كيف يُتَلقى المشهد السوري في تونس؟
26 مارس 2025
مقال رأي
تستقطب التحولات المتتابعة التي تشهدها سوريا منذ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، اهتمام الطبقة السياسية في تونس. وكأنّ ما تشهده البلاد منذ ست سنوات من تجريف منهجي للحريات واستهداف للمجال السياسي الذي فتحته الثورة حافز على فتح مربعات للتعبير السياسي ولا سيما ما بدا منها أقلّ كلفة. ولم يكن التفاعل مع المنعطف السوري بعيدًا عن التجاذبات داخل النخبة وما عرفته من فرز على قاعدة الموقف من الانقلاب. ووصل الأمر بقيادي في حزب قوميّ هامشي مساند لـ"مسار التصحيح" و"حالة الاستثناء المستدام" إلى دعوة النيابة العمومية، إثر أحداث الساحل السوري الأخيرة، إلى تتبع التونسيين الداعمين للسلطة الجديدة في دمشق باعتبارهم "خلايا داعشيّة نائمة".
ليس مطلوبًا من الطبقة السياسية في تونس أن تتخلّص من انقساماتها في تفاعلها مع الحدث السوري ولكن ليس من العقل ولا من السياسة أن تكتفي بإسقاط صراعاتها المحليّة على الموضوع السوري، فتعيد إنتاج تخاريفها
حدّة الاستقطاب
هناك متابعة متواصلة في تونس لتطورات المشهد السياسي في سوريا وتقلباته. وكان السجال حول سوريا اتسم بالحدّة منذ اندلاع الثورة فيها، وصار الملف من المواضيع السياسية الثابتة في بلاتوهات الإعلام. وعلى قاعدة الموقف منه تشكلت خارطة القوى السياسية ائتلافًا واختلافًا مما أغرى بالحديث عن "المسألة السورية" في الخطاب السياسي. ويمثل السجال حول الموضوع صورة من الاستقطاب الذي يشقّ الطبقة السياسيّة في تونس بعد الثورة. وقد رافقت أحداث سوريا خطوات تونس الأولى في تجربة التأسيس ثم الخروج منها تحت وقع الاغتيالين السياسيين في 2013 إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ الملفّ السوري كان حاضرًا قبل الانتخابات التأسيسيّة في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. ونعني الفترة الفاصلة بين يوم هروب بن علي والانتخابات التأسيسيّة. ونذكّر بأنّ هذه الفترة التي تولى فيها رموز المنظومة القديمة ووجوه من نظام بن علي حكم البلاد بعنوان إنقاذ الدولة وتبني الثورة وأهدافها عرفت فكرة مؤتمر أصدقاء الشعب السوري. وهو في الأصل مقترح الولايات المتحدة على رئيس الحكومة الباجي قايد السبسي. وانعقد بتونس في 24 فيفري/شباط 2012 في ظلّ حكومة الترويكا. فتلقفت بذلك كرة اللهب المرميّة إليها من سابقتها دون رؤية واضحة حول حقيقة التحولات الجذرية في المنطقة أو تصور أولي حول استراتيجية الغرب الأمريكي والأوروبي في منطقة الربيع والعالم.
انعقد المؤتمر. وكان موقف تونس رفض تسليح الثورة السورية، وأنّه لا بديل عن الانتقال السلمي للسلطة. وبدا التعارض واضحًا بين موقف تونس الثورة والموقف الذي دفعت إليه الولايات المتحدة وبعض دول الخليج ردًّا على إمعان نظام بشّار الأسد في قتل المتظاهرين السلميين. ومع ذلك كان من الثورة المضادة ومن هامشها الشبّيحي إصرار على أنّ هذا التوجه كان خيار حكومتي الترويكا المتهمة بالتسفير والتواصل مع جماعات التطرّف العنيف في سوريا.
واستمرّ هذا السجال على مدى عشريّة الانتقال. وكان جزءًا من الصراع المحتدم بين الفرقاء في المشهد. ولم يتوقف توظيف الملف السوري في سياق استهداف المسار الديمقراطي المتعثّر. وعلى أساسه (ملف التسفير) أحيل إلى المحاكمة قيادات من المعارضة الديمقراطيّة المناهضة للانقلاب. وفي سياق هذه التجاذبات القوية جاء سقوط نظام بشار الأسد وقد مثل زلزالًا في المشهد السياسي المنقسم على قاعدة الموقف من حالة الاستثناء المستدامة بتداعياتها الكارثية، وعجز سلطة الانقلاب عن الخروج من الأزمة المتفاقمة التي تعصف بالبلاد.
