31-أكتوبر-2020

دوافع متنوعة خلف دعوات مقاطعة المنتجات الفرنسية (خليل مزراوي/ أفب)

 

لا تكتسي المواقف النقديّة خطورتها من ذاتها، إنّما تكتسيها في الغالب من قائلها ومتلقّيها وسياق نشرها وأساليب توظيفها.. هذه القاعدة الفكريّة التواصليّة تكاد تنطبق على تداعيات تصريحات ماكرون، الرئيس الفرنسي، حول الإسلام

القول "إنّ الإسلام في أزمة" لا يرقى إلى مرتبة المواقف العنصريّة كما نبّه إلى ذلك العديد من الناقدين، فهو يتناغم مع قراءات عديدة ذات منحى تفكيكي تجديدي، ولو أعدنا النظر بأريحية علميّة إلى بعض المشاغل الأكاديمية ذات الصلة بالدين الإسلامي لوجدنا قراءات أكثر جرأة وعمقًا وخطورة ممّا قاله ماكرون، حسبُنا دليلاً على ذلك تدريس مسألة "ثبوتية القرآن" ووضع النص الديني موضوع شك تاريخي وبنيوي في الجامعة التونسية، وقد تابع المئات من طلبة التبريز في اللغة والآداب العربية وحضارتها هذا المشغل مع الباحث المتخصّص في الدراسات الحضاريّة عبد المجيد الشرفي، وذلك في بداية العشريّة الأولى من القرن الحالي.

جرأة نقدية أم تطاول على المقدسات؟

لم تقتصر الجرأة في التعامل مع النص الديني على النصوص الفكرية، إنّما شملت كذلك الأعمال الفنية والنصوص الأدبيّة، فالمتمعن في رسالة الغفران التي يتمّ تدريسها منذ عقود بالمدرسة التونسيّة واجد صورًا كاريكاتورية فيها ما فيها من السخرية من تصوّرات فئة كبيرة من المسلمين لآل البيت والرسول الأكرم ويوم الحشر والثواب والعقاب، وهو ما قد يراه البعض تطاولاً على المقدسات، وقد تسلح الأساتذة للتصدي لهذا الموقف بإجابة حكيمة بيداغوجية مفادها أن المعرّي لم يكن ينتقد الإسلام في ذاته، إنما كان يعترض على بعض القراءات والتأويلات الدينية المفتقرة إلى الانسجام والمعقولية.

انتقاد الدين الإسلامي وبعض التصورات الخرافية أو المتطرّفة لم يكن يثير في ذاته قلقًا إنّما الأمر راجع إلى السياقات والمقامات والتوظيفات

هذه الأمثلة تؤكّد أنّ انتقاد الدين الإسلامي وبعض التصورات الخرافية أو المتطرّفة لم يكن يثير في ذاته قلقًا إنّما الأمر راجع إلى السياقات والمقامات والتوظيفات.

لا شكّ أنّ التصعيد الحاصل بين فرنسا وخصومها خاصة من العرب والمسلمين لا يتناسب حجمًا وخطورة مع تصريحات ماكرون، فقد تضخّم الصراع بعد وضعه في خمائر متنوعة حضارية وتاريخية وصراعات إقليمية وسياسيّة وانتخابية. هذا ما جعل المسألة تفلت من فروج المنابر التبريرية والسجالية لتقع في فجور الجرائم الإرهابية والدمويّة.

بين هذه المواجهة الجدالية وتلك المحنة العنيفة الهمجية، لاحت أصناف أخرى من الأسلحة بين طرفي الصراع أهمّها ما تمّ الاصطلاح عليه بالمقاطعة الاقتصاديّة.

لا يمكن بأيّ حال من الأحوال الموازنة بين تلك الأساليب المعتمدة في إدارة الصراع، فبعضها ومنها الإرهاب لا يخضع إلى التنسيب أو الاستدراك وثنائية الرأي والرأي الآخر، وقس على ذلك الظلم والعنصرية والاستعمار وغيرها من أشكال انتهاك الحقوق الفردية والجماعية.

اقرأ/ي أيضًا:  الأمّة والدولة في صراع الثقافات: من آيات شيطانيّة إلى رسوم شارلي إيبدو

الشعار الديني والصراع الإقليمي

مقاطعة البضائع الفرنسية تبدو محركاتها دينية إيمانية، إذ يدّعي غالبية الداعين إليها أنّها تندرج ضمن نصرة الرسول الأكرم والدفاع عن الإسلام، لكن لو تعمّقنا في السيرة المرجعية للعديد من المتحمسين لهذا السلاح الاقتصادي لاهتدينا إلى دوافع متنوعة يتظافر فيها الوطني والتاريخي والإيديولوجي.

