22-أكتوبر-2021

حققت بنزرت جلاءها عام 1963 لكن التكلفة كانت باهضة جدًا استغلها السياسيون في البداية وتمعش منها المثقفون المزيفون أيضًا

 

"كيف يمكن لابنة شهيد أن لا تسعى لمعرفة الحقيقة؟ ابنة شهيد تعيش حاضرها في متاهة ماضيها. حاضري واقع عربي يتلظى يندد ثم لا يسمعه أحد، وماضيّ تاريخ عربي يُنتهك، يُدفن تحت الأنقاض ثم لا يذكره أحد، ومن بين أناملي يطفو جرح آخر، جرح مازال ينزف تحت غبار التاريخ.. حرب بنزرت".

بخطوات متثاقلة ونفس متقطع، ثم خطى متسارعة تظهر بطلة الفيلم التونسي النخيل الجريح، وهي تروي لنا حكايتها، التي تتقاطع مع حروب تخوضها دول عربية في أقطار مختلفة، وسط كآبة تحيط بها، وشبح الموت يلقي بظلاله على بيوتها.

يناير/جانفي 1991، السماء تؤذن بسقوط الأمطار، الطقس عابس كئيب، تركض شامة فوق قنطرة بنزرت الشهيرة، بوجه حزين يبحث عن حقيقة ثلاثين عامًا من الفقد، فقد أبيها كمال بن محمود، أحد شهداء معركة بنزرت.

شاهد/ي أيضًا: فيديو: معركة تحرير بنزرت 19 ـ 23 جويلية 1961

في الجزائر، بدأت العشرية السوداء تلتهم أبناءها، وسط خوف ورعب ودمار نفسي، لم يسلم منه الكبار ولا الصغار، الناس هاربون من الجحيم والقتل يسري عليهم على حد السواء، وأرواح بريئة تزهق دون رحمة.

في هذه الأجواء المشحونة بحمرة الدماء، يسافر نور الدين (حسان كشاش) وهو موسيقي، مع زوجته نبيلة (ريم تاكوشت) إلى تونس لحمايتها من المجازر التي تحصد يوميًّا ضحايا دون ذنب، ويستقران في منزل بمدينة بنزرت في أقصى الشمال.

وفي الشرق، اندلعت حرب الخليج الثانية بعد غزو العراق للكويت، صفارات الإنذار تدوي، عمليات عسكرية جوية وبرية، وصولًا إلى عملية درع الصحراء التي قادها تحالف دولي ضد العراق لتحرير الكويت بداية من 17 جانفي/يناير من العام ذاته، وبدأ الدمار ينال من بغداد.

تستعيد شامة شبح معركة بنزرت التي استشهد فيها والدها، وهي رضيعة، وبعد مرور هذه السنوات لا تجد له قبرًا أو رفات ولا حتى رفيق نضال له، يزيل غيمة من الحيرة والشك والحسرة 

هذه الحروب تُعيد لشامة (ليلى واز)، شبح حرب بنزرت التي استشهد فيها والدها، وهي رضيعة لم تتجاوز الستة أشهر، وبعد مرور هذه السنوات لا تجد له قبرًا أو رفات ولا حتى رفيق نضال له، يزيل غيمة من الحيرة والشك والحسرة عن قلبها.

هي ثلاثينية أغرتها القراءة ثم الكتابة، ترقن تطبع تُواسي نفسها وتضمد جراح أمها، تعيش لحظة الكتابة لتتجاوز لحظة الألم، التي سببتها الحرب. قدرتها على الرقن منحتها فرصة للتعاون مع كاتب يُدعى الهاشمي عباس (ناجي ناجح)، الذي يعيش في مدينة بنزرت، وبصدد العمل على سيرته الذاتية ودوره في حرب 1961. 

يلتقيان في محطة قطار أو الترينو كما يحلو للتونسيين تسميته، (وهي عبارة فرنسية تندرج ضمن الفرونكو آراب، أي مزج اللغة المحلية بالفرنسية)، ويتفقان على العمل والمقابل ومكان التسليم.

كانت متأثرة بكتاباته، شغوفة بأسلوبه الملهم، وكان مطمئنًا لعملها ولأمانة مخطوطات كتابه بين يديها، حتى علم أنها ابنة شهيد في الحرب وليس أي شهيد هو نقابي متطوع واسمه كمال بن محمود. فتغيرت ملامحه وقطع إمدادها بالمخطوطات.

في الأثناء، تلتقي شامة بنبيلة الجزائرية، التي اتضح أنّها زميلة دراسة سابقة لها في تونس، تعيش معها في بنزرت وتبحث عن أصدقاء والدها وتبدأ في كشف خيوط الرواية التي يخفي وراءها الكاتب سرًا مرتبطًا بحكايتها.

فاتضح أنّ الكاتب ليس إلا بطلًا من ورق، يملك الأسلوب الرائع والمشوق لكنه لا يملك الأخلاق، أخلاق المثقف، فقد باع الذاكرة الحية من أجل صور أحسن تركيبها لكنّها تبقى مصطنعة، ومجحفة في حق أبطالها الحقيقيين الذين استشهدوا وهم في الصفوف الأولى.