هيمنة الإسقاط
ليس مطلوبًا من الطبقة السياسيّة أن تتخلّص من اختلافاتها الإيديولوجيّة وانقساماتها السياسيّة في تفاعلها مع الحدث السوري ولكن ليس من العقل ولا من السياسة أن تكتفي بإسقاط صراعاتها المحليّة على الموضوع السوري، فتعيد إنتاج تخاريفها التي أودت بالسياسة إلى الانهيار في تجربة ظلّت لأكثر من عشر سنوات غير بعيدة عن أن تكون استثناء جميلًا قياسًا إلى ما عرفته تجربة الربيع في بقيّة الأقطار من أهوال الاحتراب الأهلي (ليبيا، سوريا، اليمن) وجرائم الانقلاب الدموي (مصر).
كان الإسقاط هو الغالب على التعامل مع الثورة السوريّة، ولم يكن منتظرًا أكثر من ذلك. فقد كشفت عشريّة الانتقال عن خواء قيمي وسياسي داخل النخب وعجزها عن بناء المشترك وإدارة الاختلاف وصمتها المطبق أمام عودة الحكم الفردي المطلق. وكشف الانقلاب بما هو دوس على كلّ الحقوق والمبادئ وبديهيات الاجتماع عن ضعف علاقتها بالديمقراطيّة والحداثة السياسية والثقافة الأهليّة و"الدرجة الصفر للمقاومة" التي آلت عليها. وقد كانت تتطاوس في عشرية الحرية باسم المدنية ومكاسب الدولة الوطنية، فتصبح دعوة من مكتب المجلس لم تبلغ عضوًا من أعضائه في حينها إلى انقلاب سافر على الديمقراطية.
أحيا الانتباه إلى هويّة الثوار الإسلاميّة في سوريا الاستقطاب مع الإسلاميين في تونس من قِبَل ما يُعرف بـ"النمط المجتمعي التونسي" المنحدر من البورقيبيّة ومن تجارب اليسار المختلفة وقد أعيد إنتاجها جميعًا في مرحلة بن علي في مواجهة الإسلاميين، بعد انتخابات 89، فمثّلت القاعدة السياسيّة والإيديولوجيّة لنظامه. ولم يُعدِّل حضورُ العامل الإيراني في تونس من هذا الاستقطاب، فلم يخرج أتباعها عن موقع الممانعة الذي يضمّ بقايا نظام الاستبداد العربي وآخرها نظام بشار الأسد الآفل وما نسمّيه بالمقاومة الوظيفيّة. وهو الموقع المقابل لموقع الإسلاميين المنحاز أغلبهم إلى المقاومة المواطنية (في فلسطين) والمواطنة المقاومة (في أقطار الربيع).
أحيا الانتباه إلى هويّة الثوار الإسلاميّة في سوريا، الاستقطاب مع الإسلاميين في تونس من قِبَل ما يُعرف بـ"النمط المجتمعي التونسي"
والمتغيّر الأهم في هذا المستوى هو علاقة إيران بالإسلاميين. فقد عرفت تحولًا يمكن نعته بالجذري. ففي محاكمات الإسلاميين في 87 كانت عبارة "التنظيم السرّي الخميني" هي النعت الجديد المسند إلى حركة الاتجاه الإسلامي والتهمة المخترعة لإحالة مناضليها على محكمة أمن الدولة. غير أنّهم يقفون اليوم في الفسطاط المقابل لإيران. وهذا موقع لا يُتوقّف عنده بالتحليل الجادّ والتقدير المؤسَّس. بينما تقف المجاميع الماركسيّة والقوميّة إلى جانب إيران التي عوّضت بنيويًا "النظام العربي التقدمي" المعبر عن فكرة "الصمود والتصدي" بدءًا (في مواجهة اتفاقية كامب ديفيد)، وعن فكرة الممانعة لاحقًا (في مواجهة أوسلو ومسار التطبيع). وتبرر الجهتان المتقابلتان موقفهما المبدئي من إيران بقضية فلسطين. فتيار الممانعة من المجامع اليسارية يبرر قربه من إيران بانتصارها للحق الفلسطيني من خلال تجربة حزب الله في لبنان ودعم المقاومة في غزة، بينما يفسّر تيار المقاومة مناهضته للموقف الإيراني بالربط عضويًّا بين المقاومة والمواطنة. وتلك إضافة الربيع النوعيّة. وقد تمّ التعبير عنها في شارع الثورة يوم 14 جانفي/يناير 2011 بشعار واحد يجاور بين "إسقاط النظام" و"تحرير فلسطين".
