19-مايو-2019

مشاهد المسلسل مسكونة بالتفاصيل وتعبيرات الوجوه وأيادي "الصنايعية"

 

تتوهّج كلمة "النوبة" من جديد في المشهد الثقافي التونسي من خلال عرض المسلسل الدرامي "نوبة" للمخرج عبد الحميد بوشناق لتحملنا إلى نقاش وجدل مستمر منذ عقود حول التعاطي مع الموروث الموسيقي الحضري وخاصة حول ما يعرف سوسيولوجيًا بموسيقى قاع المجتمع التي يهيمن عليها "المزود" بعوالمه ومناخاته التي نشأت في ضواحي العاصمة والمدن الكبرى. هو "المزود" الذي تحوّل إلى عنوان دالّ عن الألم المجتمعي والفقر الممزوج بالعنف والمخاطرة وتحدّي القانون والنقمة على الدولة المستقيلة من أجل إثبات الذات.

وعرف هذا النقاش أوجه بداية التسعينيات مع تقديم عرض "النوبة" للمسرحي فاضل الجزيري والموسيقي سمير العقربي اللذين اجتمعا حول فكرة إعادة صياغة نتف من التراث الموسيقي بشقيه البدوي الريفي والحضري بطريقة غير نمطية سواء في التوزيع الموسيقي أو الطرز الركحي والتوليفات المشهدية التراثية. وقد أزاح هذا العرض "الفرجوي" الغطاء عن مادة موسيقية تونسية تعرضت لإهمال قسري بتعلة سوقيتها وبداوتها وعدم استنادها إلى الأكاديميا المعرفية والعلمية مقابل إعلاء شأن الموسيقى الحضرية التختية ذات الهوى الأرستقراطي.

تتوهّج كلمة "النوبة" من جديد في المشهد الثقافي التونسي من خلال عرض المسلسل الدرامي "نوبة" للمخرج عبد الحميد بوشناق

اقرأ/ي أيضًا: "أولاد مفيدة" وإشكاليّة "البطل الآثم" في الدراما التونسية

مسلسل "نوبة" حملنا دراميًا إلى عوالم قصية من حكايات "النوبة" التي التصقت بذهن مخرجه عبد الحميد بوشناق عندما كان يرافق والده المطرب الكبير لطفي بوشناق إلى تمارين عرض "النوبة" سنة 1991. تلك التمارين التي حدثني عنها ذات يوم أحد موظبيها جمال بوكراع، ابن الحطّاب بوكراع أحد أقطاب الصوفية في برّ تونس، مؤكدًا صعوبتها من جهة عدم تجانس شخصيات الفريق الذي يضم فنّانين متميّزين على غرار إسماعيل الحطّاب ومنيرة الضاوي والهادي حبوبة وصالح الفرزيط وليليا الدهماني وصلاح مصباح وعبد الرزاق قليو وفاطمة بوساحة، إضافة لـ"صنايعية" محنكين مثل "المزاودي بادوس" و"الدّرابكي" المعروف باسم "الربيبة".

وأشار إلى أن الثنائي العقربي والجزيري وجدا صعوبة كبيرة في إدارة هذا الكم من النجوم وتوليفهم مع فكرة العرض ومع جميع الفاعلين من مختصين في الكوريغرافيا والرقص، مؤكدًا أن "البرايف" والتمارين كانت قاسية وطويلة وتشوبها خلافات وصراعات ومؤامرات صغيرة تشبه ما يحدث في أزقة وأنهج وأرباض المدينة العتيقة. غير أنه من فرط الانصهار في مناخات هذا العمل، تولدت علاقات جديدة بين جميع الفاعلين كما سادت تمارين النوبة أجواء من نقاء الطوية وهو ما ساهم في نجاحها وتخليدها كفعل فني باهر في نهاية القرن العشرين وذلك وفق تصريح محدثنا جمال بوكراع.

