قصة الخط الحديدي عدد 2 الرابط بين تونس العاصمة ومدينة طبرقة

مقال رأي 

حوار قصصي من وحي الخيال (تدور أحداثه في تونس سنة 1939 مع بدايات الحرب العالمية الثانية):

• ليليان (سيدة فرنسية تجلس في شرفة شقتها بشارع روسطان بالعاصمة تونس تحتسي قهوة مع زوجها جوزيف) والحيرة بادية على محياها: هل سنعود إلى أهلنا في سان تيتيان هذه الصائفة؟

• جوزيف: لا يا ليليان إن فرنسا تعيش على وقع الحرب، سنغير وجهتنا هذه الصائفة ونذهب إلى أصدقائنا في مدينة طبرقة في أقصى الشمال الغربي التونسي عبر قطار الخط الحديدي رقم 2 ونتمتع بمناظر بديعة تشبه طبيعة مدننا بالشمال الشرقي الفرنسي.

هذا الحوار هو محفز فني لا غير من أجل الحديث عن خط شهير للسكة الحديدية وهو "الخط عدد 2" الرابط بين العاصمة تونس ومدينة طبرقة بأقصى الشمال الغربي التونسي، ذات الجبال الغابية المطلة على البحر الأبيض المتوسط حيث المنابت الفريدة التحت بحرية للمرجان الأحمر، وقد أنشأه الاستعمار الفرنسي (1881 ــ 1956) ضمن شبكة حديدية بمئات الكيلومترات تمتد من شمال البلاد التونسية إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، وكان الهدف الأسمى لهذا الإنجاز ليس رفاهية التونسيين، بل من أجل نقل خيرات البلاد وشحنها إلى فرنسا وأيضًا من أجل رفاهية المعمرين الفرنسيين الذين استوطنوا أخصب الأراضي وأجملها وتمتعوا بذخائرها ومقدراتها.

خط السكة الحديدية عدد 2 الشهير، الرابط بين العاصمة تونس ومدينة طبرقة، أنشأه الاستعمار الفرنسي لنقل خيرات البلاد وشحنها إلى فرنسا وأيضًا من أجل رفاهية المعمرين الفرنسيين 

كل خطوط السكة الحديدية (الخطوط البعيدة وخطوط الضواحي) التي أنشأتها فرنسا بتونس، تتجمع في الذهاب والإياب بمحطة رئيسية بالعاصمة تسمى "محطة تونس" لكن عموم التونسيين يسمونها "محطة برشلونة" نسبة إلى تسمية الحديقة والساحة المجاورة لها، ومن بين هذه الخطوط نجد "خط تونس طبرقة" والذي يمرّ عبر ضاحية باردو ثم مدينة منوبة في اتجاه مدينة ماطر ثم يتفرع هذا الخط في اتجاهين: الأول يصل مدينة بنزرت وهي محطة النهاية، والتفريع الثاني هو الذي يسمى "الخط الحديدي عدد 2" والمتجه نحو مدينة طبرقة ويمر بالبلدات التالية: تمرة، غزالة، سجنان، نفزة، وشتاتة، رأس الراجل.. على طول 103 كلم من السكة الحديدية. 

وقد تم تدشين هذا الخط سنة 1922 وهو يمر عبر عشرات القناطر والجسور الحديدية والحجرية ويمر عبر دواميس تخترق الجبال الوعرة.. وقد مدت فرنسا هذا الخط من أجل نقل الثروات الطبيعية من أقصى الشمال مثل ثروة الخشب وثروة الفلين من غابات خمير وعززته بعد اكتشاف منجم تمرة سنة 1942 وما يحتويه من معادن هامة وأيضًا له دور سياحي ترفيهي خاص بالمعمّرين الفرنسيين.

وبقي هذا الخط ينهض بأدوار خدماتية عديدة وهي نقل ثروات منجم تمرة ومنتجات الحصاد الفلاحي والغابي، ونقل البضائع ونقل المسافرين.. وتشير الوثائق والصور الفوتوغرافية والبطاقات البريدية إلى تكثف رحلات القطارات الناقلة للأشخاص خلال فصل الصيف حيث تتنقل العائلات الفرنسية من الأحياء الأوروبية بالعاصمة تونس ومن باقي المدن الكبرى مثل سوسة وصفاقس والكاف وباجة وبنزرت.. من أجل الاستجمام والتمتع بالطبيعة الخلابة لهذا الخط والتي تذكر عموم الفرنسيين بطبيعة بلداتهم وقراهم بفرنسا.

