29-سبتمبر-2022
حمادي الجبالي

حمادي الجبالي تعليقًا على عدم تمكينه من بطاقة تعريف وطنية: "أنا الآن مسلوب المواطنة" (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

مقال رأي

 

عشنا في الأسبوع الفارط على إيقاع "ملف التسفير" في منابر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. ولم يكن استدعاؤه ليتصدّر عناوين الأخبار من باب الصدفة. فقد عرف الإعلام العمومي والإعلام الخاص المرتبط معظمه بلوبيات المال "إعادة انتشار" وجوه إعلاميّة وصحفية معروفة منذ 2011 أثبتت كفاءتها العالية في مناهضة تجربة التأسيس وإرباك مسار الانتقال إلى الديمقراطية حتى تسنّى غلق قوسه بانقلاب 25 جويلية/يوليو 2021.

  • وضعيّة "البدون"

"البدون" حالة انتماء تخصّ فئة من السكان في بعض دول الخليج لا يتمتعون بجنسية البلد الذي ينتمون إليه، ولهذه الحالة علاقة بحدود هذه الدول الصغيرة الناشئة عن وضع قبلي وديمغرافي اجتماعي سابق على ظهورها. ومُحَصَّلها انتماء لفئات من الناس هو دون المواطنة وما تتيحه من حقوق وواجبات. ولذلك يَحمل هؤلاء بطاقة هوية تنصّ على منزلتهم الدنيا، فيكون سعيهم إلى اكتساب الخروج من "وضع البدون" هدفًا قد يقضون العمر ولا ينجحون في بلوغه.

رئيس حكومة الترويكا الأولى في تونس، حمادي الجبالي، كان من بين المطلوبين للتحقيق في ملفّ التسفير، وقد كان قدّم استقالته واستقالة حكومته على إثر عملية الاغتيال السياسي في 6 فيفري/شباط 2013.

وقد تبيّن أن رئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي بدون بطاقة تعريف وطنية، إذ لم يُمكّن منها من قبل مصالح وزارة الداخلية رغم مضيّ ما يقرب السنة منذ تقديمه مطلبًا في الغرض.

هذا ما صرّح به لمراسل إحدى الإذاعات الخاصة الذي لم يُخف تعجبه من التصريح. فكيف يمنع رئيس حكومة أسبق من مثل هذا؟ فكان جواب حمادي الجبالي مثيرًا: "دعك من قصة رئيس حكومة أسبق، أنا قبل كل هذا مواطن. ولكنّي الآن مسلوب المواطنة".

رئيس الحكومة الأسبق بلا بطاقة هوية، فهو دون وضع البدون في بلد كان قبل سنة من الانقلاب يصنّف ضمن الدول الديمقراطية ويحتلّ مرتبة مشرفة بين الدول التي تحترم الحريات رغم ما عرفته التجربة من تعثّر اقتصادي

كان للتصريح صدى كبيرًا، ومثّل حرجًا فعليًا لسلطة الأمر الواقع ولوزارة الداخلية التي يترأسها أحد أصدقاء قيس سعيّد، وقد كانت إجابتها متأخرة وهزيلة، فقد أشارت في بلاغ لها بأنّ بطاقة الجبالي جاهزة ولكنه لم يأت لتسلّمها.

كانت بلاتوات إذاعية بعينها أكثر من تصدّى للتخفيف من وقع الخبر. وعبّرت في مرافعات صحفييها عن موقف ملتبس بحرية الرأي وحقوق الإنسان والمساواة بين أبناء تونس على اختلاف مشاربهم السياسية وانتماءاتهم الحزبية. ووجدت صعوبة في المرافعة عن إجراء لا يمكن المرافعة عنه إلا بإدانته: لا يعقل أن يحرم مواطن من وثائق الهوية المدنية الشخصية.

رئيس الحكومة الأسبق بلا بطاقة هوية، فهو دون وضع البدون في بلد كان قبل سنة من الانقلاب يصنّف ضمن الدول الديمقراطية ويحتلّ مرتبة مشرفة بين الدول التي تحترم حريّة الرأي والحريات الصحفية رغم ما عرفته التجربة الديمقراطية من تعثّر مفزع في مستوى الانتقال الاقتصادي.

