29-نوفمبر-2019

رشّحت حركة النهضة الحبيب الجملي لرئاسة الحكومة المقبلة (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات التّشريعيّة في أكتوبر/تشرين الأول 2019، توقّع جلّ متابعي الشأن السياسيّ في تونس صعوبة تشكيل الحكومة وأرجعوا ذلك إلى أسباب متنوّعة أوّلها عامّ تشريعيّ يتّصل بالقانون الانتخابيّ الذي ساهم في إفراز ألوان برلمانيّة متعدّدة، وذلك لغياب جملة من الضوابط، أهمّها قانون العتبة الذي يحدّ نسبيًا من إمكانيّة صعود نوّاب رصيدهم الشعبيّ هزيل لا يكاد يتعدّى الألفي صوت أحيانًا، غير أنّ أثرهم في البرلمان كبير سواء في السياحة بين الكتل أو في إحداث الفرقة والتفكّك. ويرتبط السبب الثاني الخاص بالفوز "الضعيف المنهك" لحركة النهضة، فنصيبها من الأصوات لم يضمن لها غير ربع المقاعد في باردو، وهو ما يجعلها في أمسّ الحاجة إلى سند قويّ أمين.

توقّع جلّ متابعي الشأن السياسيّ في تونس صعوبة تشكيل الحكومة منذ إعلان نتائج الانتخابات لأسباب متنوّعة أوّلها عامّ تشريعيّ يتّصل بالقانون الانتخابيّ الذي ساهم في إفراز ألوان برلمانيّة متعدّدة

بلوغ هذا المقصد يبدو ممكنًا يسيًرا بالنسبة إلى الواثقين من جاذبيّة النهضة وحكمتها واستعدادها الدائم للتغيّر والتبدّل وقدرتها على المناورة، فقد سبق للحركة أن اجتازت امتحان التوافق في مناسبتين سابقتين. ففي سنة 2011، تمكّنت من بلوغ تحالف فريد استثنائيّ جمع حزبًا مصنفّا ضمن التيارات الدينيّة مع حزبين علمانيين، هما المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتّل من أجل العمل والحريّات. وتكّرر نفس السيناريو سنة 2014 في تقارب تحقّقت فيه معجزة التلاقي بين خطّين متوازيين لا جامع بينهما غير المصلحة و"المصالحة"، نقصد النهضة بأصولها النضاليّة والدينيّة والنداء بروافده التجمّعيّة والدستوريّة والعلمانيّة.

اقرأ/ي أيضًا: الحبيب الجملي مكلفًا بتشكيل الحكومة.. الرهانات والصعوبات

تعقيدات تشكيل الحكومة أفقيّة وعموديّة وداخليّة

يبدو السبب الثالث المعطلّ لمهمّة الحبيب الجملي أكثر تعقيدًا، يتجلّى في آيات الخلاف بين الأحزاب أفقيًا وعموديًا أي بين المتصدّر وجلّ الأحزاب من جهة، والتباين الشديد بين هذه التيارات والائتلافات والحركات من جهة أخرى، وهو أكّده لـ" ألترا تونس" عدنان منصر السياسيّ والأكاديميّ قائلًا: "ثمّة مؤشّرات عديدة تؤكّد صعوبة تشكيل الحكومة أهمّها تعقّد المفاوضات مع الأحزاب التي يمكن أن توسّع قاعدة الحكم وتجعل منها حكومة جديّة، وهي خاصّة التيّار الديمقراطيّ وحركة الشعب".

وممّا زاد الأمر تعسّرًا حسب تعبير منصر ظهور رئيس الحكومة المكلّف في "صورة العاجز عن امتلاك سلطة المبادر ذلك أنّ الملفّ السياسيّ يتحكّم فيه رئيس الحركة راشد الغنّوشي بدرجة أولى وهذا يجعل آفاق الاجتهاد محدودة أمامه". وأيضًا ممّا زاد الأمر تعقيدًا، يقول محدّثنا: "النزاع المعلن والخفيّ بين أوساط القرار في حركة النهضة، فالحبيب  الجملي لا يحظى بالإجماع، وهو ما يدفع إلى الإقرار بافتقار التمشّي إلى الوضوح والجديّة".

