16-نوفمبر-2020

نظمت هيئة الحقيقة والكرامة 14 جلسة استماع علنية (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

تحلّ ذكرى جديدة لانعقاد أول جلسة استماع علنية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، جرت بتاريخ 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وقد نظمت هيئة الحقيقة والكرامة، طيلة عهدتها (2014-2018)، 14 جلسة علنية بثتها مباشرة عبر وسائل الإعلام البصرية والمسموعة، وقد شملت 108 ضحية قدمت شهادتها من ضمن 57.593 ملف لضحايا الاستبداد.

منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، إلى غاية الذكرى الرابعة، صدرت تقارير وتعددت التجاذبات السياسية العلنية منها والخفية والتي وصلت حتى داخل هيئة الحقيقة والكرامة، ولكن أين هؤلاء الضحايا المضطهدين المنكّل بهم من كل هذا؟

اقرأ/ي أيضًا: شهادات ضحايا الانتهاكات بتونس.. قصص الألم والعبر

بسمة شاكر: لم نعد نجد من يسمعنا ويفتح أبوابه للقائنا! 

بسمة شاكر، واحدة من ضمن 49.654 ألف ضحية وقع استماعها في جلسات استماع سرية، تقول في حديثها لـ"ألترا تونس": "اغتصبني جلادو النظام السابق ونكلوا بي، ومازالت كل الحكومات التي جاءت بعد الثورة تغتصب حقي في محاسبة الجلاد واعتذار الدولة وجبر الضرر" .

هي واحدة من ضحايا الانتهاكات الجنسية في عهد الدكتاتورية، بسمة تم القبض عليها في سن 16 عامًا بعد العثور على ورقة في كتابها داخل المبيت المدرسي كُتب فيها "لماذا ندعو فلا يستجاب لنا؟"، فسُجنت بتهمة توزيع المناشير.

"سرقوا مني شرفي وحلمي أن أكون محامية، حرموني من الأمومة. والدي طلق أمي وتبرأ مني وطردني وإياها خارج البيت. خدمت في البيوت، تعرضت لكل أنواع الوصم الاجتماعي ولازالت. وهناك في مجالس السياسيين تعقد الصفقات على نخب دمائنا وشرفنا".

بسمة شاكر: اغتصبني جلادو النظام السابق ونكلوا بي، ومازالت كل الحكومات التي جاءت بعد الثورة تغتصب حقي 

تواصل بسمة شاكر حديثها صارخة في وجه الوطن على حد تعبيرها: "لم نعد نجد حتى من يسمعنا ويفتح أبوابه للقائنا! أنا واحدة من مئات  النساء اللواتي تم انتهاك حرمة جسدهن. فأين المنظمات النسوية والحقوقية؟ أين العدل؟ هل تعتقدون المسألة تتعلق بالتعويض المادي؟ هل ستنجح الصكوك في إزالة تلك الرائحة العفنة في أنفي إلى اليوم؟ هل ستعيد شرفي؟ هل ستعيد أحلامي؟ هل ستقضي على آثار الأدوية المخدرة التي كان الجلادون يضعونها لي في قارورة المشروبات الغازية ويطلبون مني شربها؟".

تواصل بسمة حديثها مكلومة: "هل ستغيّر الصكوك جسدي الذي بت أكرهه؟ هل سترزقني بطفل؟ هل ستغير واقع والدتي المطلقة وتجعل من والدي رجلًا آخر يعترف بي؟"

"أنا لا أريد مالًا، بل أريد محاسبة ومحاكمة علنية للجلاد واعتذارًا رسميًا أمام كل الشعب التونسي. أما جبر الضرر، فأقسم أنني إذا حصلت عليه سأستشري منزلًا يأوي كل امراة طردها والدها أو زوجها وظلمتها الحياة"، تقول بسمة شاكر.

تنتقد بسمة شاكر إهمال السياسيين لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان

 

"أين نحن من هؤلاء النواب؟ أين نحن من تلك الطبقة السياسية التي اكتفت بسماع شهادات للمظلومين المقهورين في احتفالية يبدو أنهم أرادوا بها فقط إبهار العالم ثم بعد ذلك أغلقوا الأبواب في وجوهنا وانتهى كل شيء".

