21-ديسمبر-2019

مبارك بن ناصر المدير العام لمركز الجينات الوطني

 

ظلّ الحديث عن الجينات النباتيّة والحيوانيّة على امتداد عقود موضوعًا نخبويًّا، فلا يتمّ التّطرّق إليه إلّا في بعض المجالس العلميّة والندوات الفكريّة، وممّا زاد هذا المشغل تعاليًا وانطواء تناوله بعبارات بعيدة المأخذ ومفردات موغلة في الدقّة ومصطلحات قليلة السريان على الألسن، لا يكاد يفهمها إلّا أهل الاختصاص.

منذ حوالي عشر سنوات نزل موضوع الجينات من برجه العاجيّ، فبات مُشاعًا بين العامّة والخاصّة يخوض فيه الأميّون والمثقّفون والفلّاحون والتّجّار والمستهلكون والمضاربون والسّاسة.

وقد ساهمت في ذلك جملة من العوامل، أوّلها واقعيّ يتمثّل في تراجع جودة المنتوج الفلاحيّ من حبوب وخضر وغلال، وقد أجمع المواطنون على فقدان الأذواق الأصيلة والروائع المعتّقة حتى اشتاقت إليها ألسنتهم وأنوفهم، فما عادوا يضفرون بها في الفلفل والبصل والطماطم والبطيّخ والإجّاص وغيرها ممّا يعرض في الأسواق من سلع ناضرة مستديرة كعوب مُثيرة تشدّك إليها بصرًا وخيالًا، لكنّك سرعان ما تنصرف عنها، فلا تقتنيها إلّا مضطرًّا، فحظّك منها ما عاد  يتخطّى الملمس والمنظر، وأمّا الفائدة الغذائيّة فقد خالطتها الشكوك والظنون وبعض الأوهام.

اقرأ/ي أيضًا: من "الشتيوي" إلى "البركة".. فلاح عصامي يقود معركة حماية البذور التونسية

السبب الثاني الذي ساهم في تحويل الجينات إلى قضيّة رأي عامّ، حضور المسألة في الخطاب السياسيّ بدافع وطنيّ أو لمقاصد انتخابيّة ودعائيّة، فقد دارت بعض السّجالات حول الخطر الذي يتهدّد الجينات النباتيّة والحيوانيّة وتمّ تنزيل ذلك ضمن المحن التي يواجهها قطاع الفلاحة والحال أنّ المعضلة أعمق من ذلك بكثير.

مبارك بن ناصر (مدير عام مركز الجينات الوطني) لـ"ألترا تونس": البذور التونسيّة تعدّ أقلّ تكلفة سقاية ومداواة ومتابعة، وهي من أكثر الجينات مقاومة للحرارة والجفاف والملوحة

حريّة التفكير والتعبير بعد الثورة أتاحت للخائضين في أزمة البذور والجينات وصْلَها بإشكاليّات أشدّ تعقيدًا منها المستقبل الغذائيّ والأمن القوميّ والاستقلال وغيرها من شروط السيادة والاستقرار. موضوع الجينات ظلّ مغبونًا حينما حُصر في الصالونات العلميّة الضيّقة، لكن ما إن خرج إلى الفضاءات الأوسع أصابته لوثات المهاترة وفيروسات المغالطة، بل تحوّل في بعض المقامات إلى موضوع خرافيّ عجائبيّ خال من التوصيف العلميّ الدقيق والعرض المستند إلى قرائن عمليّة يمكن التحقّق منها من خلال المعاينة والإحصائيّات.

هذا المبرّر حثّنا على ملاقاة مبارك بن ناصر، المدير العام لمركز الجينات الوطنيّ، وهو الذي جمع في سيرته الأكاديميّة والمهنيّة بين الخبرة الميدانيّة والكفاءة العلميّة والمهارة التواصليّة، فقد تحصّل على الدكتوراه في العلوم الفلاحيّة والأستاذيّة في الانجليزيّة، ممّا أتاح له إعداد العديد من البحوث وتقديم الكثير من المحاضرات والمداخلات في مجال اختصاصه في تونس وخارجها، كما تميّز بن ناصر بعمله الميدانيّ وقربه من الفلّاحين دافعه في ذلك الواجب والرغبة و" الغرام".

مع هذه الشخصيّة العلميّة والوطنيّة كان لـ"ألترا تونس" الحوار التالي:

  • مجال بنك الجينات يبدو غير واضح لغير المختصّين، هل يقتصر على تخزين الأصناف المحليّة من البذور؟

مجالنا أوسع من ذلك بكثير، فهو يتّصل بالمحافظة على الأصناف المحليّة من النباتات بذورًا وغراسات ويشمل كذلك الحيوانات والكائنات الدقيقة، ولا أبالغ إن قلت لك إن مجالنا يمكن أن يحيط بكلّ الكائنات الحيّة في بلادنا ماعدا البشر.

