"مسجد الألطاف".. المَعلم التاريخي الذي يُخفيه شارع فرنسا بتونس
18 سبتمبر 2025
وأنت تقطع الشوارع الأوروبية بالعاصمة تونس التي أنجزت طيلة عقود الاستعمار الفرنسي (1881 ـ 1956) وما بعده بقليل في محيط المدينة الأصلية العتيقة المعتّقة والحاضرة العامرة المعمّرة، قد يسحرك المعمار الباسق الزاهي المتناسق العلوّ، والمتعالي على معمار المدينة القديمة، وقد يبهرك انسجام الطوابق ذات الشرفات المزخرفة المطلة على قلب الحياة المدينية، وقد تأخذك جماليات النقائش البادية للأنظار، وقد تلفت نظرك بدائع رخامية أو جصية أو خشبية أو حديدية مخفية أو ظاهرة.. فيجنح خيالك إلى حدّ الخدر ويرحل تيهًا إلى لحظات الإنجاز في تلك الأزمنة القديمة فتأتي إلى مسامعك أصوات سحيقة قديمة لصخب البناء ولورشات الحرفيين والنقاشين والحدادين والنجارين والحمالين ووقع الآلات وهي تعمل في المواد الصلبة فتحوّلها إلى واجهات تشبه التحف فريدة خالدة.
ولكنك لا تتوقع أبدًا أن يعترضك مسجد أو جامع في منعطفات تلك الشوارع الفارهة المتقاطعة ما دمت تعلم مسبقًا أنّ ذاك الجزء من المدينة قد بُني وعُمّر من قبل سكّان الجاليات الأوروبية التي استوطنت الأراضي التونسية لعقود طويلة قُبيل وأثناء وبعد الاستعمار الفرنسي، وهي جاليات أساسًا من الديانتين المسيحية واليهودية، فكل المساجد والجوامع القديمة توجد في المدينة العتيقة، وحسب أرقام إحصائية صادرة عن المعهد الوطني للتراث التابع لوزارة الشؤون الثقافية التونسية، فإن عددها الحالي يناهز السبعين مسجدًا وجامعًا عتيقًا بُنيت طيلة الحقب التاريخية والسياسية والحضارية المتعاقبة على المدينة منذ إنشائها سنة 698 م على يد الفاتحين المسلمين ومن خَلفهم من الأمراء والملوك المحليين والوافدين.
"مسجد الألطاف" يعود إلى عهد الدولة الحفصية التي تأسست سنة 1237 م على يد "أبي زكرياء الحفصي" وهي المرحلة التاريخية الهامة التي انتقلت فيها العاصمة من القيروان إلى حاضرة تونس
على أنّه يوجد ضمن هذا المشهد المعماري والجمالي الأوروبي، مسجد خفيّ في شارع فرنسا أو كما يحلو للتونسيين تسميته "بور دي فرانس" (مرسى فرنسا) وهو أول الشوارع الكبرى التي بُنيت في القرن التاسع عشر مباشرة إثر الاستعمار الفرنسي، ويمتد في نسخته الأولى من باب البحر إلى مقر الإقامة العامة الفرنسية (سفارة فرنسا الآن) والتي تسمى اليوم ساحة الاستقلال التي يتوسطها تمثال العلامة ابن خلدون. وكان هذا "البولفار" (الشارع) مكانًا مميّزًا للأنشطة التجارية والبنكية الفرنسية وتوجد به مقرات قنصلية لدول أوروبية ومكاتب للخدمات العامة ومحطة رئيسية للترامواي. وهو يضم أيضًا مقرّ "المغازة العامة" وهي أول مساحة تجارية كبرى في تونس، وتُسمّى البناية التي توجد بها المغازة "لاي آركاد" (الأقواس) لأن مقدمتها المعمارية مشقوقة بأقواس حجرية ضخمة تفضي إلى بعضها البعض.
اقرأ/ي أيضًا: جامع الزيتونة.. معلم تاريخي ومعماري عريق ضمن سجل التراث العربي
وهذه الكلمة فرنسية المتداولة تعني "مجموع الأقواس"، وحذو المدخل الرئيسي للمغازة يفاجئك المسجد الخفي، نمرّ أمامه "فنراه ولا نراه"، إنه "مسجد الألطاف"، يُباغتك وجوده في صخب المدينة وزحمتها اللامتناهية، تقف أمامه مطوّلًا، مندهشًا، متأملًا تلك الواجهة البديعة الملونة لتخلص أنك في حضرة تحفة معمارية فريدة ومكان ساحر لعبادة المسلمين، والغريب والطريف أنه ينبت في قلب الشارع الأوروبي العريق الذي ينتهي بوجود كاتدرائية القديس "فانسون دي بول" المُشيدة سنة 1897م ويضم المكان أيضًا مقر أسقفية تونس.
فما هي حكايات هذا المسجد وكيف حافظ على وجوده وقت سطوة فرنسا وهيمنتها على كل شيء في تونس وخاصة وسط زحمة إنشاء المدينة الأوروبية الجديدة؟

