10-مارس-2020

يُطرح السؤال حول فرص نجاح المسار القضائي في العدالة الانتقالية (صورة توضيحية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

أنهت الحقيقة والكرامة أعمالها لكن مازال مسار العدالة الانتقالية يتحسس طريقه من أجل كشف انتهاكات الماضي ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة ورد الاعتبار للضحايا عبر الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية المنتشرة في 13 محكمة بتونس. وتضمّ هذه الدوائر 91 قاضيًا منهم 13 رئيس دائرة جنائية إلى جانب 52 عضوًا قارًا، وتمّ إلحاق 43 قاضيًا جديدًا بينهم 30 قاضيًا قارًا و13 قاضيًا معوضًا.

تواجه معالجة ملفات العدالة الانتقالية في الدوائر القضائية صعوبات جمّة ما يطرح السؤال حول فرص نجاح المسار القضائي في العدالة الانتقالية

وانطلقت هذه الدوائر في تلقي الملفات من هيئة الحقيقة والكرامة عام 2018 لتنطلق في العمل في نفس السنة بعد تسمية أعضائها، وهو ما تم في مرحلة أولى عام 2015 عبر الهيئة الوقتية للقضاء العدلي ثم في مرحلة موالية في ديسمبر/كانون الأول 2017 عبر مجلس القضاء العدلي، وذلك بألا يكون رئيس المحكمة الابتدائية هو رئيس الدائرة الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية اعتبارًا لأهمية سلطته في إدارة المحكمة ونظرًا لعدم تفرغه ليقع إسناد هذه المسؤولية إلى رئيس الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية.

اقرأ/ي أيضًا: "لا رجوع".. رهان استكمال مسار العدالة الانتقالية

يُذكر أن قانون العدالة الانتقالية في فصله الثامن اشترط تسمية قضاة من بين من لم يشاركوا في محاكمات ذات صبغة سياسية، مع تكوينهم تكوينًا خصوصيًا في مجال العدالة الانتقالية.

وأعلنت هيئة الحقيقة والكرامة قبل إنهاء مهامها إحالتها 69 ملفًّا على الدوائر القضائية المتخصصة موزّعة بين الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وانتهاكات الفساد المالي، غير أن معالجة هذه الملفات لازالت تواجه صعوبات جمّة ما يطرح السؤال حول فرص نجاح المسار القضائي في العدالة الانتقالية.

إحالة ملفات دون متّهمين وغياب مرتكبي الانتهاكات!

يؤكد قضاة ومختصون في العدالة الانتقالية مواجهة الدوائر القضائية لعدّة مشاكل، إذ يحدثنا محمد آزر الزواري، وهو مسؤول الشؤون القانونية بالمركز الدولي للعدالة الانتقالية، أن الدوائر تنظر في ملفات مُحالة من هيئة الحقيقة والكرامة لا تحتوي على قرارات إحالة بمعنى عدم وجود اسم مرتكب الانتهاك رغم وجود ضحية، وهو الأمر الذي يتطلب، وفق تأكيده، التحقيق في تلك الملفات من جديد لأن هيئة الحقيقة والكرامة لم تقم بذلك.

محمد آزر الزواري (المركز الدولي للعدالة الانتقالية): تنظر  الدوائر القضائية في ملفات مُحالة من هيئة الحقيقة والكرامة لا تحتوي على قرارات إحالة بمعنى عدم وجود اسم مرتكب الانتهاك رغم وجود ضحية

بدوره، أشار القاضي محمد العيادي، العضو السابق في هيئة الحقيقة والكرامة وعضو الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، لـ"ألترا تونس" أنّ قانون العدالة الانتقالية مكّن هيئة الحقيقة والكرامة من إحالة ملفاتها مباشرة إلى الطور الحكمي، على اعتبار أن الهيئة تتولى الطور التحقيقي عبر قضاة صلبها، وهو خيار تشريعي جاء بهدف تسريع المعالجة القضائية لملفات العدالة الانتقالية، أي التحقيق في ملفات الانتهاكات الجسيمة وإحالتها على النيابة العمومية بالدوائر المتخصصة التي تحيل بدورها الملفات بصفة مباشرة دون تحقيق إلى الدوائر المعنية.

اقرأ/ي أيضًا: صندوق الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد.. تعثر التفعيل

وهو الأمر الذي يطرح اليوم، وفق تعبيره، مسألة المخرج القانوني الذي يمكن أن تتبعه تلك الدوائر لمعالجة الملفات المفرغة التي تنقصها التحقيقات أو يغيب فيها اسم المتهم وذلك حتى لا تتهم هذه الدوائر بحرمان الضحايا من حقوقهم.

على صعيد آخر، شهدت أغلب المحاكمات التي انطلقت منذ أكثر من سنة ونصف غياب جلّ المتهمين واقتصار الحضور على الضحايا مما يعني غياب مبدأ المواجهة بين الضحية ومرتكب الجريمة، وهو ما يعطل عمل الدوائر القضائية بصفة مستمرّة.