  • لكنّ ما نعلمه أنّ نشاطكم وثيق الصلة بمنظمة التغذية والزراعة العالميّة، فهل يعني ذلك أنّ الجينات تدور في فلك العولمة شأنها شأن العديد من المجالات؟

لا شكّ في ذلك، لكنّ رهاننا هو الجودة، بصرف النظر عن مصدرها داخليّ أو خارجيّ، فلا حرج من الاستفادة من الأصناف الأجنبيّة ذات القيمة الاقتصاديّة والغذائيّة والصحيّة الممتازة، ولمّا كانت أغلب الجينات التونسيّة قيمتها أفضل، اتّجه جهدنا الأوفر إلى المحافظة عليها وحمايتها وحسن استغلالها.

  • ما هي الخصوصيّات النوعيّة التي تميّز الجينات التونسيّة الأصيلة؟

لو أخذنا البذور التونسيّة على سبيل المثال لوجدنا أنّها تعدّ أقلّ تكلفة سقاية ومداواة ومتابعة، وهي من أكثر الجينات مقاومة للحرارة والجفاف والملوحة، إذ يمكن نعتها بالصمود والشموخ، وهي فضلًا عن ذلك تتّصف بكونها أقدر على البقاء والتعمير، وأذكى لذّة طعمًا ورائحة، وقد أكّدت الدراسات أنّها ذات قيمة غذائيّة وصحيّة فائقة.

  • لكن بم تفسّر جنوح جلّ الفلاحين إلى الاستغناء عن جلّ البذور الأصيلة وإقبالهم على بذور دخيلة منتوجها بلا طعم ولا رائحة وفائدتها الغذائيّة محدودة؟

الأمر في رأيي راجع إلى سببين الأوّل قيميّ يتمثّل في ثقافة الربح السريع، فبعض البذور ومنها الدلاع مثلًا تُوفّر منتوجًا أضخم حجمًا وأجمل مظهرًا، فتدرّ على زارعها ربحًا وفيرًا، غير أنّه يفتقر إلى الديمومة، وهو ما يتّضح في السبب الثاني، ذلك أنّ غياب الوعي يجعل المتلهفين على تلك البذور مفتقرين إلى التخطيط بعيد المدى، وهو ما يوقعهم في مأزق الحاجة والابتزاز، ويحوّل ربحهم الآنيّ إلى ضيق وخسران لاحق.

مبارك بن ناصر لـ"ألترا تونس": بالنسبة للإجاص والتفاح فالتعويل على الجينات الوافدة الهجينة خطير لأنها تفتقر إلى الديمومة وهي كذلك هشة إزاء المناخ التونسيّ

  • هلّا أوضحت لنا "هذا الانحراف الزراعيّ" من خلال أمثلة؟

أقرب الأمثلة وأوضحها ما تعلّق بالدلاع فقد تمّ توزيع بذور ذات مردوديّة عاليّة على الفلاحين، وقد تمتّعوا بهذه الهديّة المغرية على امتداد أربع سنوات مجّانًا، وهي مغرية فعلًا، فالدلاعة الأجنبيّة الواحدة وزنها يزيد عن التونسيّة أكثر من عشر كيلوغرامات، ولمّا فرّط المزارعون في بذورهم الأصليّة، باتوا مضطرّين إلى شراء تلك البذور الدخيلة ذات العمر القصير بأسعار باهظة الثمن، فكانت النتيجة الخيبة المضاعفة ماديًّا وقيميًّا.

اقرأ/ي أيضًا: البذور البيولوجية.. نحو تجنب الاستعمار الغذائي

  • هل ينطبق ما تقول على بعض الغلال مثل الإجّاص والتفّاح؟

الأمر مع الإجّاص والتفّاح أخطر بكثير، فالتعويل على هذه الجينات الوافدة الهجينة خطورتها لا تكمن فقط في افتقارها إلى الديمومة إنّما تكمن كذلك في هشاشتها إزاء المناخ التونسيّ، فهي في حاجّة إلى العناية المركزة من حيث السقاية والمداواة، ومع ذلك فهي مهدّدة باستمرار، إذ يمكن أن يعصف بالصابة مرض أو نوع من الحمّى لم يكن في الحسبان، وقد حصل ذلك في مناسبات عديدة، وفي كلّ الأحوال ظلّ "الإجاص بوقدمة" ذو الهويّة الجينيّة التونسيّة قائمًا لم يمسسه أيّ ضرر رغم محدوديّة مردوده كميًّا.

مراسل "ألترا تونس" خلال حواره مع مبارك بن ناصر
  • هل يمكن أن تمرّ هذه العدوى إلى قطاعات استراتيجيّة مثل القمح؟

لا أستبعد ذلك، إلاّ إذا تحلّينا بمنتهى الحكمة واليقظة، فقد لاحظتُ تسرّع عدد من الفلاحين في زراعة بذور قمح ذات مردوديّة عاليّة نظريًّا، إذ تصل إلى 60 قنطارًا في الهكتار ( أي ثلاثة أضعاف المعدّل العاديّ) فقد اقتنى بعض الفلاحين من إحدى الشركات المعروفة بذورًا فرنسيّة، وقد ثبت لنا أنّها لا تتلاءم مع المناخ التونسيّ، فلا صبر لها على الجفاف، إذ تحتاج إلى الأمطار الغزيرة والسقاية الدائمة وهي عرضة للكثير من الأمراض، فما يمكن أن يجنيه الفلاح من مردوديّة إضافيّة يخسره ماء ودواء، وقد تصبح الصابة كلّها مهدّدة، في المقابل ينطبق على البذور التونسيّة مثلُ "ازرع، واترك، فلا خوف عليك".