تواصل محدثتنا: "خرجنا عن صمتنا وواصلنا تحدينا للمجتمع، وفتحنا جراحنا، وكشفنا الحقيقة وظننا أن العدالة الانتقالية ستنصفنا وأننا أقوياء بها، وها نحن اليوم لم نكشف سوى عار أهلنا الذين واصلوا مقاطعتنا وحتى المتعاطف منهم معنا هجرنا لأننا قلنا الحقيقة في الإعلام ولا أحد من القيادات السياسية سأل أو اهتم، بل حتى وإن حاولنا المشاركة معهم في الحياة السياسية عزلونا، ولم يدعمونا لنترشح مثلًا لمجلس النواب. فقد انتهى دورنا"، تنهي بسمة شاكر حديثها باكية.

بشير خلفي: الضحايا يطالبون باستكمال مسار العدالة الانتقالية

السجين السياسي السابق ورئيس جمعية "صوت الإنسان" والناطق الرسمي باسم الائتلاف الوطني لاستكمال العدالة الانتقالية بشير الخلفي يؤكد بدوره لـ"ألترا تونس" أن الضحايا لن يفرطوا في تطبيق القانون، مبينًا أن اللجنة المعنية بالعدالة الانتقالية في البرلمان استمعت إليهم بتاريخ 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 لكنهم اكتشفوا أن لا شيء لديها بخصوص ملف العدالة الانتقالية، ولا نية تذكر في تفعيل صندوق الكرامة واللجنة الخاصة به.

"خذلونا" يضيف محدثنا قائلًا: "كل الطبقة السياسية التي وثقنا في عدالتها لم تتعامل معنا بجدية" معتبرًا أن الصدمة الكبرى تتمثل في تصريح رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي مؤخرًا حينما تطرق للمصالحة متجاوزًا مراحلها وأولها جبر الضرر واعتراف الجلاد وتقديمه للاعتذار الرسمي.

بشير الخلفي: كل الطبقة السياسية التي وثقنا في عدالتها لم تتعامل معنا بجدية

وواصل السجين السياسي الذي حكم عليه بـ52 عامًا سجنًا قضى منها 17 عامًا أن حركة النهضة مستعدة لطي كل شيء وتقديم كل التنازلات حتى وإن كان على حساب آلام وعذابات وجراح آلاف من التونسيين المنتمين لتيارات فكرية مختلفة  انتهكت الدكتاتورية حريتهم ونكلت بهم وقتلت كثيرًا منهم.

اقرأ/ي أيضًا: العدالة الانتقالية في تونس.. مسار بطيء ومعطّل لازال يبحث عن تحقيق أهدافه

وشدّد صاحب كتاب "الدراقة"، الذي كشف فيه ما تعرض له من انتهاكات جسيمة في سجون النظام السابق، على أن المطلب الأساسي للضحايا هو تطبيق الدستور ومحاسبة الجلاد، مبينًا أنهم يريدون اعترافه واعتذاره فقط وسيسقطون الدعوى على كل مذنب. 

أما فيما يتعلق بالحديث عن صرف تعويضات للسجناء السياسيين، كذّب بشير الخلفي ذلك متحديًا من يثبت عكس ذلك بالدليل، مشيرًا إلى أن الأموال التي وضعتها دولة قطر سنة 2013 تم صرف مبلغ 7 مليون دينار منها لوزارة الصحة من أجل توفير بطاقات علاج للحالات الأكثر تضررًا، ملاحظًا أن مدة صلاحية بطاقة العلاج استمرت سنة واحدة فقط. فيما تم صرف بقية المبلغ  في شكل منح قدرت بـ 6 آلاف دينار على بعض الحالات التي تعاني من وضعيات اجتماعية خصوصية.

وأعلن محدثنا أن الائتلاف الوطني لاستكمال العدالة الانتقالية يعتزم خوض جملة من التحركات الاحتجاجية للمطالبة باستكمال مسار العدالة الانتقالية حسب ما أقره الدستور، مطالبًا رئيس الجمهورية بضرورة التدخل لتحقيق مطالبهم.

