربون". مثّلت تلك المرحلة تراجعًا خطيرًا عن مكاسب الثّورة الفرنسيّة، في استمرار للانزلاق الّذي شهدته البلاد إبّان حكم نابليون قبل أن يتكبّد هزيمته الأخيرة في حرب المئة يوم، عام 1815.

وبالرّغم من انتشاء لويس الثّامن عشر بتأييد الغرفة السُفلى بالبرلمان، فإنّه سرعان ما انتبه إلى مزايدات النوّاب عليه وتجاوزهم لكلّ الحدود الممكنة، إلى درجة أنّ الكاتب، فرانسوا رينيه دي شاتوبريان، أطلق قولته الشّهيرة: "يجب ألّا تكون ملكيًّا أكثر من الملك". 

لست من عشّاق المقارنات، لأسباب عدّة ليس أقلّها اختلاف السّياقات وديناميكيّات الحكم. لكنّ الطّبيعة البشريّة بما فيها من ضعف، من جهة، وشغف، من جهة أخرى، تدفعني، في أحيان كثيرة، إلى الخضوع لهذا المنطق، وإن بحذر شديد.

 أثار عدد من النوّاب موجات استهجان واسعة على خلفية تصريحات صادمة تجاوزوا بها ما يعتبره معارضون خطاب الرئيس العنيف تُجاه خصومه وفي طريقة تعامله مع الشأن العام

ففي غضون أيّام، أثار عدد من النوّاب التّونسيّين موجات استهجان واسعة، على خلفيّة تصريحات صادمة تجاوزوا بها ما يعتبره معارضون خطاب الرّئيس، قيس سعيّد، العنيف تُجاه خصومه وفي طريقة تعامله مع الشّأن العامّ، في المجمل. 

فعضو البرلمان، أحمد السّعيداني، دعا إلى تطبيق حكم الإعدام على السّياسيّين المعتقلين في قضيّة "التآمر". وإذا ما أسقطنا من حساباتنا مدى صواب هذه الدّعوة الّتي تُعدّ تدّخلًا صارخًا في القضاء، على ما يعتري القضيّة أصلًا من شوائب وثغرات فادحة، حسب فريق الدّفاع، فمن الضّروريّ التّذكير بأنّ تونس علّقت فعليًّا تطبيق هذا الحكم منذ عام 1991. وأثار النّاشط السّياسيّ، عزّ الدّين الحزقي، وموقوفون على ذمّة القضيّة دعوى ضدّ النّائب. 

وللسّعيداني تصريح مماثل، يعود للصّيف الماضي، مفاده أنّه "ليس إنجازًا أن نضع راشد الغنّوشي في السّجن، لأنّه كان من المفروض إعدامه منذ عام 1981، كما أنّ العشرات الّذين يقبعون في السّجون، مكانهم الحقيقيّ السّجون والمقابر".

أمّا عضو البرلمان، شفيق الزّعفوري، فقد طالب وزارة الدّاخليّة، خلال تدخّل له تطرّق فيه إلى تنامي ظاهرة السّرقات بالمزارع، بتسهيل حصول الفلّاحين على رخص بنادق صيد، معتبرًا أنّهم "هم – ويقصد الفلّاحين - من سيدافعون عن الأرض والوطن زمن الاستعمار"، بل وأضاف: "لا تخشوا الفلّاحين فهم من يدافعون عن الوطن". وأنا متأكّد من أنّ الزّعفوري يجهل إحدى الميزات الّتي تحتفظ بها تونس، منذ عقود طويلة، وهي خلّوها من السّلاح في صفوف مواطنيها، مقارنة بمعظم دول المنطقة.

يتندّر قطاع من التّونسيّين بالبرلمان الحالي ويُطلق عليه "مجلس الدّيون"، ففي عام 2023 فقط، صادق النوّاب على أكثر من 4.2 مليار دولار من القروض

وعن تواتر حالات قتل لأطفال، لم تر النّائبة، ريم المعشاوي، من حلّ لوقف النّزيف سوى رجم الجناة حتّى الموت في ميدان عامّ، وكتبت على حسابها الشّخصيّ على موقع فيسبوك تقول إنّه "لا معنى لحقوق الإنسان مع المتجرّد من الإنسانيّة". هكذا بكلّ بساطة وفي عام 2025، تطالعنا المعشاوي بموقف قروسطيّ وحشيّ يسحب من تحت أقدام ما تبقّى من دولة وروح سويّة للتّشريع طابعها الإنسانيّ.