كثيرة هي الحروب التي التهمت المستضعفين وجعلتهم وقودًا لها، حطبًا يغذون نارها، يشعلون مآسيها، غابوا وسط زحام العذابات دون أن يذكرهم أحد

كثيرة هي الحروب التي التهمت المستضعفين وجعلتهم وقودًا لها، حطبًا يغذون نارها، يشعلون مآسيها، غابوا وسط زحام العذابات دون أن يذكرهم أحد، يبقون خالدين في قلوب أبنائهم أزواجهم أو زوجاتهم أمهاتهم وآبائهم، يظلون في عتمة الذاكرة إما صدمة أو حزنًا أو جرحًا غائرًا لا تمحه السنين.

هم كما تقول بطلة العمل شامة "الذين رغم تضحياتهم قد لا يصنعون التاريخ لكنهم وحدهم يعيشون مآسيه".

وفي فيلم النخيل الجريح الذي صدر عام 2010، لا ينقصون مجدًا لأنّ أمجادهم عالية كعلو النخلة ولا عزًا أو شموخًا ولا أصالة أو صدقًا، ولا نضالًا، ولا يعيبهم شيء، مأساتهم أنّهم ماتوا ليعيش الانتهازيون بعدهم، مفتخرين بالنصر الذي لم يشاركوا فيه.

حرب/معركة بنزرت (19-22 جويلية/يوليو 1961)، راح ضحيتها الآلاف في تونس، ولا يٌعرف حتى اليوم رقمهم تحديدًا، خصصت لهم الدولة مقبرة دون هويات محددة، ترى شامة والدها وسط كل القبور، تجلس وسطها، تنظر إلى كل زواياها، ولسان حالها يقول "في أي قبر أنت يا أبي؟".

شهداء لم يكونوا ضحايا التاريخ الاستعماري فقط، أو قرار سياسي دفعهم إلى حرب لا توازن فيها بالعدة أو العتاد ودون خطة مسبقة، بل هم ضحايا إعادة إنتاج هذا التاريخ وفق زاوية أحادية انتهازية، على أساس أن التاريخ يكتبه المنتصرون.

معركة بنزرت (19-22 جويلية/يوليو 1961)، راح ضحيتها الآلاف في تونس، ولا يٌعرف حتى اليوم رقمهم تحديدًا، خصصت لهم الدولة مقبرة دون هويات محددة ولذلك ترى شامة (بطلة الفيلم) والدها وسط كل القبور

المنتصرون وفق هذا العمل السينمائي الإبداعي ليسوا من نجحوا في صد العدو بل الذين اختبؤوا مع أول رصاصة دقت طبول الحرب، وخرجوا من جحورهم كأبطال وهميين حين عم الهدوء المدينة.

خرجوا ليتوهموا النصر وعاشوا لسنين، يروون قصصًا لم يعيشوها، وتجارب لم يخوضوها وأجسادًا دامية لم يسعوا لتضميد جراحها، ثم ليكتبوا لنا تجاربهم حتى نصفق لهم.

عبد اللطيف بن عمار مخرج العمل وكاتبه، فضح هذا التضليل، كشف لنا الشماعة التي يختفي وراءها المثقفون المزيفون، أصحاب الكلمة الحق بعد فوات الأوان. وهو ما قاله على لسان أحد المشاركين في العمل عن الهاشمي عباس "في كتابه يكتب ما يريد ويقول ما يريد لكن الصور لا تكذب".

اقرأ/ي أيضًا: مفيدة التلاتلي.. مخرجة العوالم النسائية التونسية

حاول المخرج تكريم الشهداء المستضعفين الذين لا يذكرهم التاريخ، بلمسة تتماشى مع سياقه الثقافي والاجتماعي وهو ما يؤكد عليه في مختلف حواراته الصحفية، في محاولة منه إلى تقديم صورة تشبه التونسي وتحترم سياقاته الثقافية ولا تكون مسقطة لإرضاء الغرب. وهو ما يظهر جليًا في قصة حب شامة وابن أحد المناضلين المتطوعين في الحرب، التي يظهر فيها الجانب المحافظ في الحوارات والمشاهد الثنائية.

حاول المخرج تكريم الشهداء المستضعفين الذين لا يذكرهم التاريخ، بلمسة تتماشى مع سياقه الثقافي والاجتماعي 

كما بدا تكريمه للمثقفين المنسيين في البلاد، الناجحين خلف الكاميرا في الغالب وليس أمامها، ويظهر ذلك في طريقة تقديمهم كمجموعة موسيقية تعزف ليلة رأس السنة مع نور الدين، الموسيقي الجزائري، على غرار الصغير أولاد أحمد كعازف للناي، والنوري بوزيد على الكمنجة، ولسعد بن عبدالله الأكورديون..

حققت بنزرت جلاءها عام 1963 لكن التكلفة كانت باهضة جدًا، استغلها السياسيون في البداية وتمعش منها المثقفون المزيفون على حد تعبير الكاتب الفرنسي باسكال بونيفاس، بينما قتل المناضلون فيها أكثر من مرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عيد الجلاء: تعرّف على أهم محطات معركة بنزرت

كيف كانت بنزرت قاعدة عسكرية "نووية"؟