أهمّ نقاط الاشتباك
تطور اشتباك الفرقاء في تونس حول الملفّ السوري بتطور المشهد السياسي في الشام مع سقوط نظام بشّار الأسد. وتتلخّص في ثلاث نقاط أساسيّة تبدأ بالعدوان الصهيوني على الجولان والتوسع في العمق السوري وتدميره لتركة النظام العسكرية مرورًا بأحداث الساحل وما عرفه من مواجهة بين فلول القديم والنظام الجديد وانتهاءً بما تشهده تركيا من توترات هذه الأيام. فالجهتان المتقابلتان المختلفتان في قراءة حدث 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 تتفقان حول الدور التركي الحاسم في سورية وتختلفان في تنزيله سياسيًا في حاضر المجال العربي ومستقبله. وتنتظم النقاط الثلاث في عنوانين بارزين: الاستبداد والاحتلال، التحرّر والتحرير، والمقاومة والمواطنة. وكانت هذه الثنائيّة حاضرة بقوة في اختلاف الجهتين حول الربيع وأطواره. ويشدّد أنصار الانتقال على أنّه لا يمكن للمشارك في الحياة السياسيّة الجديدة في تونس تحت سقوف الحريّة العالية المعمّدة بدماء الشهداء أن يبقى داخل الديمقراطيّة وثقافتها حين يميل أو يساند أو ينتصر لمحاولات وأد مسارها في هذا السياق أو ذاك، سواء كان ذلك في بداية الربيع أو مع غلق آخر فصوله في تونس.
ولكن الجديد في الاشتباك الحالي في مشهدنا أنّ ممّن كانوا ضمن أنصار الانتقال الديمقراطي في تونس والداعين إلى مقاطعة نظام بشار لأسباب سياسيّة وأخلاقيّة مبدئية غيّروا موقعهم حين ساندوا، بدرجة أو بأخرى، الانقلاب بدعوى "تصحيح المسار". وبذلك ساوَوْا بين أخطاء الديمقراطيّة وخطيئة الانقلاب عليها. وأكثر ما يسترعي الانتباه نقدهم الجذري للحكام الجدد في سوريا من منطلق ديمقراطي، مسلّطين الضوء على استئثارهم بكلّ السلطة تحت مسميات واهية من قبيل الحوار الوطني وتمثيل كل مكونات الشعب السوري. ورأوْأ في ذلك تجسيدا لشعار "من يُحرّر يقرّر".
وهذا نقد وجيه إلى حدّ بعيد. ولكنّه لا مصداقيّة له حين يصدر إما ممن كان عدوًا لبناء الديمقراطيّة واستمر على موقفه أو ممن كان من أنصار تأسيس الحريّة ثمّ غير موقفه. وإذا كان لا بدّ من نقد توجه الحكم الجديد في سوريّة فإنّه مطلوب من أنصار تيار استعادة الديمقراطيّة دون غيرهم نقد تجربة سوريا الجديدة من مرجعية الديمقراطية. كي يكون للنقد مصداقيّته.
وأمّا عن أحداث الساحل السوري، فإنّ اجتماع عديد القرائن يدفع إلى اعتبارها محاولة انقلابيّة كاملة الأركان، ولم يمنع فشلها من المرور إلى نسف محاولات الحكم الجديد في فرض عنوانه السياسي الأكبر: وحدة الأرض والسلاح. ويمثّل شرط إعادة بناء الدولة الأساسي. وهو عند الشرع ورفاقه مقدّم على مواجهة التوغّل الصهيوني الخطير في الأرض السوريّة. ثمّ إنّ لبقاء سوريا محتلة، بعد إسقاط النظام، من قبل قوى عظمى، واستشهاد أكثر من مليون وتشريد حوالي 13 مليون، ودمار أحياء كبرى من حواضر الشام العريقة دورًا حاسمًا في رسم أولويات البلاد.
ولا يمكن أن يلغي منطق الأولويات وضروراته أفق الديمقراطيّة واستحقاق المواطنة الكريمة لسوريا وشعبها. إذ لا أفق غيره عند من كانت الديمقراطية وإدارة التعارف بمنزلة العقيدة، وأما من ناهض شروط الديمقراطية وساند الانقلاب عليها، في طور من أطوار الربيع، وفي هذا السياق القطري أو ذاك، فهو آخر من يحق بوسعه أن يجعل من الحرية والديمقراطية مرجعيّة لنقد حكام سوريا الجدد.
