27-مارس-2021

أحيت العلاقات الليبية التونسية مؤخرًا الرغبة في رسم خطوط استثمارية جديدة قائمة على المنفعة المشتركة (ميدان الشهداء بطرابلس/ محمود تركية/ أ.ف.ب)

 

عاد صدى الشأن الليبي إلى تصدر الواجهة في تونس من جديد، فمنذ الإعلان عن تشكيل السلطة الليبية الانتقالية أخيرًا في جنيف وانتخاب رئيسي الحكومة والمجلس الرئاسي ونشوء بوادر الانفراج السياسي والأمني، سارع العديد من الفاعلين الاقتصاديين إلى استعادة المبادرة الخاصة في التبادل الاقتصادي والتجاري أملًا في احتضان الدولة لهذه المبادرات واكتسائها الصبغة الرسمية وتبنيها ضمن سياسات الدولة الاستراتيجية.

وسارعت منظمة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة ومنظمة كونفدرالية المؤسسات من جهة والمجلس الأعلى لرجال الأعمال التونسيين والليبيين والمجلس التونسي لرجال الأعمال التونسي الإفريقي من جهة أخرى، بخلق المبادرات الاقتصادية والاستثمارية بشكل مبكّر وترميم الخسائر الناتجة عن عدم استقرار الوضع في ليبيا، ولئن توحدت الأهداف بينهم فإن الوسائل والطرق للفوز بنصيب من إعادة الإعمار في ليبيا قد اختلفت.

أظهرت الأحداث الأخيرة إرادة قوية من منظمات وجماعات اقتصادية لاقتناص فرصة الولوج إلى السوق الليبية وتنمية التبادل الاقتصادي المشترك خاصة مع اشتداد المنافسة مع جنسيات أخرى لها مصلحة مباشرة في الشأن الليبي

وصفت السوق الليبية بالمفتوحة والواسعة، والتفتت الرقاب إليها من كافة الدول والقوى الإقليمية في العالم، فتعددت بذلك الدراسات لدخول السوق الليبية من بواباتها الاستثمارية الواسعة سواء المتعلقة بالبنية التحتية أو الثروات الباطنية أو الخدمات بما يشمل كافة القطاعات الحياتية.

وبات بذلك الحديث عن مستقبل ليبيا اليوم بعيدًا عن الواقع المأساوي الذي خلّفه الصراع الداخلي والتدخل الخارجي الذي لا تزال آثاره قائمة في انتظار استقرار المؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية بعد الانتخابات المزمع إجراؤها في ديسمبر/كانون الأول القادم.

في تونس يتفاعل الجميع بإيجابية مع الوضع الجديد في ليبيا، وأظهرت الأحداث الأخيرة إرادة قوية من منظمات وجماعات اقتصادية لاقتناص فرصة الولوج إلى السوق الليبية وتنمية التبادل الاقتصادي المشترك في الاتجاهين، خاصّة بعد اشتداد المنافسة مع جنسيات أخرى لها مصلحة مباشرة في الشأن الليبي الجديد. كما كشفت عن إرادة الدولة التونسية في استعادة عمقها الاقتصادي المفقود منذ 2011، لكن بشيء من التردّد في الأخذ بزمام المبادرة نتيجة الوضع السياسي الداخلي المتشنج والأزمة الاقتصادية المستفحلة.

اقرأ/ي أيضًا:  "بلوك تشين" في تونس.. القصة كاملة

ويتفاعل الشارع التونسي مع الشأن الليبي بمنطق "الحلم" الذي يترصّده الواقع الاقتصادي المرير والأزمات الاجتماعية المستفحلة، إذ يتطلع  حرفيون مهنيون، مهندسون، أطباء، أكاديميون، مستثمرون إلى توفير المال من خلال التعاقد المهني والعمل في  التراب الليبي. البعض منهم لا تزال تعتريه بعض التخوفات من عودة عدم الاستقرار في البلد الشقيق في حين تتمسك الأغلبية بإرادة تغيير الوضع القائم والتطلع إلى الأفضل من خلال الانخراط في إعادة الإعمار.

في الأثناء، يبدو أن مبادرات جدية قام بها مجلس رجال الأعمال التونسي الإفريقي بتنظيمه منتدى جمع فيه رجال الأعمال من ليبيا وتونس في مدينة صفاقس، وكشفت الورشات المختلفة للمنتدى (ثلاث ورشات: الأولى حول الفلاحة وتطوير الصناعات الغذائية، الثانية حول المبادلات التجارية، والثالثة حول الإعمار والبنية التحتية) عن الكثير من العقبات أمام الطرفين الليبي والتونسي التي يجب تذليلها و التي تستوجب "أن يكون هناك غطاء سياسي للمجهود الذي يقوم به رجال الأعمال" حسب ما صرح به رئيس المجلس أنيس الجزيري لإذاعة "ديوان أف أم" المحليّة.

