23-أغسطس-2015

"الرجال أولاد كلب، لا يقدم واحدهم خدمة دون مقابل"

يُعري الروائي التونسي كمال الرياحي، في روايته "عشيقات النّذل"، الصادرة عن دار الساقي، واقع المجتمعات العربية إبان الثورات، حيث الفساد الاجتماعي، وتفشي الجريمة والخيانة والعلاقات الانتهازية والعنف، إضافة إلى الانتهاك المقزز للإنسان، أي بتعبير الكاتب نفسه، حيث النّذالة. اعتمد النص لغة صادمة وبذيئة تكاد تضاهي العالم المتخفي في الظلّ، لكن بأسلوب روائي مركب وجمالي، وبتواتر سريع للجمل، ما جعل الرواية تحبس الأنفاس.

تقوم رواية "عشيقات النذل" على عداوات متخفية، إذ الجميع عدو الجميع

لا يلبث القارئ أن يشعر أنّه دخل صلب اللعبة الروائية، حتى يخرجه منها الكاتب، ويقذفه إلى حيلة أخرى أشدّ تعقيدًا، حتى ليعتقد أنّ الكاتب يتسلى به، قذفًا والتقاطًا سريعًا، ثمّ قذفًا والتقاطًا سريعًا، إلى أن يدرك، بإتمام الرواية، تلك اللعبة المرحة، إذ تتجمّع خيوط متشابكة ومعقدة من العلاقات المشوهة في ذهن القارئ، ويصبح شريكاً في صناعة النص.

يجد كمال اليحياوي، وهو كاتب وسيناريست ذائع الصيت، حياته تتكشف، مرة أخرى، أمام سؤال حياة وهي إحدى عشيقاته" أنا حبلى، ولن أجهض، هل ستبقى معي؟"، يبدو سؤالها مشروعًا، لولا أنّها تصارحه بكونها حبلى من غيره.

إنه الموقف الذي حدث له قبل سبعة عشر عامًا، عندما سألته عشيقته، وزوجته لاحقًا، ناديا السؤال ذاته. وقرّر حينها الزواج منها، لتصبح سارة ابنته بشكل نظري، وعشيقته الثالثة، لتكتمل صورة عشيقات النّذل الأربعة مع هند المونديال مومس الممثلين، والتي تدفع باليحياوي إلى عالم التمثيل، بعدما دفعته ناديا بعلاقاتها الكثيرة إلى عالم الكتابة والشهرة باعتبار أنّها تملك مؤسسة إعلامية ضخمة، وتتخذ حتى من رحلات الصيد، فرصة لإجراء عقود للإعلانات، لنستنتج أنّ اليحياوي، الكاتب والممثل، هو محصلة علاقتين انتهازيتين، إضافة إلى مختبر لفئران احتجزهم في القبو ويرسل إلى أهاليهم المال اللازم. الفئران، هم طلابه في درس الدراماتورجيا. وفق تلك الطبخة العجيبة من الزيف، تتم صناعة الكاتب والممثل النجم.

دار الساقي

ينطلق الكاتب من حقيقة مفادها، أنّ الرجال أولاد كلب، لا يقدم واحدهم خدمة دون مقابل، وبالتالي لم يَقلّ أصدقاء النذل عن عشيقاته في الاستغلال، والتآمر على بعضهم البعض، لقد كانوا مجرد أنذال في خدمة بعضهم البعض. بوخا القاتل المأجور الذي يتخذه الكاتب مثالًا فجًا على استمرار العقلية القديمة، حيث "سقط النظام ولم يسقط المخبر القميء"، وحسن ستيلا، صديقه وغريمه على مستقبل ابنته، وايفو اليهودي القذر بيت أسراره، وقد اختاره كي يكتب له رسائل من مستشفى السجن، كان كمال اليحياوي قد دخله، بعد اتهامه بقتل ابنته.

يقوم النص على عدة عداوات متخفية، إذ الجميع عدو الجميع، في الوقت ذاته الجميع أصدقاء. "كنت أحسب أنني أهرب إلى صديق أشكوه همي فإذ به ذئب يبرد نابه". لكن ثمة عداوة واحدة واضحة وجليّة، ومن الطرافة نشوؤها، لقد بدأت بتشابه أسماء في محاضرة الحضارة، انتصر به الكاتب اليحياوي على الناقد اليحياوي، ليرد الأخير له ذلك، بزواجه من ناديا قبل أن تعود إليه لتفرض نفسها زوجةً عليه، ولتبقى البنت سارة ميدان صراع مؤسف، ينتهي بموتها. وبموت الناقد أيضًا.

في الرواية حشد كبير من الدلالات، هند المومس التي لا تحتمل العاصمة غيابها. التي لا تمرض ولا تتعب، وقد كان فرجها العظيم شاهدًا على حركة المسرح وذاكرة الأفلام التونسية. وإيفو الذي يتركون له أشياءهم القذرة ويرحلون، كي ينظف وراءهم.

يرى كمال اليحياوي أنّ "التبول حدث عظيم. الأمر الوحيد الذي يتكرر كل يوم بنفس العظمة لذلك علينا أن نحتفل به"، ولذلك يبدو منطقيًّا أن ترميه العشيقة الوهمية "كما ترمي الولاعة". تختصر مقولة اليحياوي حول التبول وكيف رمته حياة كما ترمي الولاعة، على نحو بالغ التكثيف، حقيقة كمال اليحياوي، ويبدو تعميم ذلك على الإنسان العربي، إنسان ما بعد الثورات أمراً مفجعًا وشديد الحساسية. كيف يصير التبول سببًا للاحتفال، وقيمة الإنسان بقيمة ولاعة؟ إضافة إلى أنّنا أمام شخص يعرف كونه نذلًا ويتصرف على ذلك النحو من النّذالة، لا مشكلة لديه في شيء. غياب الشرف، هو شرفه الوحيد. وحجته المبهرة، في واقع تكون فيه الفظاظة مقياسًا للعشق، والعطش للشر هو مكيال الحسنات.