13-يونيو-2019

لا تحيل كلمة "رجل" في المتداول اليومي إلى معنى الذكورة فحسب (Getty)

 

"استرجِل رانا نلعبوا ناقصين"، بهذه العبارة علّق أحد المتندّرين على صورة شابّ بدت عليه علامات التخنّث، فقد تلوّي قدّه، ولانت خدوده، واحمرّت وجنتاه، وارتخى صدره، واكتنزت عجيزته حتّى بدا أشبه بشخصيّة "هرمافروديتس" الأسطوريّة ذاك الفتى اليافع ابن "هرمس" و"أوفروديت" الذي امتزج مع عشيقته "سلماسيس" (Salamcis)،  فتحوّل إلى كائن ذي ثديين أنثويين وأعضاء تناسليّة ذكريّة بعد أن تضّرعت حبيبته إلى الآلهة طالبة أن يتّحد الاثنان إلى الأبد.

تلك العبارة الكاريكاتوريّة التمثيليّة الساخرة ذات المرجعيّة الريّاضيّة تثير الدهشة والضحك، فكأنّ النساء والرجال في مباراة كرة قدم بدا فيها الذكور أقلّ عددًا ممّا جعلهم يتمسّكون بعنصر منهم وإثنائه عن التفريط في هويّته الجنسيّة في سبيل تحقيق النّصاب وخوض المباراة بتشكيلة مكتملة عددًا.

لا تحيل كلمة "رجل" في المتداول اليومي إلى معنى الذكورة فحسب بل هي حمّالة لدلالات شتّى الجامع بينها هو الإحالة إلى جملة من القيم كالقوّة والصلابة والصبر والأمانة والكرم 

هذه المُلحة تكشف عن بعض الميول الشّاذة لدى عدد من الفتيان، وهو أمر لا نظّنه قد بلغ في تونس مرتبة الظاهرة، ويمكن معالجته في باب الحرّيات الشخصّيّة أو من خلال مداخل تربويّة ونفسيّة وصحيّة وثقافيّة ودينيّة، غير أنّ ما يعنينا في هذا الملفوظ التّهكّمي الفكاهي قيامه على مقارنة صريحة بين الذكور والإناث، توحي بأنّ المجتمع التونسيّ يفتقر إلى التوازن بين الجنسين.

هذا الشعور يبدو حاضرًا في نفوس جلّ التّونسيين حضورًا انطباعيًا، بيد أنّ الوعي به لم يبلغ مرتبة الحكم المعلّل والفكر العميق المفضي إلى وضعيّات إشكاليّة وقراءات تحليليّة وتأصيلات اصطلاحيّة وتصنيفات منهجيّة.

تؤكّد الأرقام التي أعلن عنها المعهد الوطني للإحصاء أنّ عدد النساء قد تخطّى عدد الذكور منذ 2014، فقد بلغت نسبة الإناث 50.2 في المائة. كما يؤكّد العديد من المختصّين أنّ الذكور في تونس أكثر معاناة من الاضطرابات الجنسيّة، ولئن بدا الفارق في هذين المستويين هيّنًا فإنّ الهُوّة في مستويات أخرى تبدو مثيرة، بل تنبئ بجملة من المخاطر والأزمات.

اقرأ/ي أيضًا: "موهّر فرار".. ما معنى أن تكون "فرار" في تونس؟

الرجولة وإشكاليّة التحيّز الجندريّ

"استرجل مرّه في حياتك"، "كنّا رجال وحققّنا الفوز رغم الصعوبات"، "الرجوليّة تحضر وتغيب"، "والله راجل وسيد الرجال"، "ما فيهمش ريحة الرجوليّة"، "ابكي على الرُّجلة"، "تونس مازل فيها رجال"، هذه بعض الملفوظات التي تحضر فيها الأفعال والأسماء المشتقّة من الجذر (ر، ج، ل) مثل "راجل" و"رجوليّة" و"رجلة" و"استرجل".