مقاطعة البضائع الفرنسية تبدو محركاتها دينية إيمانية، لكن لو تعمّقنا في سيرة المتحمسين لهذا السلاح الاقتصادي لاهتدينا إلى دوافع متنوعة يتظافر فيها الوطني والتاريخي والإيديولوجي

ففرنسا بالنسبة إلى فئة من الإسلاميين المتشدّدين تمثل "الغرب الكافر"، وهي في ذاكرة فئة من الوطنيين أنموذج المستعمر الذي لم يكف منذ عقود عن استغلال ثروات العديد من الأقطار الإفريقية، وهي في ظن أطياف من القوميين واليساريين آية من آيات الإمبريالية المصابة بحمّى الغطرسة الدولية والسيطرة الأممية، ولا نستبعد أن دولاً كثيرة تبارك سرًّا هذه المقاطعة، ونحن جازمون أن لا ناقة لها ولا جمل بمسألة الإساءة للرسول، ولا تجمعها أي صلة رحم دينية أو فكرية أو حضارية مع العرب والمسلمين، فالمصالح الاقتصادية في هذا العالم الاستهلاكي لا دين لها ولا مذهب ولا ملّة ولا نسب ولا ميثاق، حقّ القول إذًا إنّ الاقتصاد الفرنسيّ قد تفرّق دمه.

قطع الرقاب وقطع الأرزاق

لا نستطيع أن نجزم بعدالة المواجهة التي يخوضها جمهور واسع من العرب والمسلمين هذه الأيّام ضدّ الدولة الفرنسية، ولكن يحقّ لنا القول إنّ المقاطعة الاقتصادية في بعدها المطلق العام المجرّد أشرف من النزعات التبريرية والانهزامية، وهي كذلك أنبل من النعرات الدموية والإرهابية.

في القضايا العادية تكون المقاطعة الاقتصادية من أرقى خيارات المواجهة السلمية المدنية المتحضّرة، فهي أقرب إلى ما يمكن نعته بالهجر الجميل، فهذا اللون من الخصام يبدو أبعد ما يكون عن العديد من أشكال العنف اختطافًا وسجنًا وتعذيبًا وتقتيلاً وترويعًا، غير أنّ أثره يتصف بالخطورة والفاعلية، كما يساهم في إرباك الخصم، فتراه غير قادر على تخيّر الأسلوب الأمثل للردّ، فالذي يواجهك بالقوة يمكن أن تتصدّى له بيدك وساعدك وسيفك وما أوتيت من أسلحة، أمّا ذاك الذي يتصدّى لك بالامتناع عن اقتناء سلعك فأنت أمامه أعجز ما تكون عن الإقناع والتأثير، كما أنّ القمع والإرغام لا ينفع في مثل هذه المواقف، فالأمر فعلاً مقلق ومثير.

المقاطعة الاقتصادية أشرف من النزعات التبريرية والانهزامية وهي كذلك أنبل من النعرات الدموية والإرهابية

الجرائم الإرهابية التي استهدفت الأستاذ في المعهد والمتعبدين في الكنيسة لاقت إدانة واسعة، وتمكن ماكرون من حسن استثمارها في معركته ضدّ المتشدّدين، فمثلت تلك الأحداث حافزًا له على التمسّك بمواقفه من المتطرفين ومن الإسلاميين عامّة.

في المقابل يبدو ماكرون متواضعًا ذليلاً في التصدّي لمن انتهجوا المقاطعة الاقتصادية، فقد حاول في البداية أن يوهم نفسه بسخافة هذا الأسلوب، فعدّ خصومه مجرّد "أقليّة متطرّفة"، وحينما تكشفت خطورة الموقف غرّد بالعربية الفصيحة بكلام أقرب إلى الاعتذار والاستجداء، ولمّا تواصل الأمر اتخذ خطابُ التودّد طابعًا رسميًا من خلال بيان وزارة الخارجية الداعي صراحة وبكلّ لطف إلى العدول عن المقاطعة.