منطق الجغرافيا السياسية
بمنطق الجغرافيا السياسية يُنتظر أن يكون للتحوّل الذي عرفته سوريا في نهاية السنة الفارطة آثار عميقة محلية وإقليميّة. وإنّ ما استعيد من استقطاب حادّ في تونس له نظائره في بقيّة المجال العربي وفي الجوار الإقليمي. وهذا شاهد على وحدة المجال العربي وعلى بقائه منطقة فراغ للتدخل وصراع النفوذ بسبب وقوف الاستبداد والاحتلال عائقين دون بناء كيانه السياسي مثل كل مجال اقتصادي وثقافي مستقل.
وفي الصف المناهض لثورة الشعب السوري وتحرير دمشق يقف كل من تقاطعوا موضوعيًا في اعتبار قيادات النظام الجديد مجموعة من الإرهابيين القتلة. والأهمّ ليس المساندة أو المناهضة وإنما محصولهما الجيوسياسي. ونشير في المسألة السوريّة إلى ثلاث قوى إقليميّة على علاقة مباشرة بسوريا قبل انتصار ثورتها التاريخي وهي الكيان وتركيا وإيران. والمفروض أن تكون تركيا وإيران في صفّ واحد مقابل دولة الكيان. ذلك أنّ المجالين الإيراني والتركي جاران للمجال العربي ويمثّل الكيان جسمًا غريبًا مزروعًا في قلب المنطقة العربيّة. وهو إلى جانب نظام الاستبداد العربي يمثّل مانعًا من اجتماعه قوّة استرتيجيّة وازنة في معادلة النفوذ الدولي والإقليمي. ولا يوجد ما يشير إلى حصول قناعة عند إيران وتركيا بأهميّة وحدة المجال العربي ودورها في أمنهما الإقليمي وفي صدّ مشروع الهيمنة الدولي الذي يهدّدهما استراتيجيًّا. ولكن يبدو أنّ الوسواس الإمبراطوري الذي يسكن التجربتين يجعل من عبارة الأمة مجرّد يافطة لتحقيق المصالح القوميّة.
وللتدقيق، نشير إلى أن لكل مشروع هيمني كبر أو صغر، قاعدة ارتكاز في المجال الذي يعتبره شرط هيمنته. من ذلك يمثّل الكيان نقطة ارتكاز مشروع الهيمنة الغربي بعد الحرب العالميّة الثانية. وسارت إيران بعد ثورتها وحربها مع العراق على النهج نفسه ومثّل حزب الله نقطة ارتكاز مشروعها في المجال العربي الذي سيشدّ إليه بقيّة مجالات النفوذ التي فتحتها ويسميها خصومها "الهلال الشيعي". ولقد اختارت إيران أن يكون "الحق الفلسطيني" مدخلها إليه. في حين لم يكن لتركيا نقطة ارتكاز داخل المجال العربي وبقيت متوترة بين وجهيها الأسيوي والأوروبي صورة من جغرافيتها المتوسطة بين القارتين. فهل تمثّل سوريا الجديدة نقطة ارتكازها؟
بمنطق الجغرافيا السياسيّة تكون الإجابة بنعم، غير أنه لا بدّ من تدقيق ليتوضّح موقع تركيا في علاقة بالكيان من ناحية وبإيران من ناحية ثانية. وفي ذلك نشير إلى المفارقة التي تطبع علاقتي تركيا وإيران بالمجال العربي اليوم. فتركيا التي ما تزال تحافظ على علاقة كاملة بالكيان وقفت مساندة للربيع، أمّا إيران التي جعلت من تمددها الإستراتيجي في المجال العربي طُرُقًا نحو الأقصى والقدس فقد وقفت ضدّ الربيع في سوريا واعتبرت ثورة شعبها مؤامرة أطلسيّة بأداة تكفيريّة.
نحن إذن أمام ثلاثة مرتكزات في مجالنا: واحد للمشروع الهيمني الغربي (إسرائيل) وآخر للمشروع الإيراني (حزب الله) وثالث للمشروع التركي (سوريا الجديدة). ومن الملاحظ أنّ الطوفان هزّ نقطتي ارتكاز الغرب وإيران. مع فارق في الضرر. هو الفارق بين الانكسار الاستراتيجي الذي لحق الكيان والهزيمة الإستراتيجية التي لحقت بإيران. فلم يكن سقوط لنظام بشار سوى نتيجة لاستهداف حزب الله مرتكز إيران الإستراتيجي في لبنان والمنطقة. وقد كانت مساهمة الخارجة عن إرادته الكيان في هذا واضحة، فجاء عدوانه على سوريا الجديدة، يوم دخول الثوار إلى دمشق، لتدارك "عبث" ناتنياهو الذي بدا، عند بعض صنّاع الإستراتيجيات في الكيان، أشبه بـ"حاطب ليل".