يؤكّد مختصون أنّ الذكور في تونس أكثر معاناة من الاضطرابات الجنسيّة

لا شكّ أنّ كلمة "رجل" في الأمثلة المذكورة قد عدلت عن معناها الأصليّ، فلم تعد تعني الذكورة فحسب، بل بدت حمّالة لدلالات شتّى متعدّدة متنوّعة تنوّع المقامات والسياقات، غير أنّ الجامع بينها هو الإحالة إلى جملة من القيم كالقوّة والصلابة والصبر والأمانة والكرم والصدق، ممّا يجعلها تحاكي صفة الفتوّة في الشعر العربيّ القديم التي تمثّل محصّل الفضائل وجُمّاع المآثر والمُثل.

هذه المعطيات المعجميّة والاصطلاحيّة والتّداوليّة تؤكّد التحيّز الجنوسيّ (بين الجنسين) الذي أشار إليه العديد من الباحثين المعاصرين، ومنهم ديفيد غلوفر وكراكابلان في كتاب "الجنوسة – الجندر" (ترجمة عدنان حسن، دار الحوار للنّشر، سوريا- اللاذقيّة، ط1، سنة2008). غير أنّ التحوّلات الاقتصاديّة والثقافيّة والفكريّة سيكون لها أثر بعيد المدى في الحدّ من الفجوة الجنوسيّة وقلبها قلبًا ثوريًا مثيرًا خاصّة في تونس، ذلك أنّ الرجل لم يعد متربّعًا على عرش القيم مستأثرًا بما تختزنه كلمة "رجولة" من شهامة وتفوّق وتعقّل وحسن تدبير، ولأنّ هذه الأطروحة محرجة ثقافيًا اقتضى الأمر الاستئناس بمصادر متينة من قبيل الإحصائيّات العلميّة.

رجل فقد عقله

"الآداب للبنات والعلوم والتكنولوجيا للأولاد" تصنيف نمطيّ هيمن في المدرسة التونسية خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، وهو تقسيم ينطوي على رؤية صوّرت المرأة خزّان مشاعر وشهوات وانفعالات ورفعت الرجل إلى مرتبة العاقل الذي تليق به المعارف الصلبة، لو سلّمنا بهذه المعادلة قلنا على سبيل المجاز إنّ الرجل خلال السنوات الأخيرة قد "فقد عقله" وفرّط فيما به كان رمز الحكمة والذكاء لا بدافع العشق والهوى كما صوّرت لنا قصص الغرام وإنّما بسبب تحوّلات تعليميّة وثقافيّة تؤكّدها أدلّة إحصائيّة.

"الآداب للبنات والعلوم والتكنلوجيا للأولاد" هو  تصنيف نمطيّ هيمن في المدرسة التونسيّة خلال الثلث الأخير من القرن العشرين

اقرأ/ي أيضًا: لماذا تتخفّى بعض الفتيات وراء "هيئة الذكور"؟

لسنا في حاجة إلى التذكير بأنّ الفتيات قد تفوّقن منذ سنوات على الفتيان في نسب التّمدرس والنجاح والتخرّج، فبعض النقرات الغوغليّة كفيلة بإطلاع القارئ على هذا الترتيب الجديد في المدارس التونسيّة وجامعاتها. وحسبُنا في هذا المقام الحافل بالأرقام الإشارة إلى أنّ المرأة التونسيّة قد افتكّت من الرجل حصنًا آخر من حصون الهيمنة الذكوريّة، فها قد وضعت في حقيبتها مفاتيح علوم الهندسة والتكنولوجيا والرياضيات، وألم يعلن البنك الدولي في شهر ماي/أيار 2019 عن احتلال تونس المرتبة الثانية عالميًا من حيث نسبة الإناث خرّيجات الشعب العلميّة في التّعليم العالي؟

ومن الشهادات الطريفة التي تدعم القول بأنّ الرجل قد "فقد عقله" وتنازل للمرأة عن مملكة "اللوغوس" إقرار عماد الرقيق، الطبيب المختصّ في الأمراض النّفسيّة والعصبيّة، أنّ عدد الذكور بمستشفى الرّازي (مستشفى الأمراض العقلية) أكثر من عدد الإناث، وقس على ذلك عدد المصابين بحالات الاكتئاب.