وقوبلت زيارة قيس سعيّد، التي تعتبر الأولى من نوعها بعد تركيز الحكومة الجديدة في ليبيا وتسلّم مهامها رسميًا، بارتياح شديد من طرف عبد الحفيظ السكروفي، رئيس المجلس الأعلى لرجال الأعمال التونسيين والليبيين الذي يسعى إلى تطوير شبكة المعاملات بين المؤسسات الاقتصادية في الجانبين.

نادية ميلاد (رئيسة المكتب الجهوي للمجلس الأعلى لرجال الأعمال التونسيين والليبيين بسوسة) لـ"الترا تونس": هناك مناطق صناعية مستحدثة في ليبيا تنتظر الكفاءات التونسية لتأثيثها وتركيز وحدات صناعية تونسية بتسهيلات كبيرة

وقد أعلنت الحكومة الليبية أن هناك إضاءات أخرى في طريق الاستثمار في ليبيا، داعية الشركات التونسية، التي كانت متعاقدة في إطار برنامج "ليبيا الغد" الذي توقف منذ سنة 2010، إلى تفعيل العقود والتفاوض معها للرجوع الى العمل.

وقد أكد سفير الاتحاد الأوروبي في تونس ماركوس كورنارو، في تصريح صحفي حول إعادة إعمار ليبيا، أنه " في حال لم تستغل تونس الفرصة وتنشط موانئها باتجاه طرابلس سيأتي غيرها ليفتك منها الفرص والمشاريع".

بين تطلع رسمي ومبادرات الأعمال التي يقودها فاعلون اقتصاديون وحلم التونسيين في تحسين دخلهم بالعمل في التراب الليبي، يشتدّ الاهتمام بهذه السوق المفتوحة وتلوح بقوّة حرب التموقع الاقتصادي.

وفي هذا السياق، التقى "الترا تونس" في مدينة سوسة الساحلية رئيسة المكتب الجهوي للمجلس الأعلى لرجال الأعمال التونسيين والليبيين نادية ميلاد التي تحدثت عن مبادرات المجلس وطنيًا في عملية الإسهام في ربط علاقات الأعمال بين الفاعلين الاقتصاديين من جهة وعمليات الوساطة الاقتصادية في صفوف المنخرطين بالمجلس من البلدين والمتعاملين معهم في دوائر الاهتمام من جهة أخرى.

وكشفت نادية ميلاد أن "المئات من التونسيين سواء من اليد العاملة المختصة أو غير المختصة، يتصلون بإدارة مجلس رجال الأعمال للاستفسار عن سبل الالتحاق بمراكز عمل في ليبيا عن طريق المستثمرين الخواص".

كما تحدثت عن ارتفاع عدد المنخرطين من رجال الأعمال، إذ يبلغ 16 ألف منخرط ليبي وقرابة 5 آلاف منخرطين تونسيين، وقد تعهدت الجمعية بتقديم المساعدة للشركات الشابّة والمتوسطة في قطاع الخدمات والصناعة والتجارة وذلك من خلال تشجيعهم على مبادلة الخبرات مع الجانب الليبي وعقد لقاءات مرتقبة بينهما في المعارض المزمع افتتاحها في الأشهر القادمة".

وأضافت المسؤولة بمجلس رجال الأعمال أن "هناك فعليًا مناطق صناعية مستحدثة في طرابلس ومصراتة في انتظار الكفاءات التونسية لتأثيثها وتركيز وحدات صناعية تونسية بتسهيلات كبيرة عند الاستثمار ومباشرة العمل، ونحن في حاجة إلى دراسة واضحة في جميع المجالات لضمان حقوق المتعاملين من كافة الأطراف وقيمة الاستثمار ومردوديته".

حسان اللطيف (عضو لجنة الصناعة بمجلس رجال الأعمال) لـ"الترا تونس": استراتيجيتنا تتمثل أساسًا في فتح آفاق مع الجانب الليبي وتوفير ضمانات قانونية للمتعاملين معنا

أما عن المجالات المفتوحة على الاستثمار، فسيكون الاهتمام في المرحلة القادمة بتركيز المصحات والتدريب والتعليم وتثمين الثروة السمكية الكبيرة في المجال البحري الليبي. ومن ناحية أخرى، يسعى المجلس الأعلى لرجال الأعمال التونسيين والليبيين إلى عقد ملتقى دولي حول "قانون الاستثمار في ليبيا" حتى يتبين المستثمر التونسي حدود القوانين والتشريعات في البلد الشقيق"، حسب نادية ميلاد.