  • صراع سياسي بعنوان أمني

واللافت أنّ هذا الملف أُثير وكأنّه وليد اللحظة ولم يُرافِق الحياة السياسيّة الجديدة منذ 2011. ولم تكن في شأنه لجنة ببرلمان 2014 ـ 2019 عُرفت بـ"لجنة التسفير"، وكأنّه لم تصدر أحكام قضائية في شأن من تعلّقت بهم تهم التسفير. وتعلّقت بالملف تصريحات مهمّة من بعض أعضاء اللجنة البرلمانية المكلفة بالملف، ولكن تمّ تجاهلها إعلاميًا لسبب بسيط وهي أنّها لم تشر من قريب ولا من بعيد إلى جهة كانت المتهم الأول في موضوع التسفير وفي موضوع الاغتيالات السياسية. ولا يَخْفى أنّ التحقيق الدقيق في ملف التسفير يفتح الطريق واسعًا إلى معرفة الجهة التي تقف وراء الاغتيالات السياسية التي عصفت بالبلاد وبالانتقال الديمقراطي. وينهي توظيفه في الصراع السياسي. وآثاره السلبية على استراتيجية الدولة في مكافحة الإرهاب.

 

 

ملفّ التسفير، مثل ملف الاغتيال السياسي، لا يراد غلقهما من قبل جهات عديدة يتقدّم بعضها على أنه صاحب الحق ولكنه لم ينجح في إخفاء رغبته في تأجيل معرفة الحقيقة. فالاستثمار في الدم وفي الأوضاع الملتبسة صار اختيارًا سياسيًا اهتدى إليه من فقد الأمل في الانتخابات العامة والتفويض الشعبي الحر. فصارت الديمقراطية بالنسبة إليه تهديدًا وجوديًا. ويزداد هذا التهديد خطورة حين يَظهر تقدّم الخصم الايديولوجي في أكثر من استحقاق انتخابي.

ملف التسفير مثل ملف الاغتيال السياسي، لا يراد غلقهما من قبل جهات عديدة يتقدّم بعضها على أنه صاحب الحق ولكنه لم ينجح في إخفاء رغبته في تأجيل معرفة الحقيقة

"الديمقراطية تهديد وجودي" موقفٌ سياسيٌّ تبلور منذ انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول التأسيسية عند جانب من المنظومة القديمة وأذرعها الوظيفيّة من مجاميع ايديولوجية انتسبت إلى الثورة. فكان الالتقاء الموضوعي والميداني بينها لإجهاض الانتقال إلى الديمقراطية، حتى غدا تاريخ الانتقال إلى الديمقراطية في حقيقته تاريخ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال.

لذلك كانت هذه الجهات تجتهد في ألا تُعرَف الحقيقة في كل ما شهدته العشرية من انحرافات ومن جرائم سياسية وفي مقدّمتها جريمة الاغتيال السياسي وملفّ التسفير المتقاطع معها.

ومن هذا المنطلق وجدت في الانقلاب على الدستور والديمقراطية "فرصة تاريخية لتصحيح المسار"، والحقيقة لتغيير قواعد اللعبة، فانخرطت في دعمه. ولمّا نجح الشارع الديمقراطي في فرض الطبيعة السياسية للصراع على أنّه مواجهة بين الانقلاب والديمقراطية، أصرّت هذه الجهات على إكساب المعركة بعدًا أمنيًا وحصره في مواجهة حزب حركة النهضة على أنه "قوة أجنبية" تعمل على اختراق الدولة وأجهزتها لتحقيق غاياتها المسترابة.

في هذا السياق يتنزّل ملف التسفير، واستدعاء شخصيات نهضوية للتحقيق، لا على أنها شخصيات قادت الدولة في مرحلة محددة بتفويض شعبي قوي بعد الثورة، ولكن باعتبارها شخصيات متسللة في جنح الظلام إلى الدولة تلاحقها تهمة الإرهاب شبه المتأكدة فيها عند خصومها.

  • خطاب الكراهية وسياسة الميز العنصري

حرمان رئيس الحكومة الأسبق من وثائقه المدنية الشخصية فضيحة مدويّة، وإجراءٌ لا يمكن لمرتكبه أن يدفع عنه تهمة "خطاب الكراهية وسياسة الميز العنصري"، وأنّ التونسيين ليسوا سواسية أمام الدولة والقانون.

