30-يناير-2021

انقلبت الموازين بسبب الجائحة فأصبح العازف نوتة حزينة والمسرحي تراجيديا والكاتب بلا قلم وحارس المتحف سجينًا (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

منذ بدء انتشار فيروس كورونا، أصاب الوهن العالم وغابت معالم الفرح والبهجة فيه حتى بات كعجوز مثقل بالأمراض المزمنة. منذ إشراقة صباحه ينطلق عدّاد الإصابات والوفايات ويبدأ الصراع اليومي للنجاة من العدوى، وأعظم اهداف الإنسانية تتلخّص في العودة للبيت دون أن يفتك بك الفيروس.

"كورونا" تلك النقطة الفاصلة ما بين عهدين وزمنين، مفردة خلقت تقويمًا زمنيًا جديدًا  لكلّ الأحداث الحاصلة على هذه البسيطة: ما قبل كورونا وما بعدها.

وتمر أمامنا، يوميًا، المئات من القصص التي من فرط ما أوجعت ما عاد الحرف يستوعبها، قصص جعلتنا نخال لوهلة أنّنا كوّنا مناعة عاطفيّة ضدّ أخبار الحزن والموت. 

كما كان لجائحة كورونا تداعيات على الاقتصاد والمال والأعمال، كان لها أيضًا أثرها على الفن والإبداع، فعبثت به وأصبح باعث الحياة يتخبّط ويصارع من أجل العيش

وسال الحبر كما الدمع وكتب عن الاقتصاد والمال والأعمال، عن المستشفيات والاستعجاليات واللقاحات. لكنّ الحديث عن الإبداع والفنّ قلّ. والفن حياة.  فكيف داهمت كورونا هذا العالم الوردي وعبثت به فأصبح باعث الحياة يتخبّط ويصارع من أجل العيش؟ كيف انقلبت الموازين فأصبح العازف نوتة حزينة والمسرحي تراجيديا والكاتب بلا قلم وحارس المتحف سجينًا؟ كيف ضاق الصدر بالشاعر واسودّت ألوان الرسام وانطفأت أضواء المسارح؟ 

رمزي سليم: "مهنتي أوجعتني لكنّي أحبّها"

البحث في قصص المتأثرين بجائحة كورونا بين صفوف الفنانين كالبحث عن إبرة في كومة قش. فأغلبهم متعفّفون عن الحديث في وضعياتهم الخاصّة، مندفعون في الحديث عن حقّ المجموعة. و كلّما حاولت استدراج أحدهم للحديث يرسلك لصديق له قائلًا: "هو يستحق أكثر منّي أن تتحثي عنه". وأجمع أغلب الذين تواصلنا معهم على اسم "رمزي سليم". 

اقرأ/ي أيضًا:  حوارات | كيف يفهم كبار أساتذة الفلسفة في تونس أزمة كورونا؟

الفنّان حساس بطبعه فكيف لك ان تختار كلماتك وتنتقي أسئلتك لكي لا يوجعه حرفك، فما بالك لو كان المُحاوَر رمزي سليم.

رمزي سليم أعطى أكثر من عشرين سنة من عمره للفن

رمزي سليم الذي أعطى أكثر من عشرين سنة من عمره للفن ما بين تمثيل مسرحي وتلفزي وسينمائي، وفي المقابل لم يعطه القطاع حقّه.

"مهنتي أوجعتني لكنّي أحبّها، مهنتي أضرّت بي لكنّي أحبّها"، كلمات لفظها بوجع ممثّل ثائر وحرقة زوج وأب عاجز.

لنبدأ الحكاية من أوّلها، انطلقلنا من باب سويقة  وصولًا لمقهى "سيدي عمارة" الذي يقع في الحي العتيق بالحلفاوين. مكان على بساطته له رمزية خاصة لمحدّثنا كيف لا وقد كان قبلة للمشاهير والأدباء والفنانين على مرّ السنين. 

لم نشعر بمسافة الطريق خاصّة وأنها كانت حافلة بحكايا رمزي حول طفولته وعائلته وأحلامه. ذلك الطفل ذي الستّ سنوات الذي دخل صدفة للمسرح بسبب فتاة كان معجبًا بها، تبعها يومًا ليجد نفسه في قاعة المسرح التي علّق قلبه بها. اختفت الفتاة وبقي المسرح نبض رمزي. 

وعلى امتداد حديثه استحضرت مقولة عصفور الشرق توفيق الحكيم "لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم ".  فما عاشه محدّثنا في طفولته من مآس واحتقار جعلته يقسم أن يترك أثره في مجال التمثيل.