"نوبة".. حينما تلتحم كاميرا المخرج بذاكرته

مسلسل "نوبة" لم يحد عن أجواء "برايف" وتدريبات "نوبة الجبالي والعقربي" التي التقطتها عين عبد الحميد بوشناق حيث التحمت كاميراه مباشرة بـ"نيغاتيف" طويل لذاكرته، وهي في اعتقادنا من عناصر قوة هذا العمل الدرامي. فحركة الكاميرا هنا لا تنتج سوى المشاهد المسكونة بالتفاصيل والنظرات وتعبيرات الوجوه والايماءات والإكسسوارات المهملة وأيادي "الصنايعية"، وهي تقع بقوة على "الدرابك" و"البنادر" وقدح "الوشق" على أزهار نار الكانون وأقدام لا تكف عن الرقص وشقشقات تتأتى للمسامع من هنا وهناك. إنها مشاهد من ذاكرة جمعية بقيت عالقة في ذهن المخرج الذي تخلص منها دراميًا وحولها إلى فنّ مصوّر.

تنتج حركة الكاميرا في "نوبة" مشاهد مسكونة بالتفاصيل والنظرات وتعبيرات الوجوه والايماءات والإكسسوارات المهملة وأيادي "الصنايعية"

بوشناق أضاف لذلك وبحس سينمائي لافت خيوطًا درامية محبوكة ومتشابكة تدور ضمن جغرافيا "المزود" الذي يُعتبر حياة داخل الحياة لها منطقها وقوانينها التي لا يلتزم بها سوى المنجذبين "الصِّحاح" حيث آلام الحب و"الرّجلة" والخيانة والتحدّي والالتزام. وحيث تجليات العنف جزء من منظومة "المزود" بل هي قوامه الأساسي فـ"باندي" (فتوّة) مثل "برنقة" هو نموذج لطيف يخالف الحقيقة أحيانًا لأن "الباندية" أو الفتّوات هم كحدّي السكين يقفون على خط اللين والقوة، يرهبون ويحمون، يحقدون ويتودّدون.

اقرأ/ي أيضًا: "شورّب".. بين قسوة الواقع الاجتماعي وقسوة الدراما التلفزية

"بابا الهادي"، وهو الرجل الجاذب أو الرجل القطب ضمن "المزاودية"، يتخذ له تلك المكانة بعد متانة التجربة وتحنيك الأيام فيدير خيوط عالمه السحري بسواعد الرجال وبثقافة المعازف. أما "وسيلة" المتشظية المكلومة تداوي نفسها بالرقص وبالانسجام مع عالم "المزود" بالركون إلى التفاصيل وهي تدير "النُوب" تحت أقدام "الصانعات".

كما يقترب مسلسل "نوبة" من عالم السجن بماهو، حسب قراءات نفسية تونسية، مكونًا من مكونات حياة "المزاودية" وجزءًا من شخصياتهم وعادة ما يتشدقون بتلك القولة الشهيرة "عندي كي الحبس كي الدار". فعندما نتخارج من أنفسنا ونتخلى عن المنطق الأخلاقي، سنجد أن السجن هو ضرورة حياتية بالنسبة لمنتسبي "المزود" وليس إجرامًا بالمنطق الحقوقي.

أضاف عبد الحميد بوشناق وبحس سينمائي لافت خيوطًا درامية محبوكة ومتشابكة تدور ضمن جغرافيا "المزود" الذي يُعتبر حياة داخل الحياة

فمن خلال شخصية "ماهر" سليل الأحياء الراقية والذي يريد أن يثبت صدق تعلقه بعالم "المزاودية"، نفهم أكثر البنيات التواصلية والعلائقية داخل السجن، كما نفهم أكثر المنتوج الفني والثقافي للسجن وهو "الزندالي" (مزود السجن).

وبعيدًا عن الملابسات الدرامية لمسلسل "نوبة"، يتسنى لنا تأمل الجانب التوثيقي العفوي فيه إذ يأخذنا عبد الحميد بوشناق، عن غير قصد ربما، إلى التراث الثقافي التقليدي عبر الأغاني النادرة والآلات القديمة وطريقة لباس "المزاودية" ومن لف لفهم مع معجم لغوي "مزودي" خاص إضافة لطرق الرقص الآخذة في الاندثار. هو تدبّر عفوي لحماية جانب من تراث هذا الشعب من الاندثار والزوال.