عدنان منصر: يظهر الحبيب الجملي في صورة العاجز عن امتلاك سلطة المبادر ذلك أنّ الملفّ السياسيّ يتحكّم فيه رئيس الحركة راشد الغنّوشي بدرجة أولى وهذا يجعل آفاق الاجتهاد محدودة أمامه

ويعلّل منصر رأيه حول التعقيدات الصادرة من داخل النهضة والمؤثّرة في مسار تشكيل الحكومة مستتندًا إلى حدث استقالة زياد العذاري الأمين العام للحركة يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.

في المقابل، قلّص عبد السلام الزبيدي، الباحث والمحلّل السياسيّ، من خطورة هذه الخلافات والتعقيدات قائلًا لـ"ألترا تونس": "إنّ مسار تشكيل الحكومة مازال في طوره الأوّل، إذ يمتدّ على  شهر قابل للتمديد بثان، وهو ما يتيح للحبيب الجملي الرئيس المكلّف حيّزًا زمنيًا كافيًا لهندسة الحكومة وفق سيناريوهات متعدّدة".

استبعد عدنان منصر إعادة الانتخابات لأنه لا أحد ضمن المشهد الحزبي الحالي له مصلحة في ذلك (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

في هذه النقطة، يتّفق الزبيدي مع نجم الدين العكّاري، رئيس تحرير جريدة الأنوار والمحلّل السياسيّ، الذي بدت إجابته حاسمة في تأكيده لنا أن "الحكومة ستتشكّل، وستمرّ من الدور الأول، وسيحصل تحالف بين الأحزاب ذات الكتل الكبرى" والأرجح، في رأي العكّاري، أن يكون هذا التشارك بين النهضة والتيّار والائتلاف وربّما حركة الشعب وبعض الأحزاب الأخرى. والتركيز حسب العكاري لا ينبغي أن يتّجه إلى مسألة تشكيل الحكومة، إنّما الأجدر أن يرتكز على ما ستواجهه الحكومة بعد قيامها، فالانتظارات كثيرة والإمكانيات شحيحة، ولن تفلت الحكومة المرتقبة من الضغط إّلا إذا قدمت منذ الأسابيع الأولى إجراءات عمليّة ملموسة، وفق قوله.

نجم الدين العكاري: الانتظارات كثيرة والإمكانيات شحيحة، ولن تفلت الحكومة المرتقبة من الضغط إّلا إذا قدمت منذ الأسابيع الأولى إجراءات عمليّة ملموسة

لئن استبعد محدّثونا الثلاثة إمكانيّة إعادة الانتخابات فقد اختلفوا في تبرير هذا التصوّر، علّل عدنان منصر قراءته قائلًا: "يبدو أن لا أحد ضِمن المشهد الحزبيّ الحالي له مصلحة في إعادة الانتخابات، فإعادتها تعني تصويتًا عقابيًا ضدّها بسبب عجزها عن تحمّل المسؤوليّة، وهو ما يدفع النهضة إلى الحرص على تكوين حكومة، وقد تعتمد في هذا المسار المرتبك قاعدة "الاكتفاء بمن حضر"، فذلك بالنسبة إليها أقلّ كلفة من العودة إلى صناديق الاقتراع.

يتوقع عبد السلام الزبيدي قدرة الحبيب الجملي على تكوين حكومة في الآجال الدستورية

 

أمّا الخطابات المصرّة على مغامرة الإعادة والتي تدعو رئيس الجمهوريّة إلى إقرار قانون التعديل الانتخابيّ، فهي بالنسبة إلى منصر مفتقرة إلى الوجاهة، ذلك أنّ تنقيح القانون الانتخابي في 18 جوان/يونيو 2019 الذي صدر عن مجلس النواب، ولم يمض عليه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ما عاد موجودًا، فكلّ آجال الإمضاء والرّدّ والطعن قد وقع تجاوزها، ولا حلّ أمام الراغبين في إحيائه غير تقديم نفس النصّ في شكل مبادرة تشريعيّة جديدة سواء من الحكومة أو من النواب، وهو ما سيحصل فعلًا أو ما ينبغي أن يحصل على حدّ تعبير منصر لتخطّي مأزق تشكيل الحكومة بعد كلّ انتخابات.