"مسجد الألطاف" وحسب البحوث القليلة المتصلة بتاريخه، فإنه يعود إلى عهد الدولة الحفصية التي تأسست سنة 1237 م على يد "أبي زكرياء الحفصي" وهي المرحلة التاريخية الهامة التي انتقلت فيها العاصمة من القيروان إلى حاضرة تونس. وسمي بالألطاف استلهامًا من جملة "من ألطاف الله" وهي عودة اشتقاقية لاسم من أسماء الله الحسنى وهي "اللطيف". وتقريبًا هو المسجد الوحيد في مدينة تونس الذي يحمل هذا الاسم.
تحمل واجهة مسجد الألطاف من جهة المدرج قطعة من الجلّيز المطلي تبرز تاريخ سنة 1924 م مما يدلّ عى أنها آخر علامة على آخر الترميمات التي نُفذت على هذا المعلم الديني الإسلامي وسط حي أوروبي
عندما تسافر العين عبر معمار المسجد المتفرّد، نلاحظ من البداية أنه من دون صومعة، وهو الوحيد والأقدم الذي يوجد خارج أسوار مدينة تونس. وفي وصف مجرّد لمعمار المعلم من الداخل والخارج، نجد أنه مرتفع عن سطح الأرض نحو المترين وله مدخل بمدرجين متقابلين مزدانين بزخارف حديدية قُدّت يدويًا يفضيان إلى باب خشبي سامق مطليّ بطلاء أخضر، ومحيط الواجهة مجلّز بجليز القلالين الشهير (المطليّ) الذي استقدمه المورسكيون إبّان هجرتهم إلى تونس إثر سقوط الأندلس سنة 1491 م ومن أشهر معلّمي صناعة الجليز الأندلسي في تونس هو الشيخ سيدي قاسم الجليزي المتوفى سنة 1496 م.
اقرأ/ي أيضًا: جامع القصبة في تونس.. المعلم الأكثر فخامة وجاذبية وجمالاً
وتحمل واجهة مسجد الألطاف من جهة المدرج قطعة من الجلّيز المطلي تبرز تاريخ سنة 1924 م مما يدلّ عى أنها آخر علامة على آخر الترميمات التي نُفذت على هذا المعلم الديني الإسلامي وسط حي أوروبي.

من الداخل، تبدو قاعة الصلاة ضيّقة، فهي لا تسع سوى 30 فردًا تقريبًا من المصلّين والعبّاد وهي مزدانة بالجصّ ومقسّمة بالخشب المخشش.. وهو ما يشي بأن هذا المكان كان مكانًا بعيدًا عن ضوضاء المدينة العتيقة، لكنّ التوسّع المديني أدركه في القرن التاسع عشر فتم إدماجه دون التخلص منه واعتباره جزءًا من المشهد المعماري الجديد، فكانت هناك توليفة معمارية تتمثل في الإخفاء والبروز.
"مسجد الألطاف" محاط بالعديد من القصص والحكايا، لعل أشهرها أنّ شيخ المتصوفة التونسي أبي سعيد الباجي (1156 م ــ 1230م) الملقب بـ"رايس الأبحار" الذي يوجد مقامه أعلى جبل المنار بقرية سيدي بوسعيد الشهيرة بالضاحية الشمالية، وهو مريد المتصوفة سيدي عبد العزيز المهداوي (مقامه موجود بضاحية المرسى) كان يختلي بنفسه بهذا المسجد للتأمل، وكان يلتقي فيه بأتباعه للتعبّد وللذكر، وما يشي بذلك هو الشكل الظاهر للمسجد ومساحاته الضيقة.
كما كان مزارًا للتبرّك من قبل أهالي المدينة في المناسبات الدينية الإسلامية وخاصة في شهر رمضان الكريم.