حينما وصف ماكرون المقاطعين بالمتطرفين كان يعي جيدًّا أن أثر المقاطعة الاقتصادية أشدّ من أثر الأعمال الإرهابية الصادرة عن المتشدّدين، فصورة أروقة بعض المحلات التجارية وقد أقصت البضائع الفرنسية بأسلوب معلن تحريضي لا تقلّ خطورة في ظنّ العارف بالخفايا الماديّة عن صورة إرهابيّ مهدّدًا خصمه بحزام ناسف، ينطبق هذا على الدول كما ينطبق على الأفراد، "فمن سعى إلى قطع رزقك فقد نوى على قطع رقبتك"، هذه الترجمة لأحد الأمثال التونسية تنطوي على وعي بأنّ الحرب الاقتصادية أخطر من الحروب العسكرية.

يبدو ماكرون متواضعًا ذليلاً في التصدّي لمن انتهجوا المقاطعة الاقتصادية رغم محاولاته في البداية الإيهام بسخافة هذا الأسلوب

إجمالي صادرات فرنسا في العالم حسب بعض الأرقام الرسمية تتخطّى 555 مليار دولار، منها 3.8 مليار دولار إلى تونس و5.3 مليار دولار إلى المغرب و5.5 مليار دولار إلى الجزائر، هذه الأرقام تبدو أضخم في دول الشرق الأوسط خاصّة السعودية والأقطار الخليجية، وهو ما يجعل الخسائر التي تتهدّد الدولة المستهدفة بسلاح المقاطعة ضخمة، فقد ذكر عبد العزيز المزيني مدير المركز العربي للدراسات والبحوث الاقتصادية أن الخسائر الفرنسية في منطقة الخليج فقط يمكن أن تتجاوز في شهر واحد 22 مليار دولار. 

اقرأ/ي أيضًا: ثقافة المقاطعة لدى التونسي.. هل غلبتها ثقافة الاستهلاك؟

المقاطعة الاقتصادية والمصلحة الوطنية

تحفل المراجع التاريخية والنقدية بالحديث عن أشهر المقاطعات الاقتصادية في التاريخ القديم والحديث والمعاصر والراهن، وهو ما يغنينا عن تفصيل القول فيها خاصة في هذا الحيز الذي يقتضي الإيجاز. في المقابل يتيح لنا هذا العدول عن تلك التفاصيل النظر في تفاعل النخب المثقفة والأدلجة مع معركة المقاطعة للبضائع الفرنسية في الدول العربية والإسلامية.

ما لمسناه من خلال التدوينات والمقالات التحليلية والمنابر التلفزية أنّ الموضوع قد تمّ تمييعه وإغراقه في المغالطات، يمكن التحقق من هذه الملاحظة التقييمية من خلال ثلاثة معطيات على الأقل:

لئن أظهرت جمعيات ومنظمات عديدة في العالم العربي حماسة في الدعوة إلى المقاطعة فقد اختارت الأنظمة الصمت وهو ما يجعل مواقفها مفتوحة على التأويل

الأوّل يتّصل بإخضاع الحرب الاقتصادية إلى التجاذب الإقليمي والإيديولوجي، فالكثير من المعارضين لمقاطعة البضائع الفرنسية تراهم من أكثر المتحمّسين لمنع استيراد السلع التركية والتبادل التجاريّ مع قطر على سبيل المثال. وينطبق هذا عكسيًا على الطرف المقابل.

المعطى الثاني يرتبط بالتعاطي الانفعالي مع قضية المقاطعة، فكلّ المحن الوطنية والإقليمية والعالمية يمكن استثمارها بتوخي الحكمة وحسن التدبير، فالمقاطعة إن طالت واتسعت  يمكن  توظيفها إمّا لتشجيع البضاعة الوطنية في تونس أو في غيرها من الأقطار العربية أو لإعادة النظر في عدد من العقود، وهو أمر يبيحه قانون السوق وقاعدة العرض الوفير والطلب الشحيح.

المعطى الثالث يرتبط بالتباين الظاهر بين الموقف الرسمي والموقف الشعبيّ، فلئن أظهرت جمعيات ومنظمات عديدة في العالم العربي حماسة فائقة في الدعوة إلى المقاطعة فقد اختارت الأنظمة الصمت، وهو ما يجعل مواقفها مفتوحة على التأويل، فهي في محلّ الرافض الكتوم أو المتحفّظ  الخجول وقد تكون هذه الدول في موقع الباحث عن السبل الأمثل للاستفادة من هذا الوضع الاقتصادي وحسن توظيفه.  

 

اقرأ/ي أيضًا:



"قاطع الغلاء تعيش بالقدا".. حالة وعي افتراضي لمقاطعة غلاء الأسعار

المستهلك التونسي في رمضان.. بين الانتحاري والعقلاني والضحية!