21-أغسطس-2020

حرمان من الميراث باسم أعراف متوارثة في المجتمع (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

تفتح خديجة الباب على استحياء لاستقبالنا في بيت متواضع في إحدى قرى ولاية قبلي، جنوب غربي تونس، نظرات مرتبكة وصوت خافت تتحدث به محاولة جمع شتات غرفة بسيطة متشققة جدرانها.

هذه المرأة سليلة أكبر العائلات المالكة للأراضي الزراعية في المحافظة التي تحتل المرتبة الأولى في إنتاج أجود أنواع التمور، ولكنها تعاني، رغم ذلك، من الخصاصة مع زوج مريض قُطعت أصابع قدميه وعليل الفراش.

خديجة لم ترث وكذلك إخواتها البنات، ففي عرف منتشر لدى قطاعات واسعة في الجنوب، لوحده الذكر يرث والده، ولا تتجرأ الأنثى مهما كانت ظروفها صعبة أن تطالب بنصيبها المحدّد شرعًا وقانونًا.

خديجة (مواطنة من ولاية قبلي): لا يمكن أن أطالب أخي بنصيبي من إرث والدي حتى لو مت جوعًا

"لا يمكن أن أطالب أخي بنصيبي من إرث والدي حتى لو مت جوعًا، تقول خديجة لـ"ألترا تونس". وتضيف بصوت مكلوم عابثة بأصابع يد مرتبكة: "لو أفتح هذا الموضوع، قد أخسر أخي إلى الأبد وأقطع صلة الرحم وأصبح حديث القرية كلها". تخاف خديجة ما تسميها الفضيحة رغم معرفتها أن الشرع حدد منابها، وهي تخشى مجتمعًا يرفض أن ترث المرأة وإن كانت بها خصاصة.

اقرأ/ي أيضًا: "نقطة سوداء".. قصص نساء حُرمن من التعليم

خديجة التي شاءت الأقدار أن تسكن قبالة أرض والدها الذي طالما ساعدته وهي في ريعان شبابها في سقي الأرض وزرعها، وقت كان شقيقها شابًا يافعًا مشغولًا بجلساته ولا يعير الأرض أي اهتمام.

تقول محدثتنا إنها كانت ترعى نخيلًا بكرًا، ولكن يوم أصبح باسقًا شاهقًا ينتج أجود أنواع التمور ومحصولًا يقدر بآلاف الدنانير حُرمت منه، وصار ملكًا لأخ حجته في ذلك أنه ذكر وهي أنثى.

تعمل خديجة اليوم في حرق الرمال وتحويلها لمادة كالجبس الأبيض من أجل استغلالها في ترميم البيوت، وهي حريصة على تعليم بنتيها بعد أن غادر ولدها مقاعد الجامعة بسبب مرض عضال يعاني منه وإن لم يمنعه، رغم التعب، من العمل من أجل مساعدة أمه لإعالة عائلة كبيرها مريض.

تعمل خديجة في حرق الرمال وتحويلها لمادة كالجبس الأبيض

 

"أخي على علم بمعاناتي وبحاجتي"، تقول خديجة، مبينة أنه لا يساعدها مبررًا ذلك أنها لها زوج مسؤولة منه، ويعتبر أن منابها من إرث والدها موضوع محرم الخوض فيه.

خديجة هي واحدة من ضمن نساء الجنوب التونسي ممن لا يطالبن بالميراث الشرعي خوفًا من غضب المجتمع وسخطه وخسارة الأخ الذي يعتبر، غالبًا، في منح أخته لحقها إهانة له وللعائلة .

اما زوج خديجة، فيرفض بدوره رفضًا قاطعًا الحديث في الموضوع، ويعتبر مطالبة زوجته بحقها إهانة له. ويرى أن تدخله في الموضوع عار عليه، فهي على ذمته ولا يجوز أن تطالب بنصيبها.