ابتهال عبد اللطيف: لماذا غابت جلسات رجال الأعمال الفاسدين؟

من جانبها، أكدت عضو هيئة الحقيقة والكرامة ابتهال عبد اللطيف لـ"ألتراتونس" ضرورة تقييم أداء هيئة الحقيقة والكرامة بشكل موضوعي بعيدًا عن خطاب المعارضة والمساندة، مبينة أن هذين الخطابين سيطرا على المشهد طيلة السنوات الماضية. وشددت على أنه يتعين اليوم القيام بدراسات موضوعية حول نقاط نجاح مسار العدالة الانتقالية ونقاط فشله حتى يمكن المضي قدمًا في تنفيذه.

وقالت إن الجلسات العلنية يمكن اعتبارها نقطة مضيئة في مسار العدالة الانتقالية رغم ما شابها من نقائص هامة، مبينة أنها مثلت صوت الضحايا ومنصة لكشف حقيقة أغلب انتهاكات حقوق الانسان التي مورست من النظام الاستبدادي وآلة القمع. وأكدت أنها ساهمت في ترسيخ سردية الضحايا في الذاكرة الوطنية.

كما ساهمت شهادات النساء خاصة في تكسير حاجز الصمت والتحوّل من النّبذ والوصم الاجتماعي إلى الظّهور الإعلامي وردّ الاعتبار للضحايا حيث أصبحن محلّ اهتمام واعتراف بمعاناتهن، كما جلبت تعاطف الرأي العام المحلي والدولي، على حد تعبير محدثتنا.

تولّت ابتهال عبد اللطيف رئاسة لجنة المرأة في هيئة الحقيقة والكرامة

 

لكن هذه الجلسات، وفق تقديرها، لم تؤدي دورها بالكامل ولم تحقق كل الأهداف التي رسمت لها،  ملاحظة أنه وفق استبيان قامت به لجنة المرأة لرصد مدى رضا الضحايا عن الجلسات العلنية ، أعرب أغلب الضحايا عن خيبتهم من غياب الجلادين والحال أن اعترافهم بالانتهاكات والاعتذار عنها كان سيمثّل حافزًا لنزع الاحتقان في نفوس الضحايا تمهيدًا للمصالحة المأمولة. 

وقد اعتبر العديد من الناقدين هذا الأمر نقيصة هامة في هذه الجلسات جعلت الحقيقة تبدو مبتورة في حين نص دليل إجراءات جلسات الاستماع العلنية  الذي أعدته الهيئة أن من أهداف هذه الجلسات "تمكين مرتكبي الانتهاكات من الاعتراف وطلب الاعتذار من الضحايا لتعزيز المصالحة الوطنية".

اقرأ/ي أيضًا: ابتهال عبد اللطيف: تقرير "الحقيقة والكرامة" ضعيف وملفات سُويت في الظلام (حوار)

"مع الأسف فشلت الهيئة وربما لم تسعى إلى تقديم اعتراف الجلادين وكشف الحقيقة كاملة أمام العالم والشعب في حين صرح لنا العديد من الضحايا أن بعض الجلادين اتصلوا بهم بعد شهادتهم العلنية واعتذروا لهم، بل أن بعض الأمنيين اعتذروا نيابة عن سلك كامل ينتمون إليه وان كانوا غير مشاركين في ارتكاب الجرم"، هكذا أكدت محدثتنا.

وتضيف عبد اللطيف، التي كانت أيضًا نائب رئيس لجنة التحكيم والمصالحة، أن من شروط قبول ملف التحكيم والمصالحة ألا يرفض طالبيها الحضور بجلسة علنية واعترافهم بما اقترفوه وتقديم اعتذار للشعب، وقالت إنه كان بالإمكان تخصيص جلسات علنية لطالبي التحكيم لكشف الحقيقة وتفكيك منظومة الفساد.

ولكن الغريب في اعتقادها أن الهيئة اكتفت بجلسة علنية وحيدة موضوعها فساد الديوانة وكان مقدم الشهادة بالسجن في حين أعفي كل من رجال الأعمال مثل سليم شيبوب وسليم زروق وغيرهم من طالبي التحكيم الذين يتمتعون بالحرية من أن يطبق عليهم الفصل 47 من قانون العدالة الانتقالية الذي ينص أنه "لا يجوز لأطراف النزاع التحكيمي الامتناع عن المشاركة في جلسات الاستماع العمومية إذا طلبت الهيئة ذلك وتعلق إجراءات المصالحة في صورة عدم الالتزام بأحكام هذا الفصل".