فور جلوسنا بدأنا الحديث حول أثر كورونا على حياة رمزي سليم: "لقد أثرت سلبًا على حياتي سواء على المستوى المعيشي أو العملي فإيقاف العروض يعني إيقاف الحياة بالنسبة لي، خاصة وأنّي لا أملك أيّ مدخول مادي سوى من مهنة التمثيل. فالحصول على البطاقة المهنية للاحتراف  يقتضي تصريحًا على الشرف بأن لا يكون لنا مصدر دخل آخر، وأنا لي مصدر واحد".

قالها وهو يشير ضمنيًا بأنه كان يتمنى أن يكون له وسيلة أخرى للحصول على المال لإعالة عائلته.

الممثل رمزي سليم لـ"ألترا تونس": وزارة الثقافة دائمة الغياب ووضعية الفنانين هي آخر اهتماماتها، فالملفات تضيع في ممراتها وأصوات المحتجين لا تتجاوز حناجرهم 

فرمزي أب لـ"حمّودة" وزوج لـ"حبيبة"، ثنائي يصنع سعادته في ظل الظروف السيئة التي يعيشها. فمحدّثنا يذكرهما بين كل حرف وحرف وكأنه يقول إنهما السند والأمل والدافع الوحيد للحياة. 

ليس من السهل أن يقول لك فنّان إنه ندم على اختيار طريقه ولكنّ والد حمّودة قالها بوجع: "لقد ندمت على مهنة التمثيل، لو كنت أعزب ما كان الأمر ليزعجني إذ تعوّدت مغالبة الحياة منذ الصغر. ولكن عندما تجد  نفسك عاجزًا عن توفير أبسط الإمكانيات لعائلتك وقتها تتمنى لو تشقّ الأرض وتبتلعك".

للمحن منح، أوّلها اختبار معادن الناس وآخرها معرفة مكانتك في محيطك. وهذا ما اكتشفه رمزي سليم منذ انطلاق جائحة كورونا، إذ هبّ العديد من أصدقائه لمساندته وأصرّ محدّثنا على ذكر أسمائهم وعبّر عن امتنانه الشديد لكلّ ما قدّموه له ولعائلته ومنهم معز القديري، وسهام مصدق، ولمياء العمري وهاجر طرهوني وغيرهم من أبناء حيّه وبعض جمهوره ومتابعيه. وعزّز ما قاله بهذه الكلمات:" لقد عشقت مجال التمثيل، امتهنته بحبّ وضمير لذلك لم أجن منه سوى محبّة الناس".

الجزء الأخير من دردشتنا كان حول موقف وزارة الثقافة من معاناة الفنان في زمن كوفيد 19. وعند ذكر الدولة ومؤسساتها انقلبت النبرة وضاق النفس واشتعلت السجائر الواحدة تلوى الأخرى.

 "وينك يا وزارتي" هكذا قالها الممثل المحترف رمزي سليم معيبًا تقصير وزارة الثقافة مع مثقفيها. وهذا ليس بجديد عليها حسب محدّثنا إذ أكد انّها وزارة دائمة الغياب وأن وضعية الفنانين هي آخر اهتماماتها، فالملفات تضيع في ممراتها وأصوات المحتجين لا تتجاوز حناجرهم.  

اقرأ/ي أيضًا: الشاعر عبد الفتاح بن حمودة: "لم ينصفني جيلي لكن الشعر أنصفني" (حوار)

ونبرات الحنق والسخط توشّح صوته، أضاف قائلًا: "لقد قتلونا بإجراءاتهم المعقّدة. وإلى اليوم لم يلتفت لي أحد من الوزارة. حتى منحة  كوفيد 19  التي أعلنت عنها شيراز العتيري لم يتحصّل عليها سوى القليل من الفنانين."

وختم حديثه قائلًا: "الفنّان فكرة والفكرة عمرها ما تموت".

هل تعمقت أزمة الكتاب جراء جائحة كورونا؟

لنتحدّث الآن عن الكتاب، ذاك الجسم الورقي الذي يحول بينك وبين قتامة العالم، يكسر الحجر الصحي زمن كورونا ليسافر بك دون أن تحتاج لحجز مقعد على طائرة قد تحمل الفيروس في حواشيها.

زمن الوباء وحظر التجوال كان الكتاب متنفّس الجميع في كامل أصقاع الكون، فكيف هو الحال في تونس يا ترى؟

لا يخفى على أحد منّا ما يعانيه هذا القطاع حتى قبل انتشار الوباء سواء من ضعف الإقبال على القراءة، وارتفاع تكلفة النشر، والاعتداء على حقوق ملكية الفكر والإبداع، ورواج ظاهرة القرصنة الإلكترونية وغيرها من المشاكل.