حرمان رئيس الحكومة الأسبق من وثائقه المدنية الشخصية فضيحة مدويّة وإجراءٌ لا يمكن لمرتكبه أن يدفع عنه تهمة "خطاب الكراهية وسياسة الميز العنصري"

إنّه لا اعتراض على أن يُدعى مسؤول في الدولة مهما علت مرتبته للتحقيق، وقد يُفهم منعه من السفر رغم كونه إجراءً سالبًا للحرية، ولكن أن يُمنَع من وثائقه الشخصية كبطاقة الهوية أو جواز السفر فذلك إقصاء له من دائرة الانتماء إلى وطنه، وسلب لمواطنته، وإخراج له من دائرة الانتماء الإنساني. ولذلك هذا سلوك ميز عنصري وجريمة تعاقب عليها كل المواثيق والمعاهدات الدولية.

هذا السلوك السياسي في حقيقته نتيجة لخطاب الكراهية الذي ظلت تنفخ فيه مجاميع إيديولوجية نجحت في تسميم الحياة السياسية. ولا أفق لخطاب الكراهية والميز العنصري غير الاحتراب الأهلي ودمار الدولة والمجتمع.

 

 

وقد عرفت رواندا حربًا أهلية ذهب ضحيتها أكثر من مليون بشر. وكانت إحدى الإذاعات العنصرية من بين الأسباب الرئيسية في إذكاء الحرب بين إثْنيَّتَيْ التوتسي والهوتو، فالحرب أولها الكلام. وقد تمت محاكمة القائمين عليها وعلى غيرها من الصحافة العنصرية بتهمة الميز العنصري والتحريض على القتل.

في 2018، كانت بلادنا أول دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تسن قانوناً (قانون 50-2018) يعاقب التمييز العنصري ويسمح لضحايا العنصرية بالتماس الإنصاف عن الإساءة اللفظية أو الأفعال العنصرية الجسدية ضدهم.

ومما ورد في هذا القانون أن التمييز العنصري هو "كل تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني أو غيره من أشكال التمييز العنصري، والذي من شأنه أن ينتج عنه تعطيل أو عرقلة أو حرمان من التمتع بالحقوق والحريات أو ممارستها على قدم المساواة أو أن ينتج عنه تحميل واجبات وأعباء إضافية".

التسفير ملف دولة تُسأل عنه كل الحكومات المتعاقبة منذ 2011 وقبله لا أن تتولاه جهات أمنية ومجاميع إيديولوجية في سياق صراع الانقلاب والديمقراطية

ملف التسفير، ملف دولة، بدأ عرضه في إطار مؤسسات الدولة الديمقراطية (لجنة التسفير البرلمانية) أين مثّل القضاء سلطة مستقلة. ويثار اليوم في ظل صراع بين الديمقراطية والانقلاب الذي جمع كل السلطات في يد الفرد وصادر الحريات واستهدف القضاء ليكون وظيفة تتبع السلطة التنفيذية.

وهذا ما جعل من التحقيق والاتهام وإصدار الأحكام المتعلقة بموضوع التسفير تتم في بعض بلاتوات الإعلام قبل أن ينظر فيها القضاء الذي مازال يقاوم عملية إلحاقه رغم حلّ مؤسسته المجلس الأعلى للقضاء، وتعويضها بمجلس منصّب، ورغم استهداف القضاة بالعزل بسبب رفضهم التعليمات وإنصاتهم إلى ضمائرهم.

التسفير ملف دولة تُسأل عنه كل الحكومات المتعاقبة منذ 2011 وقبله. لا أن تتولاه جهات أمنية ومجاميع إيديولوجية في سياق صراع الانقلاب والديمقراطية. وسيبقى موضوعًا مؤجلًا إلى أن تستعاد الديمقراطية والاختيار الشعبي الحر في سياق مسار عدالة انتقالية جديد بعد أن أجهض مسارها الأول والذي كان الأرضية الوطنية لتسوية تاريخية لا بديل عنها لبلد يعرف انقسامًا هوويًا واجتماعيًا ناتجًا عن مركزية الدولة الجهوية.

انقسام لم يُنْتَبه إليه في محاولة بناء الديمقراطية في العشرية الفارطة، رغم أنّ بعده الاجتماعي كان سببًا في كسر نظام الاستبداد، وكان بعده الهووي سببًا في الفشل في بناء المشترك وتأسيس الديمقراطية.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"