اقرأ/ي أيضًا: 50 عامًا من الليبرالية المتونسة انتهت إلى تقييد كلّي للاقتصاد التونسي

من جهته، قال رجل الأعمال التونسي حسان اللطيف لـ "الترا تونس": "استراتيجيتنا تتمثل أساسًا في فتح آفاق مع الجانب الليبي وتوفير ضمانات قانونية للمتعاملين معنا، كما نسعى إلى فتح آفاق نحو إفريقيا باعتبار ليبيا بوابة رئيسية لها".

وأضاف اللطيّف، في ذات السياق: "نسجل اليوم عدة نقائص ونسعى جاهدين للدفع نحو تحسين التشريعات واستبدالها بما يتماشى ومقتضيات تطور التجارة الدولية في مجال العملة والصرف وتسهيل المرور بالمعابر الحدودية البرية والجوية والبحرية".

واعتبر حسان اللطيّف، رئيس لجنة الصناعة بالمجلس، أن" إرادة الدولة وتدخلها أمر مهمّ، باعتبارها تعزز ثقة رجال الأعمال في احتضان الدولة لهم ورعايتها للاستراتيجية الوطنية في الاستثمار داخليًا وعالميًا".

ومن جهته، أكد العضو بالمجلس والناشط في المجتمع المدني المهتم بالشأن الليبي جمال الغابي "ضرورة عقد اتفاقيات مشتركة تونسية ليبية رسمية تعطي امتيازات لرجال الأعمال التونسيين وتستبق دولًا أخرى لضمان حصص استثمارية أوفر".

جمال الغابي (عضو بجلس رجال الأعمال) لـ"الترا تونس": زيارة رسمية للحكومة إلى ليبيا قد تحلحل عدة إشكالات قائمة وتخلق مناخ الثقة في الاستثمار

وأكد الغابي، في تصريح لـ"الترا تونس"، أن "السوق الليبية تمثل بوابة للسوق الإفريقية، لذلك وجب الاستباق وعقد شراكات ثنائية مع بلدان الساحل الصحراوي"، معتبرًا أنه من الضروري "تغيير قوانين الاستثمار في ليبيا حتى تتماشى مع القوانين الدولية"، وفق تقديره.

كما شدد رجل الأعمال على ضرورة أن يكون "موقف تونس واضحًا وثابتًا"، مقدّرًا أن "زيارة رسمية للحكومة قد تحلحل عدة إشكالات قائمة وتخلق مناخ الثقة في الاستثمار".

وأشار، في هذا الإطار، إلى أنه "لابد من دفع الخارجية التونسية للعمل أكثر على هذه الورقة"، متوقعًا أن "تونس ستستفيد كثيرًا من ذلك خاصة في مجال اليد العاملة والتزويد بالمواد الأولية"، حسب رأيه.

وأضاف الغابي أن "استقرار ليبيا الأمني والسياسي له تأثير مباشر على الوضع في تونس"، مردفًا: "لنا فرصة تاريخية لاستغلال إعمار ليبيا، ونحن نراهن في تونس على تطور عجلة التنمية نظرًا لتمركز العديد من الشركات العملاقة العالمية في تونس وإدارة مشاريعها العملاقة القائمة في ليبيا بما يطور آفاق الشراكات في كافة الاختصاصات".

أحْيَت العلاقات الليبية التونسية، الأيام القليلة الماضية، الرغبة في رسم خطوط استثمارية جديدة قائمة على المنفعة المشتركة، ومثلت دعوة الحكومة الليبية الشركات التونسية التي كانت متعاقدة في إطار برنامج "ليبيا الغد 2010" إلى تفعيل العقود والتفاوض معها للرجوع إلى العمل عربون حسن نية.

كما أن الاتفاقية الأخيرة لإعادة تفعيل العمل بالمنفذ الجمركي المشترك برأس جدير تعتبر خطوة إيجابية من أجل حلحلة الإشكاليات الخاصة بانسياب حركة البضائع والمسافرين بين البلدين، وتسهيل الإجراءات الثنائية بالمعبر الحدودي بين تونس وليبيا.

جدير بالذكر أن الأحداث التي شهدتها ليبيا خلال السنوات الفارطة كانت لها تداعيات سلبية لعل أبرزها تراجع مستوى التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين، مما أدى إلى عودة أكثر من نصف مليون تونسي من ليبيا، فضلًا عن إغلاق مئات الشركات التونسية أو انتقالها إلى بلدان أخرى.

لقاء مراسل "الترا تونس" ماهر جعيدان مع مسؤولين بالمجلس الجهوي لرجال الأعمال الليبيين والتونسيين بسوسة

 

اقرأ/ي أيضًا:

تغوّل السوق السوداء في تونس: أي دور لمجلس المنافسة؟

رغم الاكتفاء الذاتي: أطنان من الخضر الموردة تثير انتقادات الفلاحين