اقرأ/ي أيضًا: هل أوقعت هذه العناصر حركة النهضة في المحظور؟

فشل الجملي قد يثمر حكومة رئيس بحزام برلمانيّ متين

الخشية من إعادة الانتخابات وكثير من الإكراهات وتطمينات الجملي معطيات تجعل تشكيل الحكومة أمرًا لا فكاك منه، لكن فرضيّة العجز حتّى إن بدت مستبعدة تظلّ قائمة، فهل يكون اللجوء إلى قيس سعيّد سبيلًا إلى الخلاص من المأزق؟

دعا نجم الدين العكاري الحكومة المقبلة لاتخاذ إجراءات ملموسة منذ الأسابيع الأولى

 

يجيب  الباحث والمحلل السياسي عبد السلام الزبيدي عن هذا السؤال قائلًا: "لو نظرنا إلى فرضيّة عدم توفّق الجملي إلى تشكيل الحكومة وردّه التكليف إلى رئيس الجمهوريّة، فإنّ تكليف قيس سعيّد للشخصيّة الأقدر بعد التشاور مع الكتل والأحزاب وفق مقتضيات الدستور سيكون عاملًا مميّزًا، فلن تراهن الحكومة المشكلة حينئذ على مجرّد المصادقة، إنّما ستطمح إلى نيل الثقة بأغلبيّة كبيرة وبحزام سياسيّ وبرلمانيّ متين غير مسبوق، فالشرعيّة الانتخابيّة والشعبيّة لرئيس الجمهوريّة تمثّل حافزًا يحثّ مختلف مكوّنات المشهد السياسيّ على الانضواء تحت خياراته".

الندائيون و"القيسيّون" من إعادة الانتخابات مستفيدون

يتّفق الزبيدي والعكاري ومنصر على أطروحة مفادها أن ليس  من مصلحة جلّ النوّاب المنتخبين وأحزابهم إعادة الانتخابات، ولعلّ الفائزين بأكبر البقايا هم الأشدّ تمسّكًا بالبرلمان الحالي وخشية من سيناريو الإعادة. ولو دفعنا بالفرضيّة إلى أقصاها على حدّ تعبير الزبيدي، فإنّ المستفيدين افتراضيًا هم السائرون في خطّ الخيار الشعبيّ للرئيس إضافة إلى من حصلوا على مقاعد بالحاصل الانتخابيّ. ويشدّد الزبيدي في نفس النقطة على ضرورة الوعي في حالة إعادة الانتخابات بأنّ تحالف قوى النداء المشتّت من شأنه أن يعيد توزيع المقاعد داخل ذات المكوّن السياسيّ.

عبد السلام الزبيدي: المستفيدون افتراضيًا من إعادة الانتخابات هم السائرون في خطّ الخيار الشعبيّ للرئيس إضافة إلى من حصلوا على مقاعد بالحاصل الانتخابي

الزبيدي يتّفق مع منصر في مسألة التعجيل بإعادة عرض التنقيح الانتخابيّ للتصويت عليه من جديد، لكنّه يدعو إلى ما هو أبعد قائلًا "ينبغي إعادة النظر في القانون الانتخابيّ برمّته ولا ينبغي الاقتصار على تغيير نظام الحصول على المقاعد (النسبة مع احتساب أكبر البقايا)، إنّما ينبغي التركيز على شروط الترشّح للرئاسة وللبرلمان، ولا بدّ من الاستئناس بالتقرير النهائيّ للهيئة العليا المستقلة للانتخابات للوقوف على النقائص والإخلالات ومنها سيكون منطلق الإصلاح".

خلاصة هذا التقرير مفادها أنّ صعوبة تشكيل الحكومة، قد كانت سليلة عناصر متعدّدة شخصيّة (راشد الغنوشي وعدد من قيادات الحركة) وحزبيّة (التيار وحركة الشعب والبقيّة) وتشريعيّة. أمّا الخلاص من شبح إعادة الانتخابات، فيمكن أن تتدخل فيه تلك العناصر فضلًا عن رئيس الجمهوريّة المتوّج بوشاح رمزيّ وشعبيّ فضلًا عمّا تتيحه له سلطته الدستوريّة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تؤثر نتائج انتخابات 2019 على عمل المجالس البلدية؟

صيغة الحكم في تونس: تقاطعات السياسيّ والحزبيّ والشخصيّ