عبد الحميد بوشناق لـ"ألترا تونس": المزود هو ذاكرة فنية شعبية يتسنى لنا جميعًا الاشتغال عليها

ونحن نعد لهذا التقرير، اتصلنا بمخرج المسلسل عبد الحميد بوشناق الذي أوضح أن اختيار عنوان "نوبة" كان مدروسًا وأن الإحالة على العرض الفني "النوبة" الذي أنجزه الثنائي العقربي والجزيري هو الآخر مقصود لأن المناخات العامة هي نفسها رغم أن التعاطي هو درامي بالأساس، وفق قوله. وأضاف أن المسلسل هو محاورة بين الذاتي والموضوعي "بين ذاكرتي كمراهق حضر تمارين النوبة مع والده الفنان لطفي بوشناق وبين خيالي كفنان يروم الإبداع" كما يقول.

عبد الحميد بوشناق: المسلسل هو محاورة بين ذاكرتي كمراهق حضر تمارين النوبة مع والده الفنان لطفي بوشناق وبين خيالي كفنان يروم الإبداع

وبخصوص الجدل عبر وسائل الإعلام أو شبكات التواصل الاجتماعي حول اتهام المسلسل باستنساخ العمل الفرجوي "النوبة"، أكد عبد الحميد بوشناق أن "نوبة" لا علاقة له بـ"النوبة" وأن "المزود" هو مراكمة تراثية وذاكرة فنية شعبية يتسنى لنا جميعًا الاشتغال عليها كل من موقعه وفق تعبيره.

أما حول جنوحه لطريقة التصوير السينمائي، يعتبر بوشناق الابن أن الخيار هو أسلوب عمل وطريقة في الحضور الفني، مشيرًا إلى أنّها تعطي نكهة خاصة للعمل الدرامي مبرزة التفاصيل التي أراد إبرازها وإيصالها لعين المتلقي.

وأكد مخرج "نوبة"، في جانب آخر، أنه اختار فريق العمل بصفة مسبقة وكتب الأدوار على مقاساتهم الفنية، مؤكدًا وجود أسماء ألمعية جديرة بالحضور واللمعان من جديد في التلفزيون، على حد توصيفه، ومشيرًا بالخصوص إلى البحري الرحالي والأسعد بن عبد الله وحسين المحنوش وشوقي بوقلية معتبرًا إياهم ممثلين ممهورين قدموا إضافة نوعية للمسلسل.

 يبرز عمل"نوبة" ليقدم منطلقات مغايرة وجديدة لـ"النّوب" كموروث ثقافي شعبي بحبكة درامية تحتوي أحابيل قصصية فيها الكثير من الاجتهاد رفقة وجوه تمثيلية مقتدرة

كما أشار لباقي الممثلين من الشباب والكهول على غرار بلال البريكي وأميرة الشبلي وهالة عياد وعزيز الجبالي والشاذلي العرفاوي ومهذب الرميلي ومريم بن حسين وبلال سلاطنية معتبرًا إياهم "صناع مجد التمثيل في تونس في قادم الأيام لما يتميزون به من قدرات عالية على تمثل أفكار المسلسل والأريحية والانسجام خلال التصوير".

ختامًا وفي زحمة المسلسلات الدرامية الرمضانية سنة 2019، يبرز عمل عبد الحميد بوشناق "نوبة" ليقدم منطلقات مغايرة وجديدة لـ"النّوب" كموروث ثقافي شعبي بحبكة درامية تحتوي أحابيل قصصية فيها الكثير من الاجتهاد رفقة وجوه تمثيلية مقتدرة وهو ما يجعلنا نشعر بالأمل مجددًا بعد انهيار الدراما التونسية في سنواتها الأخيرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الزندالي.. نشيد السجون التونسية".. حفر في ثقافة الهامش

النوبة التونسية.. أيقونة موسيقية ورسائل سياسية