زمن كورونا، انتعش الكتاب في عديد دول العالم ولكن حالنا في هذا البلد مغاير إذ أنّ إغلاق المكتبات كانت من أولى الإجراءات على اعتبار أنّه قطاع غير حيويّ

هي أزمات مزمنة ضاعفها غلق مكتبات البيع وإلغاء المعارض الدولية التي تعتبر المتنفّس الأوحد لصنّاع الكتب.

وحديثنا سيكون عن إحدى المكتبات التونسية التي خسرت ما يقارب السبعين بالمائة من رقم معاملاتها منذ بداية انتشار كورونا في تونس. مكتبة منتصبة منذ أكثر من ثلاثين سنة في قلب العاصمة التونسية لها روّادها ونواميسها يتحدّث عنها أحد موظّفيها لطفي جلولي: "قطاع الكتاب يشكو صعوبات كثيرة تعمّقت مع  الحجر الصحّي. مررنا بأزمة اقتصادية كبيرة انطلقت منذ الإعلان عن إلغاء معرض الكتاب الدولى في مارس/آذار الماضي فبعد أن أكملنا كلّ التحضيرات قضي علينا بخبر اللإلغاء. بالاضافة إلى أن مقتنياتنا من الكتب أغلبها من الخارج ولكن مع إجراء غلق الحدود لم نتمكّن من جلب العديد من الإصدارات المهمّة".

زمن كورونا، انتعش الكتاب في عديد دول العالم ولكن حالنا في هذا البلد مغاير إذ أنّ إغلاق المكتبات كانت من أولى الإجراءات على اعتبار أنّه قطاع غير حيويّ، تصنيف يعكس رؤية الدولة لقطاع من فرط ما هُمّش، آثر أغلب أعلامه ومبدعيه الهجرة حسب ما أكّده لنا الجلولي.

صورة من إضراب الفنانين ضد إلغاء الفعاليات الثقافية بسبب جائحة كورونا

ويقول: "القطاع الثقافي هو آخر اهتمامات الدولة، وبهدمه فإنها تهدم ركنًا أساسيًا في تكوين التونسي وهو الفكر. وأبسط دليل على الاستخفاف بالثقافة هو إلحاق وزارة الإشراف بوزارة السياحة وكأنّها أكسسوار زائد. كلّ هذه العوامل جعلت عددًا كبيرًا من الكتّاب يتوجّهون للشرق ولم نستطع حتى جلب إصداراتهم".

وهو يواصل الحديث عن أزمة الكتاب زمن كورونا يشير إلى أن تكاليف نشر الكتاب تضاعفت اليوم بسبب الجائحة، كما أن هناك مشاكل في التوزيع بين الولايات خاصّة مع إجراءات منع التنقّل على حدّ تعبيره، مضيفًا أنّ كورونا أهلكت البلاد اقتصاديًّا والدولة قتلت العباد ثقافيًّا.

اقرأ/ي أيضًا:  مسرحية ذاكرة.. مرارة الذكريات على عتبات النسيان

"ما نحتاجه اليوم هو نظرة استشرافية لبناء مستقبل فكري للشباب، وهو ما يتطلّب استراتيجية كاملة تعيد الاعتبار للمبدع والمثقّف" هكذا عبّر محدّثنا عن رؤيته لإصلاح القطاع الثقافي. وطالب الدولة بمراجعة أوقات حظر الجولان وعدم إلغاء المعارض الوطنية والدولية وإنشاء معارض داخل البلاد.

لطفي جلولي (مسؤول بمكتبة): القطاع الثقافي هو آخر اهتمامات الدولة، وبهدمه فإنها تهدم ركنًا أساسيًا في تكوين التونسي وهو الفكر

وختم حديثه قائلًا: "لا تتقدّم الدول إلا عند تقدّم الشأن الثقافي والفكري. والتونسي مقبل على الحياة ومتعطش للمعرفة لذلك وجب إيجاد الآليات المناسبة لزرع الأمل في هذا الشعب".

السطمبالي موسيقى نادرة خفت صوتها زمن الوباء

أجمل ما في العمل الميداني أنّه يجعلك تزور أماكن جديدة وعلى الرغم من أنّ وجهتنا وقصّتنا القادمة رصدناها من عمق المدن العتيقة إلا أن مكان الحوار كان ساحرًا. كيف لا وقد أجريناه في أسطح "مقهى المرابط" حيث ترى معانقة السماء للمساجد ورفرفة طير الحمام الزاجل وتستشعر رحابة هذه الأرض وطهرها.

أمّا القصّة فارتبطت بكلمة سمعتها مع بداية حراك "سيّب الليل"، حين صرّح أحدهم بأن هناك من العازفين من باع آلاته من أجل تحصيل لقمة العيش. أثّرت فيّ هذه الكلمات وأوجعتني، فكيف تباع الآلة التي تعتبر امتدادًا لجسد العازف؟ فالعلاقة بينهما تتجاوز فعل العزف فقط، إذ أنّ جلّ من التقيت من العازفين ينسجون علاقة وطيدة مع آلاتهم فمنهم من يعتبرها عشقًا، سندًا وحتى وطنًا يحوي كلّ آهاته وضحكاته.