تحولات جذريّة
وإذا سلمنا بأنّ "سوريا المنتصرة" تمثّل مرتكز المشروع التركي في مجالنا فإنّ قيام هذا المرتكز جاء نتيجة للطوفان الذي خلخل مرتكزي المشروع الهيمني الغربي والمشروع الإيراني. وهذا فارق استراتيجي نوعي كثيرًا ما يغيب عن جدل الإستراتيجيا في منطقتنا. وغالبًا ما يُستعاض عنه بالعامل الإيديلوجي فيحل الاستقطاب مع الإسلاميين محلّ التحليل الجيوسياسي الرصين. وهذا ما نشهده في تونس من جدل حول الأحداث الأخيرة في تركيا. وتبشير بعض من استراتيجيينا بانهيار المشروع الأردوغاني الإخواني في تركيا إلى آخر الأسطوانة البائسة. ويقفز هؤلاء الأفذاذ (منهم مهندسون معماريون ينتحلون اختصاص الجيوبوليتيك) على أنّ تركيا بنت ديمقراطيتها المستقرّة وكان للإسلام السياسي دور حاسم في تأسيس الديمقراطيّة حين بلغ أعلى مراحله التي نربط بينها وبين قيام الديمقراطيّة (أطروحة كنا عرضناها في مقالات سابقة).
وإذا كانت الكماليّة مؤسسة الدولة الوطنيّة فإنّ الأردوغانيّة مؤسسة الديمقراطية التركيّة. وأردوغان من العابرين مثل غيره والسؤال الأهم هو هل تصمد الديمقراطيّة التركيّة في منطقة زوابع عالميّة مركزها الغرب الهيمني الذي لا شجاعة له كي يحمل قيمه خارج مجاله. وتمثل دولة الكيان نموذجه الأوفى فالكيان لا يحمل قيم ديمقراطيّته التي يقيم عليها كيانه اليهودي إلى الضفة والقطاع. بل إنّه لا يمنحها لفلسطينيي الـ48 فيعاملهم معاملة ميز عنصري صهيوني.
لا أفق لسوريا الجديدة التي يعتبرها البعض مرتكزًا للمشروع التركي العثماني سوى بناء ديمقراطيّة مواطنيّة سيّدة، خصمها الأول هو الكيان
وفي كلّ الأحوال، فإنّ لا أفق لسوريا الجديدة التي يعتبرها البعض مرتكزًا للمشروع التركي العثماني سوى بناء ديمقراطيّة مواطنيّة سيّدة. وإنّ خصمها الأول هو الكيان الذي بدأ يستشعر بنهاية دولته الوظيفيّة تحت قرع الطوفان. ويعود سلوكه الهستيري في غزّة إلى عجزه عن حسم المعركة بعد سنة ونصف. وهو المسكون بقناعة أنّ أول هزيمة له تعني النهاية. وتلك خصيصة الكيانات الوظيفيّة. وإنّ أكثر ما يقضّ مضجعه أن يكون "جاره" إسلامي. وقد عاش هذه الحالة مع الثورة في مصر ولكنه تمّ طيّها بالانقلاب وقتل الرئيس المنتخب. وسيبذل قصارى جهده لطي الصفحة السوريّة بشحن أسباب الانقسام وهي عديدة في بلد مدمّر لأكثر من خمسين عامًا بأحط ما يمكن أن يفرزه الاستبداد.