  • ماهي أشهر بذور القمح الأصليّة وما تقييمك العلميّ لها؟

جلّ الفلاحين يستعملون خمسة أنواع من بذور القمح الصلب، وهي الكريم ورزّاق ومعالي وأم الربيع وأم الخيار، أمّا البذور الأصليّة غير المحسّنة وذات القيمة الغذائيّة الفائقة والسحريّة فمنها المحمودي والبسكري والشيلي وجناح الخطيفة وجناح الزرزورة وعتق الروميّة وصوابع الروميّة وكحلة الأهداب والبيدي...هذه البذور التي ترقى قيمتها الصحيّة إلى مرتبة اللقاح ضدّ الأمراض تَراجع للأسف استعمالها.

مبارك بن ناصر لـ"ألترا تونس": البذور الأصليّة من القمح غير المحسّنة وذات القيمة الغذائيّة الفائقة هي المحمودي والبسكري والشيلي وجناح الخطيفة وجناح الزرزورة وعتق الروميّة وصوابع الروميّة وكحلة الأهداب والبيدي..

  • ما دور بنك الجينات في تشجيع الفلاحين على زراعة البذور الأصيلة ذات القيمة الغذائيّة؟

فضلًا عن التوعية، يقوم بنك الجينات في سبيل تشجيع الفلاحين على استعمال البذور الأصيلة بإجراءات عمليّة، فقد وزعنا هذه السنة (2019) مجّانًا تسعة عشر طنن من هذه البذور ونأمل في مضاعفة الكميّة في السنة المقبلة.

  • " الجينات الوافدة" تسيل لعاب الفلاحين الراغبين في الربح السريع، فكيف السبيل إلى مراقبتها؟

دورنا اختباريّ وتوعويّ أمّا الاختبار فيتمّ عبر اتّخاذ عيّنات من البذور الدخيلة (حوالي 100غ) وتجربتها في مناطق مختلفة من البلاد، وذلك لاكتشاف ملاءمتها للمناخ، فما يصلح في ماطر مثلًا لا يصلح في سيدي بوزيد، أمّا التوعية فتتمّ من خلال اللقاءات المباشرة بالفلاحين والوسائط الإعلاميّة بمختلف أنواعها.

  • الإعراض عن بعض البذور التونسيّة جعلها عرضة إلى الإهمال، ألا يهدّد ذلك " التراث الجينيّ" النباتيّ في تونس؟

الأمر لا يقتصر على الإهمال بسبب تراجع الاستعمال، إنّما يعود كذلك إلى فقدان الدولة التونسيّة أحد عشر ألف عيّنة جينيّة موجودة حاليًّا في بنوك خارجيّة، وقد وضعنا خطّة لاسترجاع هذه الثروات فتمكنّا من إعادة توطين حوالي نصف هذه العيّنات.

مبارك بن ناصر لـ"ألترا تونس": الدولة التونسيّة فقدت أحد عشر ألف عيّنة جينيّة موجودة حاليًّا في بنوك خارجيّة، وقد وضعنا خطّة لاسترجاع هذه الثروات فتمكنّا من إعادة توطين حوالي نصف هذه العيّنات

  • هل غادرت العينات الجينيّة تراب الوطن بطرائق قانونيّة؟

للأسف الكثير من العيّنات الجينيّة تمّ تهريبها خلسة، رغم أنّ القانون يمنع ذلك، فتبادل الجينات بين الدول والبنوك يخضع إلى ضوابط دقيقة.

  • من يتحمّل مسؤوليّة " تسفير الجينات"؟

لا أحمّل المسؤوليّة إلى طرف بعينه، فعمليّة إخراج العينات الجينيّة يصعب التفطّن إليها في بلد سياحيّ منفتح يزوره الملايين سنويًا، الأمر في رأيي يعود إلى سببين، الأوّل يتّصل بالوعي فما حدث يرجع إلى ضرب من الاستخفاف وعدم الاكتراث، أمّا الثاني فهو مرتبط بالجانب التشريعيّ، لا بدّ أنّ يعي الجميع أنّ تهريب البذور والجينات عامّة لا يقلّ خطورة عن تهريب العملة الصعبة والآثار، وبناء على ذلك يمكن أن نصوغ القوانين والخطط والبرامج التي تتناسب مع هذا الوعي.

 

نماذج من بذور القمح الدخيلة التي تحقق بنك الجينات من عدم تناسبها مع المناخ التونسي

فهي لا تتحمّل الحرارة وتقتضي عناية مركّزة سقاية ومداواة وهي معرّضة للأمراض ( المصدر: بنك الجينات)
 

اقرأ/ي أيضًا:

تعثّر موسم بذر الحبوب.. أسواق سوداء للأسمدة الكيميائية والبذور الممتازة

فيديو: حصاد الحبوب بالمنجل.. تقليد متوارث في تونس