يرى زوج "خديجة" أن تدخله في الموضوع عار عليه، فهي على ذمته ولا يجوز أن تطالب بنصيبها من إرث والدها

العرف والعادات والتقاليد مازالت أقوى من القانون ومن الشرع أيضًا في تونس البلد الذي قدم رئيس جمهوريته السابق الباجي قايد السبسي مبادرة، عام 2018، هي الأولى في العالم العربي تقضي بالمساواة في الميراث بين المرأة والرجل، وذلك في مفارقة غريبة بين التشريعات والقوانين وما يكشفه الواقع من ممارسات مازالت تحكمها الأعراف.

اقرأ/ي أيضًا: مع بورقيبة وبن علي والطرابلسية...هل فقد "السفساري" هويّته الأصلية؟

يفسّر الباحث في الأنثروبولوجيا الأمين البوعزيزي هذه المفارقة، في حديثه لـ"ألترا تونس"، بأنها صراع بين "النخب الحواضرية والعلمانوية" من جهة والمحافظة من جهة أخرى حول مسألة توزيع الإرث بين الذكر والأنثى.

ويعتبرها معركة في ظاهرها انتصار لحقوق المرأة لدى الفريق العلماني الذي يحمّل الدين الإسلامي مسؤولية معاناة النساء، مقابل إصرار المحافظين كون المسألة محددة بآيات محكمات لا يجوز خرقها فـ"تلك حدود الله لا تقربوها". ويقدر محدثنا أن المسألة هي "صراع هووي بين ثقافتين يتخذان من جسد المرأة وكينونتها ساحة حرب بين ثقافتين".

لكن البوعزيزي يرى أنه تم تغييب وضع آخر وأعراف أخرى يغيب فيها حق المرأة في الميراث أصلًا فلا تناصفًا من جهة ولا "للذكر مثل حظ الأنثيين" من جهة أخرى، وهي أعراف محلية قبلية قديمة سابقة على الإسلام تقضي بعدم خروج ثروة العائلة إلى الأغراب، وفق قوله.

الأمين البوعزيزي (باحث في الأنثروبولوجيا): تنتشر أعراف محلية قبلية قديمة سابقة على الإسلام تقضي بعدم خروج ثروة العائلة إلى الأغراب

"عرفٌ صمد في مواجهة كل التشريعات مقدسة ووضعية" يقول الباحث في الأنثروبولوجيا لـ"ألترا تونس"، مبينًا أنه عُرف حظي بقبول النساء الأخوات اللائي لا ينازعن إخوتهن فيما ورثوه عن آبائهم حفاظًا على صلة الرحم التي قد تعصف بها المنازعات حول مواريث لا قيمة لها ماديًا مقابل ما يخسرونه من تفكك روابط صلة رحم التي يستنجدن بها ساعة الأزمات في مجتمعات زراعية ذكورية.

"هؤلاء لن يكنّ على أجندات النخب الحواضرية وخصوًصا النسوية الليبرالية التابعة المصرة على خوض مناكفات ثقافوية عوضًا عن الانخراط في معارك نساء الأعماق"، هكذا يختم الأمين البوعزيزي حديثها معنا.

هي ظاهرة منتشرة في دواخل تونس وجنوبها بالخصوص حيث تأبى المرأة المطالبة بحقها الشرعي والقانوني من إرث والدها، ويأبى الإخوة الذكور عن إعطاء نصيب إخوتهم الإناث تكريسًا لثقافة ذكورية وأعراف تخالف قواعد الدين والقانون والإنصاف.

ويظلّ السؤال نهاية إن ما كانت الحاجة اليوم، لمواجهة هذا الحيف، التعويل على تغيّر الثقافة المنتشرة لإعطاء الحقوق عبر التراضي أو تشجيع النساء للمطالبة بحقوقهن بكل الوسائل المُتاحة بما في ذلك التقاضي أو المطالبة بإرساء آليات قانونية جديدة تضمن حقوق المرأة من إرث والدها.
 

اقرأ/ي أيضًا:

عمل المرأة الريفية في تونس.. بين مطرقة الحاجة وسندان الاستعباد

"كيد الرجال كيدين وكيد النساء 16".. عن الأمثلة الشعبية الساخرة من المرأة