"صاحبك راجل"

أنت في تونس، لا تعجب إن سمعت فتاة حسناء متوقّدة أنوثة تقول لوالدها أو أخيها أو حبيبها " صاحبك راجل"، فهذه العبارة تعني "اطمأنّ، أنا قادرة على قضاء حاجاتي بنفسي دون الوقوع في أيّ حرج مادّي أو أخلاقيّ ودون الحاجة إلى حماية من رجل ذي سواعد مفتولة وأسياف مسلولة.

هذا التحوّل في الخطاب ينبئ عن انقلاب واقعيّ وثقافيّ وذوقيّ، فلطالما استأمنت الثقافة التّونسيّة الرجل على قيم المعرفة والنجدة والمروءة والهمّة والأنفة، فكأنّ هويّته تأبى الجبن والجهل والضعف والهوان، غير أنّ المعاينات والإحصائيّات الرّاهنة تفضح تقلّص حظّ الرجل من هذه القيم النبيلة، تقوم دليلًا على ذلك عدّة أمثلة سلوكيّة نذكر منها اثنين.

أمّا المثال الأوّل فمداره على حجم مساهمة الرّجال في الجريمة، فقد أعلنت الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد في أوت/أغسطس 2018، أنّ الرجال أكثر انخراطًا في الفساد من النّساء، وقد كشفت آنذاك آمنة البجاوي المستشارة لدى الهيئة أنّ عدد المبلّغ عنهم في قضايا الفساد سنة 2016 بلغ 51 رجلًا من 53 شخًا، أمّا سنة 2017 فقد تمّ التبليغ عن 142 شخصًا منهم 136 رجلًا و6 نساء فقط. وتتناسب هذه الأرقام مع إحصائيّات أخرى منها أنّ عدد السجناء أكثر من عدد السجينات. لكن قد يُرجع البعض هذه الفوارق إلى أنّ النساء أقلّ مشاركة في الحياة العمليّة وأدنى تحمّلا للمسؤوليّة ممّا يجنّبهنّ الوقوع في تجاوزات إجراميّة، لكن هذا التفسير يتهاوى عند الوقوف على المثال الثاني الدّال على فقدان الرجل سيادته المادّيّة ومنزلته الاعتباريّة.

 لا تعجب إن سمعت فتاة حسناء متوقّدة أنوثة تقول لوالدها أو أخيها أو حبيبها "صاحبك راجل" وتعني هذه العبارة "اطمأنّ، أنا قادرة على قضاء حاجاتي بنفسي دون الحاجة إلى حماية من رجل ذي سواعد مفتولة"

اقرأ/ي أيضًا: استراتجيات الرجال لإنهاء العلاقات مع النساء: "تستاهل ما خير؟"

إذ أثبتت بعض الإحصائيات أنّ الرجال ما عادوا قوّامين على النساء في الإنفاق، فأكثر من 54 في المائة من مصاريف العائلة التونسية أصبحت تؤمّنها المرأة. ولئن تباهى رئيس الحكومة يوسف الشاهد بهذا الرقم خلال إشرافه على فعاليات الندوة الوطنية للاحتفال باليوم العالمي للمرأة في مارس/ آذار 2019،  فإنّ القراءة المتأنية للخبر تؤكّد أنّه مؤذن بأزمة جديدة تردّي فيها الرّجل ممّا يهدّد الأسرة بعدم التّوازن، وقد يساهم في تواصل ارتفاع نسب العنوسة والطلاق وغيرها من المحن الاجتماعيّة. كما قد يفضي إلى عودة المعايير البدائية في الزواج، إذ كان الإنسان البدائيّ لا يفضّل امرأة على أخرى لجمالها أو لعفّتها أو بدافع عاطفيّ "إنّما كان يختارها على أساس نفعيّ" على حدّ تعبير ابراهيم محمود الباحث السوريّ في كتابه "الضلع الأعوج- المرأة وهويّتها الجنسيّة الضائعة".

ولو وسّعنا دائرة النظر لتبيّن لنا أن أزمة ندرة الرجل في تونس ما انفكّت تتخذ حيّزًا أوسع وأخطر من الأبعاد الذكوريّة والاجتماعيّة والرمزيّة لتشمل البعد السياسيّ  والسّياديّ.