تم تدشين خط السكة الحديدي عدد 2، سنة 1922، لكن بعد الاستقلال، بدأ مجده في التهاوي إذ تعرض إلى التدمير والإهمال التام وأغلق نهائيًا سنة 1997 

وعرفت قطارات "الخط الحديدي عدد 2" شهرة واسعة في تونس في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، واعتُبر خطًا سياحيًا فريدًا من نوعه، كما أشعّ هذا الخط خارج تونس حيث روّجته مكاتب خدمات النقل والسياحة الأوروبية الموجودة بتونس ويمكن اعتبار أنشطته بمثابة النواة الأولى للسياحة التونسية فيما بعد، فقد اشتهرت مدينتي طبرقة وعين دراهم جرّاء القطارات الوافدة أثناء تساقط الثلوج في الشتاء وطراوة الطقس وجمال الشواطئ في الصيف.

كما تكثفت أنشطة الخط الحديدي عدد 2 أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها عندما خيّر العديد من أبناء الجاليات الأوروبية وخاصة منهم الفرنسيين والإيطاليين عدم التنقل إلى أوروبا جرّاء الأنشطة الحربية والاحتلال النازي الواسع لها، وأيضًا مع بعث عدة أنشطة ثقافية بطبرقة جعلت الناس يتنقلون إليها عبر القطار.

اقرأ/ي أيضًا: من قفصة إلى العالمية.. إبراهيم صوة مهندس أول قطار بالهيدروجين في العالم

بعد الاستقلال، سنة 1956 بدأ مجد "خط السكة الحديدية عدد 2" في التهاوي فأصبح "أثرًا بعد عين" إذ تعرض إلى التدمير والإهمال التام.. وتشير الروايات غير الرسمية الرائجة إلى أن سياسة التنمية الجديدة لتونس المستقلة حديثًا والتي تميل إلى إعلاء جهات الساحل التونسي على حساب باقي الجهات وخصوصًا جهات الشمال الغربي والوسط الغربي.. اختارت وأد "خط السكة الحديدية عدد 2" بكل ماضيه وتاريخه الذهبي، فبعد إنشاء "سد سيدى البراق" في الثمانينيات، غمرت المياه جزء كبير من السكة الحديدية فتوقفت المحطات بعد إخلائها وبقيت ذكريات المسافرين عالقة على الأرصفة.. ونقلت أجزاء هامة من سكة هذا الخط الشهير إلى الساحل من أجل إنشاء شبكة قطارات أحواز الساحل بسوسة والمنستير.

وكان التفسير السياسي حينها أنّ تونس أعطت أولوية للفلاحة على حساب الخدمات وما شابه ذلك وأن بعث السدود هو هاجس وطني وخيار استراتيجي من أجل السيادة الفلاحية والاقتصادية الوطنية عمومًا، ونشطت الوعود بعودة الخط في المستقبل.

ظلّ أبناء الشمال الغربي ينتظرون الوعود الزائفة للمسؤولين الجهويين والمركزيين الذين وعدوا لأكثر من مرة لعقود ثلاثة بعودة الروح لخط السكة الحديدية عدد 2، دون جدوى

وإلى اليوم، بقي أبناء الشمال الغربي ينتظرون الوعود الزائفة للمسؤولين الجهويين والمركزيين الذين وعدوا لأكثر من مرة لعقود ثلاثة بعودة الروح لـ"خط السكة الحديدية عدد 2" لكنهم كانوا يقبضون قبض الريح.

هذا الخط الحديدي الذي مثّل شريانًا حيويًا للاقتصاد الوطني التونسي وبوابة على العالم لأبناء تلك الجهات، أغلق نهائيًا سنة 1997 وذلك بعد التوقف عن استغلال منجم تمرة، وبقيت عشرات المحطات عرضة للنهب والإهمال، وتحولت محطة النهاية بمدينة طبرقة إلى مقر جهوي للسياحة.

إنّ عودة الحياة لهذا الخط الحديدي ممكنة إذا ما توفرت الإرادة السياسية وإذا ما توفرت القيم والأخلاق المجتمعية وإذا ما توفر الوعي بأن تونس هي لكل التونسيين من دون تمييز أو تمايز.

• المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"