أخيرًا وليس آخرًا، واصلت النّائبة، فاطمة المسدّي، التّحريض على المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصّحراء، بالدّعوة إلى ترحيلهم، معتبرة أنّ "العودة الطّوعية ليست حلًّا مجديًا". وتتبنّى المسدّي مقولات "الاستيطان والتّغيير الديّمغرافيّ للمجتمع التّونسيّ". وزارت النّائبة أحد مخيّمات المهاجرين ببلدة العامرة، بولاية صفاقس، وعلّقت: "ستجدون في مخيّم لأفارقة جنوب الصّحراء مستشفى وقاعات سينما وغيرها"، وهو ما ردّ عليه المتحدّث باسم المنتدى التّونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، رمضان بن عمر، قائلًا: "عندما تعمل الدّولة على عزل مجموعات معيّنة وتقيّد حركتها وتحرمها من العمل والسّكن والتنقّل وتحرمها من مواردها الذّاتيّة، فإنّها بذلك تدفعها لإيجاد آليات وطرق بديلة للنّجاة وللعيش عبر التّنظيم الذّاتيّ".

لا أعتقد أنّ الرّئيس، قيس سعيّد، في أعلى درجات تفاؤله، وعلى غرار لويس الثّامن عشر، كان يُمنّي النّفس بمجلس أكثر تأييدًا من هذا. فحتّى مع إعلان معظم قوى المعارضة مقاطعتها للانتخابات النّيابيّة، الّتي جرت في السّابع عشر من ديسمبر 2022، كانت أكثر التوقّعات تشاؤمًا تُشير إلى إمكانيّة تشكّل "كتلة مشاغبة"، على الأقلّ. لكنّ كلّ ذلك قد يتحوّل إلى كابوس، في لحظة ما. 

ويتندّر قطاع من التّونسيّين بهذا المجلس، ويُطلق عليه "مجلس الدّيون". ففي عام 2023 فقط، صادق النوّاب على أكثر من 4.2 مليار دولار من القروض. ومن المفارقات أنّ النّائب، أحمد السّعيداني، ذكر، في مداخلة له، بداية الشّهر الماضي، أنّ "تونس تنتقل من العقد الأسود إلى العشرينيّة السّوداء"، مؤكّدًا اعتبار "الشّعب التّونسيّ مجلس النوّاب بمثابة الغرفة المسؤولة عن الموافقة على القروض. 

لا أعتقد أنّ الرّئيس في أعلى درجات تفاؤله كان يُمنّي النّفس ببرلمان أكثر تأييدًا من هذا

وفي خضمّ هذا التخبّط لا بأس أن يخرج علينا النّائب، أحمد بنّور، بصيغة جديدة فحواها أنّ "النّواب والرّئيس يعارضون الحكومة"، في تصريح يُحمّل سعيّد، مسؤوليّة ما آلت إليه الأوضاع في البلاد، فالحكومة هو من عيّنها وهو من يستطيع إقالتها.

وعمومًا، وحتّى لا نُحمّل المجلس أكثر ممّا يحتمل، وجب التّذكير بأنّ صلاحياته محدودة للغاية، حتّى أنّه عاجز، إلى غاية كتابة هذه السّطور، عن استئناف جلسة مشروع قانون لتجريم التّطبيع مع الكيان الصّهيونيّ لا تزال معلّقة منذ الثّالث من نوفمبر 2023، ناهيك عن مناقشة تنقيح المرسوم 54 سيّء الذّكر من عدمها. 