رجال الدولة ورجال الأعمال والسياسة

تزخر الساحة السياسيّة في تونس قبل الثورة وبعدها برجال الأعمال ورجال الفكر والرجال المناضلين والرجال المدافعين عن مشاغل آنيّة أو مسائل جهويّة، لكنّها تخلو أو تكاد في ظنّ الكثيرين من "رجل الدولة" الذي يمتلك كفاءات مخصوصة أهمّها الانفتاح على أبناء المجتمع بمختلف ألوانهم والتّفكير الوطنيّ الاستراتيجيّ المتّصل بالجوانب الأمنيّة والاقتصاديّة وغيرها من شروط ديمومة التّقدّم والازدهار. وهو ما يختلف عن تطلّعات "رجل السياسة" الذي تحرّكه في الغالب نزعة براغماتيّة، إذ يحرص على التعبئة وكسب ودّ الأغلبيّة على حد تعبير الأكاديمي في العلوم السياسية دانيال ستريشر (Daniel STRICHER)  في مقال بجريدة "لوموند" الفرنسية عنوانه "رجل السياسة ورجل الدولة" (L'homme politique et l'homme d'État).

وقد تفطّن التونسيون خاصّة بعد الثورة إلى تقلّب السياسيين وافتقار الكثير منهم إلى "الكاريزما" والثبات والرصانة ووضوح الرؤية، فقد وُصف جلّ القادة اليساريين بالنرجسيّة والتّطلّع المحمود إلى الزعامة، كما نُعت الإسلاميون بالانخراط في مشاريع إقليميّة وعالميّة صلتها غير وثيقة بمصالح الدولة التونسيّة الخالصة، وعُدّ المنصف المرزوقي، رئيس الجمهورية السابق، باحثًا في خطاباته عن النجوميّة غير قادر على التملّص من نزعته الحقوقية النضالية التي تليق بالمعارض الدائم أكثر ممّا تتناسب مع رجل الدولة الذي يفترض أن يتحلّى بالديبلوماسيّة واللياقة السياسيّة في تصريحاته لاسيما عند انتقاد الخصوم.

تخلو الساحة السياسية في تونس بنظر الكثيرين من "رجل الدولة" الذي يمتلك التّفكير الوطنيّ الاستراتيجيّ وهو ما يختلف عن تطلّعات "رجل السياسة" الذي تحرّكه في الغالب نزعة براغماتيّة

 كما عاب المتابعون على رجال سياسة آخرين ميلهم إلى التهريج والانتهازيّة والتسرّع، ولم يسلم يوسف الشاهد من النقد المحتكم إلى معايير إسناد لقب "رجل الدولة"، فقد اتّهمه خصومه بتوظيف أجهزة الدولة لمقاصد حزبيّة، كما جرّده الإعلامي سفيان بن فرحات من هذا اللقب متهجّما عليه وعلى سليم العزابي الأمين العام لحركة "تحيا تونس" قائلًا لهما "برّو شدّو دياركم .. السياسة لازمها رجال".

إجمالًا، يمكن القول إنّ منزلتيْ الرجل والمرأة في تونس قد مرّت بثلاث مراحل، كشفت الأولى عن تحيّز جندريّ حينما حصرت العقلانيّة والقيم النبيلة في الذكور، وقد اقتضى ذلك مراجعات ثقافيّة وفكريّة وتنويريّة وتشريعيّة حقّقت نجاحات محمودة، أمّا المرحلة الثانية فقد أبانت عن ثورة نسويّة أثمرت فخر التونسيين واعتزازهم بنجاح المرأة وتفوّقها في سائر المجالات، غير أنّ المرحلة الأخيرة بدت متّصلة بتراجع منزلة الرجل علميًا وقيميًا واجتماعيًا، وهو ما يقتضي البحث عن سبل التوازن حتّى لا نقع في ما يمكن نعته بأزمة الرجل في الجنس والسياسة والمُثل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رحلة البحث عن الذات من "لينا" إلى "ريان".. ما رأي الطب الجنسي وعلم الاجتماع؟

ضحايا الاغتصاب في تونس.. قصص الوجع الدائم