ويدرك الكيان أكثر من غيره من المؤدلجة العرب بأنّ حكام سوريا الجديد خلاصة لتحولات الثورة السوريّة التي بدأت مع اليسار الوطني السوري في ربيع دمشق (2000ـ 2001) وتبلورت بدخول المكون الإسلامي ومنه الجهادي في مواجهة النظام والتدخل الأجنبي والمكون التكفيري في الوقت نفسه. وقد كنّا اعتبرنا في مقالات سابقة مواكبة لثورات الربيع بأنّ الإسلام السياسي يمثّل شرط الديمقراطيّة الأساسي بناء على ما انعقد من انتخابات حرّة في بعض أقطار الربيع، غير أنّ ما عرفه السياق السوري بجمعه بين الاحتلال الخارجي (خمس دول تحتل البلاد) والاحتلال الداخلي (نظام بشار الأسد) تنبّه إلى بروز مكون جديد نسميه "الإسلام الكفاحي" لجمعه بين مهمّتين: تحرير البلاد وإقامة الديمقراطيّة (كنا اقترحناه في مناسبات أكاديمية بديلًا عن "الإسلام السياسي" مقترح الأكاديميا الغربيّة، وسنعود إليه بتدقيق أكثر). لذلك فإن ثوار سوريا ليسوا مطالبين بالانتباه إلى تلازم المقاومة والمقاومة وإنّما هم أمام واقع وطني يجعل من التفكير في إقامة ديمقراطيّة في ظل المستعمر مزحة ثقيلة ومن مقاومة المحتل خارج أفق بناء المواطنة جهدًا متهافتًا واستعادة "وطنيّة" العسكاريتاريا العربيّة التي عجزت عن أن تكون "مواطنيّة".
إذا تلقينا في تونس ما يحدث في فلسطين وسوريا وما حولهما في ظلّ هذا الفهم بديلًا عن الإسقاط الإيديولوجي العقيم والتجاذب السياسي المدمّر فإنّ ذلك قد يكون خطوة صحيحة في سبيل الخروج من حالة الانسداد التي نعيش وحقيقة الانهيار المتواصل لما بقي من الدولة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
الكلمات المفتاحية

الظّلم ظلمات.. ماذا بعد؟
لا يُمكن تجاوز السّياق الّذي يتنزّل فيه الإضراب الجماعيّ عن الطّعام، إذ تتلقّى منظّمات المجتمع المدنيّ الضّربة تلو الأخرى، عبر آلية تعليق النّشاط، في انتظار ما يمكن أن يكون أعظم

أمّا التّسلّطيّة فليست مجازًا!
"الحكم ضدّ أحمد صواب يأتي كاشفًا لإمعان السّلطة في التّذكير بأنّ الخلفيّة المهنيّة للمتّهم أو مكانته الاجتماعيّة لا تحميه من بطشها، وهو تكتيك قديم قِدم الأنظمة التّسلّطيّة الّتي تعاقبت على حكم البلاد"

قضية أحمد صواب.. ليست محاكمة حتى نسأل عن المحاكمة العادلة
"ستمرّ المحنة يومًا ما وسيغادر أحمد صواب السجن يومًا ما، بقرار من أدخله أو لسبب آخر، ولن نستذكره دائمًا إلا رمزًا لمحاماة منحازة لقيمها ومبادئها.."

طقس تونس.. أمطار في عدة مناطق وانخفاض طفيف في درجات الحرارة
معهد الرصد الجوي: درجات الحرارة القصوى تتراوح بين 16 و21 درجة في الشمال والوسط، وتصل إلى 27 درجة في بقية المناطق

"مصدر انبعاث غازات مسرطنة".. وقفة احتجاجية في قليبية للمطالبة بغلق مصب
انتظمت يوم الاثنين 17 نوفمبر 2025، أمام مقر معتمدية قليبية من ولاية نابل وقفة احتجاجية للمطالبة بالإسراع في غلق المصب العشوائي بوادي ليمام، وذلك بمبادرة من فرع قربة–قليبية للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد المحلي للشغل قليبية–حمام الغزاز، وبمشاركة عدد من المواطنات والمواطنين المتضررين من الوضع البيئي المتدهور بالمنطقة

كاتب عام اتحاد الشغل بصفاقس لـ"الترا تونس": متمسكون بالإضراب وبحق العمال في الزيادات
أكد الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس، يوسف العوادني، لـ"الترا تونس"، يوم الاثنين 17 نوفمبر 2025 تمسّك الاتحاد بتنفيذ الإضراب العام يوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 في القطاع الخاص، احتجاجًا على تعطّل المفاوضات الاجتماعية الخاصة بالزيادة في أجور سنة 2025

تونس تتسلم 47 سيارة إسعاف من الاتحاد الأوروبي
أعلن الاتحاد الأوروبي، يوم الاثنين 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، عن تسليم 47 سيارة إسعاف كاملة التجهير إلى تونس في إطار برنامج "الصحة عزيزة"، الذي يهدف إلى دعم القطاع الصحي وتعزيز الوصول إلى الخدمات الصحية في الخطوط الأمامية وجودتها