ولعلّ في حالات الصّفاء الذّهنيّ يُفلت تصريح من هنا أو من هناك ليعكس بموضوعيّة واقع الأحوال. ولا أرى من توصيف للحالة التّونسيّة الرّاهنة أفضل من ذلك الّذي أطلقه النّائب، أحمد السّعيداني، - وتلك مفارقة أخرى -، حين قال إنّ "البلاد تُبحر بلا بوصلة". 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت" 

 

الكلمات المفتاحية

ملف قيس سعيّد القادم تحت عنوان "الثورة الإدارية"

ملف قيس سعيّد القادم تحت عنوان "الثورة الإدارية"

"الالتقاء بين إرساء حكم فردي رئاسوي انتهى إلى موازين قوى تفرض على الإدارة العودة إلى بيت الطاعة السياسي. الغربلة تتم ببطء لكن بوضوح، البقاء والارتقاء مرتبط بالانخراط في مشروع الرئيس"


في ضرورة تقدير الموقف

في ضرورة تقدير الموقف

لا يمكن التنبّؤ بما ستؤول إليه الأحداث. لكن، من واجب الدّولة أن تحسب ألف حساب للسّيناريوهات كافّة، من الأسوأ إلى السيّئ.


الزميل الناجح عدو محتمل؟ عن الحسد المهني وأثره المدمر

في مكاتب العمل.. حين يتحوّل الزميل إلى خصم صامت!

تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى ظهور مشاعر الحسد والغيرة داخل بيئة العمل، وغالبًا ما ترتبط بعوامل تنظيمية ونفسية وثقافية.


الصامتون أمام الاستبداد في تونس.. فلسطين ليست ممحاة للخذلان

الصامتون أمام الاستبداد في تونس.. فلسطين ليست ممحاة للخذلان

هيئة المحامين بتونس لم تقم بأي خطوات جدّية ومؤثرة لإسناد منظوريها المعتقلين لأسباب سياسية.. ولكن في خضم هذا الخذلان، تجد عميد المحامين يتوجه للاهاي لإيداع شكاية مباشرة لتتبع الكيان الصهيوني من أجل ارتكاب جرائم حرب.

ضريبة وزارة المالية istockphoto
اقتصاد

وزارة المالية تدعو المعنيّين بدفع الضريبة على الثروة العقارية إلى تسوية وضعيتهم

وزارة المالية التونسية تدعو الأشخاص الخاضعين للضريبة على الثروة العقارية إلى تسوية وضعيتهم قبل موفّى شهر جوان 2025..

ملف قيس سعيّد القادم تحت عنوان "الثورة الإدارية"
رأي

ملف قيس سعيّد القادم تحت عنوان "الثورة الإدارية"

"الالتقاء بين إرساء حكم فردي رئاسوي انتهى إلى موازين قوى تفرض على الإدارة العودة إلى بيت الطاعة السياسي. الغربلة تتم ببطء لكن بوضوح، البقاء والارتقاء مرتبط بالانخراط في مشروع الرئيس"


صورة الحماية المدنية في زغوان
مجتمع

حريق في زغوان والحماية المدنية تكشف التفاصيل لـ"الترا تونس"

نشب ظهر الاثنين 23 جوان/يونيو 2025، حريق بمنطقة جرادو من معتمدية الزريبة التابعة لولاية زغوان، في حدود الساعة 13:32، أتى على نحو 5 هكتارات

الترجي تشيلسي.jpg
منوعات

لقاء الترجي وتشيلسي.. الكنزاري يعلّق على غياب البلايلي ويصف المباراة بـ"التاريخية"

لقاء حاسم يوم الأربعاء 25 جوان 2025 بين الترجي التونسي وتشيلسي الإنجليزي للتعرّف على المتأهل إلى الدور الثاني من منافسات كأس العالم للأندية 2025

الأكثر قراءة

1
مجتمع

التلوث يجتاح خليج المنستير والثروة السمكية في خطر


2
سیاسة

جمعية: خيام التركي يتعرض لتعذيب نفسي بإبقاء أنوار غرفته بالسجن مضاءة 24 ساعة


3
مجتمع

منسق عن الأساتذة النواب لـ"الترا تونس": نطالب بتفعيل إدماج ما تبقى من الدفعة الأولى


4
مجتمع

تكاثر الطحالب بخليج المنستير.. استغراب من ردّ وزارة الفلاحة وتحذيرات من التلوّث


5
اقتصاد

مختص في الفلاحة يكشف لـ"الترا تونس" أسباب تراجع عائدات صادرات زيت الزيتون