وبالتالي حسب عضو الهيئة، لم تعط الهيئة الفرصة لتفكيك آلة الفساد المالي أو العقاري أو البنكي أو الفساد في مجال الثروات الباطنية أمام الشعب رغم أهمية الملفات والشكايات التي وردت على الهيئة.

وتقول ابتهال عبد اللطيف إن النساء ضحايا الانتهاكات الجنسية في عهد الديكتاتورية أجمعن في دراسة قامت بها لجنة المرأة على أنهن كن يأملن متابعة الهيئة لوضعهن النفسي والصحي بعد الجلسات العلنية، ولكن يشعرن اليوم أن الهيئة خذلتهن بل  استعملتهن واجهة في جلساتها ثم أغلقت ملفاتهن ويتساءلن عن سبب حذف تقرير الهيئة الختامي عن جزء الانتهاكات الجنسية على النساء في حين سمحت لهن بالحديث عن هذه الانتهاكات في الجلسات العلنية، متسائلة "هل كان المغزى من ذلك البحث عن الفرقعة الإعلامية فقط؟".

ابتهال عبد اللطيف: الغريب أن هيئة الحقيقة والكرامة لم تعقد جلسات استماع علنية لرجال الأعمال المورطين في ملفات فساد مثل سليم شيبوب وسليم زروق وغيرهم ممّن قدموا طلبات للتحكيم لدى هيئة الحقيقة والكرامة

كما أكدت محدثتنا على أنه إلى غاية آخر يوم عمل من أعمال الهيئة، لم تتحصل اللجان الفرعية على إحصائيات الانتهاكات المسلطة على الضحايا حتى تتمكن من تحليلها والقيام بالتقاطعات بينها ومعرفة سبب كثرة انتهاكات بعينها في جهات دون أخرى أو في فترات زمنية دون غيرها والرابط بينها والمسؤولين عنها.

وفوجئت محدثتنا بإحصائيات مغلوطة ومتضاربة ولا تعكس الحقيقة حسب قولها، خصوصًا حول الانتهاكات الجنسية في التقرير الختامي للهيئة الذي نشرته رئيسة الهيئة سهام بن سدرين في مارس/آذار 2019، ملاحظة أن نسبة "الاغتصاب وجميع أشكال العنف الجنسي" لم تتجاوز 0.06 % والاغتصاب نسبة 0,16 % وأشكال العنف الجنسي نسبة 1.16 %، معقّبة هذه عينة عن اللخبطة والمغالطات الكثيرة وفق تعبير محدثتنا.

اما عن مسار العدالة الانتقالية في مجمله، تقدّر ابتهال عبد اللطيف أنه كان حلمًا للتونسيين لكشف الحقيقة وتكريس عدم الإفلات من العقاب وإصلاح المؤسسات ورد الاعتبار للضحايا تمهيدًا لتحقيق المصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي، لكن عمل الهيئة اقتصر على بعض المكاسب التي لم ترق إلى آمال المتطلعين لها من المجتمع المدني والضحايا، وكان عرضة لشبهات الفساد والتدليس والتلاعب والتزييف التي تعتبر من ممارسات الدكتاتورية والتي تتنافى مع المبادئ العليا والنبيلة للعدالة الانتقالية، وفق تعبيرها.

تختم محدثتنا قائلة: "للأسف لم يكن مسار العدالة الانتقالية نزيهًا وشفافًا" مؤكدة أن الفساد اخترق كل المؤسسات حتى مؤسسات ما بعد الثورة ووجد من يطبّع معه ويصمت عنه، وفق تعبيرها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ذاكرة انتهاكات حقوق الإنسان في تونس.. حفظ للتاريخ واستخلاص للعبر (2/1)

ذاكرة انتهاكات حقوق الإنسان في تونس.. حفظ للتاريخ واستخلاص للعبر (2/2)