أرقام حول الملفات المُحالة على قضاء العدالة الانتقالية

يذكر أن عدد ملفات القضايا التي نظرت فيها الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بعد مرور سنة على عقد أولى جلساتها في 29 ماي/آيار 2018، 38 قضية من بين 173 ملفًا أحيل على أنظارها من قبل هيئة الحقيقة والكرامة أي بنسبة 20 في المائة وفق ما أوردته منظمة "البوصلة".

وحُدد العدد الجملي للضحايا والمتهمين في هذه القضايا بـ541 ضحية و687 متهمًا، مشيرة المنظمة المذكورة إلى الغياب الكلي للمتهمين ولمحاميهم عن الجلسات في 13 قضية والاقتصار على حضور المحامي في 16 ملف، مقابل حضور متهم على الأقل في 9 قضايا فقط.

وتبين المعطيات التي قدمتها المنظمة أن 25 قضية من بين 38 تم النظر فيها في جلسة ثانية و20 أخرى مرت إلى الجلسة الثالثة، فيما نظرت هذه الدوائر في 15 قضية في جلسة رابعة و5 قضايا في جلسة خامسة.

وفي تصنيف نوعية القضايا المحالة على الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية، يتصدر"اضطهاد الإسلاميين" هذه القضايا بنسبة 42 في المائة، يليها قضايا "ضحايا أحداث الثورة" بنسبة 33 في المائة، ثم القضايا المتعلقة بـ"الحركات الطلابية" بنسبة 8 في المائة، ثم القضايا المتعلقة بـ"اضطهاد اليساريين" و"اضطهاد النقابيين"، وضحايا "أحداث الخبز" و"المحاولات الانقلابية" بنسبة 4 في المائة لكل فئة مذكورة.

محمد العيادي (قاضي): الأمر الذي يطرح اليوم هو مسألة المخرج القانوني الذي يمكن أن تتبعه الدوائر لمعالجة الملفات المفرغة التي تنقصها التحقيقات أو يغيب فيها اسم المتهم

وقد نظرت الدائرة المتخصصة بالمحكمة الابتدائية بتونس يوم 27 فيفري/شباط 2020 في قضية "أحداث الخميس الأسود" التى جدت بتاريخ 26 جانفي/كانون الثاني 1978، وقد شهدت الجلسة تغيب ممثل عن الاتحاد العام التونسي للشغل بوصفه قائمًا بالحق الشخصي وذلك للمرة الخامسة على التوالي إضافة الى تغيب المنسوب إليهم الانتهاك مما اضطرّ المحكمة لتأخير القضية إلى جلسة 28 ماي/آيار 2020 لاستدعاء أعوان وإطارات سابقين بوزارة الداخلية ولاستدعاء بقية المتضررين وعائلات الضحايا.

كما نظرت الدائرة الجنائية المتخصّصة بالمحكمة الابتدائية بقابس الشهر الماضي في ملف الضحية كمال المطماطي الذي قُتل قبل نحو 29 سنة ولم يُعثر على جثّته حتى الآن، وقد قرّرت المحكمة مرة أخرى تأجيل القضية إلى موعد لاحق. إذ حضرت عائلة الضحية وعدد من ممثلي الجمعيات، لكن تغيّب كالعادة المنسب إليهم الانتهاك عن جلسات المحاكمة، وهو "الإشكال الذي باتت تواجهه الدوائر القضائية المتخصصة مما يعني غياب عنصر المواجهة"، وفق ما أشار إليه محدثنا محمد آزر الزواري مسؤول الشؤون القانونية بالمركز الدولي للعدالة الانتقالية.

يذكر أنّ الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بدأت أولى جلساتها بقضية المطماطي في 29 ماي/آيار 2018، وقد بدأ من يومها مسلسل التأخير بسبب غياب المنسوب إليهم الانتهاك مما جعل الدائرة تتخذ إجراء قضائيا في حقهم والمتمثّل في إصدار بطاقات جلب، لكن تواصل تغيبهم وسط اتهامات لوزارة الداخلية بعدم تنفيذ هذه البطاقات القضائية.

وأشار الزواري، في ختام حديثه لـ"ألترا تونس"، إلى ضرورة النظر في الطريقة والمنهجية التي اعتمدتها هيئة الحقيقة والكرامة في التقصي والبحث في الملفات التي وردت عليها خاصة وأنّ العديد من الملفات يغيب فيها المتهم وهو ما يعطل سير بعض تلك القضايا، فيما يغيب العديد من المتهمين عن جلسات المحكمة وتأجيل البت في أغلبها أكثر من مرّة، مؤكدًا على ضرورة دعم الدوائر القضائية ماديًا وبشريًا وتوفير أفضل الظروف لعملها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أحداث الرش بسليانة.. 11 متهمًا أمام القضاء وضحايا ينتظرون الإنصاف

السجون التونسية زمن الاستبداد.. مسرح للانتهاكات المهينة للذات البشرية