وإلى جانب المهام الدينية لمسجد الألطاف، ضمن نسيج المساجد والجوامع التونسية، فإن حضوره حمّال أوجه ومعانٍ حضارية ورمزية وتاريخية وثقافية واجتماعية.. فهو أيضًا يقوم بوظيفة سياحية باعتباره معلَمًا قديمًا حافظ على حضوره ووجوده في ظل التقلبات السياسية والحضارية التي عرفتها تونس في القرون المتعاقبة.. وهو مقدمة كنوز مدينة تونس العتيقة من المعالم والمواقع.
هذا المعلم الديني والتاريخي الهام، تنقصه علامة دالّة تقصّ على العابرين من التونسيين والأجانب من زوّار تونس، حكاياه وأساطيره، وهذا لعمري دور المعهد الوطني للتراث ووزارة السياحة.
الكلمات المفتاحية

لغة أهل الأندلس نصف اللهجة التونسية
"اللغة" شقيقة الغابة، تزهر داخلها الكلمات وتورق المعاني وتتوالد القوافي في صمت وهدوء، فتعلو في السماء ضبابًا قطنيا يتسلل إلى شقوق الروح فيحييها وهي تموت في السفوح واقفة كالأشجار، تأكلها نيران الإهمال والطغيان فتتحول إلى رماد من نسيان وهباء

في تجربة فريدة.. فلاح تونسي يحوّل حقلًا صغيرًا إلى موطن للخضر العملاقة
يعمل وليد صعنوني منذ سنوات على إنتاج خضروات عملاقة في حقل صغير بولاية نابل، في تجربة نموذجية فريدة من نوعها في تونس.

من الجلاز إلى القرجاني.. قصص مقابر صنعت تاريخ تونس واندثرت
الموت هو الوجه الآخر للحياة، بل هو جوهر الحياة ذاتها، هو قطب التفكير والتدبير الآن وهنا، ولا نحيد عنه كلما سألنا أسئلتنا الوجودية الحارقة ونحن ننظر إلى ما وراء الشمس تطلعًا إلى السماء الواسعة الدالة على اللانهاية. الموت هو المحفز نحو الفنون والآداب كلما استبدت بنا هواجس الخلود والبقاء

تونس توقّع اتفاق تمويل مع البنك الدولي بـ430 مليون دولار لدعم التحول الطاقي
البنك الدولي: يساعد المشروع على خفض تكاليف إمدادات الكهرباء بنسبة 23%، وتحسين نسبة استرداد تكاليف الشركة التونسية للكهرباء والغاز من 60 إلى 80%

أيام قرطاج المسرحية 2025.. يحيى الفخراني والفاضل الجعايبي في الافتتاح
تتضمن برمجة هذه الدورة من أيام قرطاج المسرحية، 12 عرضًا ضمن المسابقة الرسمية، و15 عرضًا في قسم "مسرح العالم"، و16 عرضًا تونسيًا، و6 عروض عربية وإفريقية

تعرّف على نصاب زكاة الزيتون والتمر في تونس للعام الهجري 1447
أعلن ديوان الإفتاء في تونس، يوم الخميس 13 نوفمبر 2025 عن نصاب زكاة الزيتون والتمر وسائر الثمار للموسم الفلاحي الحالي 1447هـ ـ 2025 م، وذلك مواكبة لانطلاق موسم جني الثمار، وفق بلاغ له

هيئة المحامين: إنشاء مرصد لمتابعة احترام معايير المحاكمة العادلة في تونس
عقدت الهيئة الوطنية للمحامين بتونس جلسة عامة إخبارية في دار المحامي، يوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025 بدعوة من العميد بوبكر بالثابت، أكدت خلالها على ضرورة حضور جميع الجلسات والترافع لضمان حضور المتهمين شخصيًا في قاعات المحاكم، مع رفض المحاكمات عن بعد لما تفتقر إليه من شروط قانونية، وتعد انتهاكاً لمبدأ المحاكمة العادلة عبر حرمان المتهم من الدفاع دون مبرر قانوني