عازف "القمبري" بلحسن ميهوب

ولكنّي للأسف لم أصادف أحدهم لذلك اخترت عازفًا بطلًا لهذه القصّة كتحيّة إكبار لكلّ ناشري السعادة بنغماتهم في قاعات العرض والمهرجانات أو حتى على أرصفة الطرقات وداخل جدران الحانات. 

اخترته عازفًا لموسيقى نادرة في هذه البلاد لكنها متأصّلة في موروثنا الثقافي. هي موسيقى السطمبالي وبطلي عازف القمبري بلحسن ميهوب وهو شاب موهوب. ينحدر بلحسن من عائلة "برنو" وهي من أعرق العائلات التونسيّة التي توارثت هذه الموسيقى. شاب ذو 36 ربيعًا أمضى أغلبها في الحفاظ عما توارثه عن والده "الينّا" عبد المجيد ميهوب.

اقرأ/ي أيضًا:  صانع العود فيصل الطويهري.. حرفي يُبدع في خلق صوت الشجن

سحرني حديث بلحسن عن هذا العالم، فكما لكلّ لغة قواعدها ولكلّ تراث طقوسه، فإن لعالم السطمبالي مفرداته التي تحتاج شرحًا لتبقى راسخة في الذاكرة. فالآلات والملابس وحتى الرقصات لها تسميات خاصّة وطقوس استعمال مميّزة ولكنّها تحمل في طيّاتها معاناة وآلامًا رافقت رحلة العبيد الزنوج إلى شمال إفريقيا. سافرت معه لعالم مليء بالأسرار حتى كدت أنسى موضوعنا الرئيسي وهو كيف أثرت الجائحة على حياته. مؤلم جدًّا ما فعلته كورونا بصانعي الفرح وباعثي البهجة فتخال أنّ آلاتهم تحزن لحزنهم. 

"كورونا وضعتنا في موضع لا نحسد عليه، فالعازف لا مورد رزق له سوى العروض التي يقوم بها. انقطعت العروض وتوقّفت حياتنا" هكذا تحدّث بلحسن عن الوضع الذي يعيشه في فترة الوباء ولم يخفف وطأته سوى المساعدات التي يلقاها من بعض أصدقائه أو ما يجنيه من بيع آلاته الموسيقية كالقنبري والدف.

بلحسن ميهوب (موسيقي): كورونا وضعتنا في موضع لا نحسد عليه، فالعازف لا مورد رزق له سوى العروض التي يقوم بها. انقطعت العروض وتوقّفت حياتنا

 فالموسيقى التي يعزفها تشكو إهمالًا من سلطة الإشراف ولم تول العناية التي تستحق رغم أنّ هذا الموروث قادر على جلب العديد من السياح وقد استشهد محدّثي بالدولة المغربية التي تولي اهتمامًا كبيرًا بموسيقى القناوة وهي تعتبر وجهة للعديد من الفنانين من كامل أنحاء العالم.

وعدنا من جديد للحديث عن السطمبالي وليس كورونا، فمحدّثي متألم جدًّا لواقع هذه الموسيقى فكلّما وجّهته بأسئلتي للحديث عن الجائحة إلا وأجده يندّد بهذا الإهمال كيف لا وقد تواصل معه باحثون أمريكيون وفرنسيون من أجل رصد تاريخ السطمبالي ولم تلتفت له دولته.

الثقافة في أرقام

رحلة البحث عن البيانات في تونس كرحلة البحث عن لقاح لفيروس كورونا، غير أنّ بوادر الرحلة الثانية شارفت على الإنفراج أما أزمة الأرقام لم يوضع لها بعد حجر الأساس. فكلما اتصلت بإدارة ما لتطلب بعض الإحصائيات تلقى الاستغراب والاندهاش كأنّك طلبت حلّ معادلة كيميائية أو حلّ مسألة رياضيات.

محصّلة رحلتنا هي هذا الرسم التوضيحي إذ حفرنا الأرض عميقًا حتى انفجرت منها "فانا" هذه الأرقام يتيمة المصدر. فالبعض سُرّب والبعض الآخر أخذ خلسة، ومن الأرقام ما كان مصدره نقابة وليس هيكلًا رسميًا تابعًا للدولة.

الثقافة في أرقام في تونس (إيمان السكوحي / الترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

حصاد الثقافة في تونس سنة 2020: كورونا تقسو على قطاعات وتنعش أخرى

أيام قرطاج السينمائية: الدورة 31 تتحدى كورونا وتغوص في ذاكرة المهرجان