فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو".. الكلاب أيضًا تتخلى عن وفائها

على غرار الكثير من التونسيين دفعني الفضول لمشاهدة فيديو تحت إشراف وزارة السياحة التونسية لإحدى المؤثرات وهي تدعو على لسان ابنتها للبقاء في تونس وعدم مغادرتها، وهو ما استفز المتابعين بين مؤيد ومعارض.

لا أعرف لما ذكرني هذا الفيديو بفيلم شاهدته ضمن أيام قرطاج السينمائية مؤخرًا. هل تعرف السيدة فاطمة بوعون السيد "رامبو"؟ ربما تكون إجابتها: "طبعًا، ومن لا يعرف "رامبو" صاحب العضلات والبطولات" (إذ لا بطولة اليوم دون عضلات بمختلف أشكالها). ستجيب ربما: "هل ينبغي أن أعرفه"؟ ثم ما العلاقة بين هذا وذاك.

السيد "رامبو" أعزكم الله كلب "مصري"، هو أحد أبطال فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد "رامبو" للمخرج الشاب خالد منصور الذي اختار أن يكون أحد أبطال فيلمه الأول كلب. كلب ضاق ذرعًا ببلاده، فكيف هو إحساس بَنِي البشر.

السيد "رامبو" كلب "مصري"، هو أحد أبطال فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد "رامبو" للمخرج الشاب خالد منصور..  كلب ضاق ذرعًا ببلاده، فكيف هو إحساس بَنِي البشر

فيلم شارك به صاحبه في عدة مهرجانات من ضمنها "فينيسيا" في إيطاليا، البحر الأحمر في السعودية وأيام قرطاج السينمائية في تونس، وخلف ردود فعل إيجابية من حيث طرافة الفكرة وأسلوب تنفيذها والرسائل التي يمكن لكل شخص تلقيها، كلٌّ بحسب منطلقاته وأحاسيسه.

الفيلم تحصل أيضًا على عدة جوائز في مهرجان سينما ميد لأفلام البحر المتوسط في بلجيكا حيث فاز بجائزة لجنة التحكيم والجائزة الكبرى، والمسابقة الرسمية للدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر بجدة بالمملكة العربية السعودية حيث فاز بجائزة لجنة التحكيم.

يلخص الفيلم الذي دام إنتاجه حوالي 8 سنوات، رحلة "حسن" لإنقاذ كلبه من القتل على يد جاره "كارم" الذي يريد طرده ووالدته من الشقة المتواضعة التي يسكنونها والذي لم يتوانَ عن الاعتداء عليه لولا تدخل السيد "رامبو"، الذي دافع عن صاحبه وعضّ المعتدي في منطقة حساسة، ليأخذ الفيلم منحى آخر، كيف ينتقم "كارم" لرجولته ولو من كلب؟ وكيف سينقذ "حسن" كلبه.

يحاول "حسن" إخفاء الكلب لأيام هنا وهناك، لدى صديقة أو معرفة، لكنّه لا يجد في ذلك حلًّا دائمًا، فأحد من وعدوه بالاعتناء بالكلب، كان ينوي استغلاله ماديًا في عراك الكلاب.

تبرز بارقة أمل حين وجد ملجأً وشخصًا سيعتني أخيرًا بكلبه من ضمن مجموعة أخرى من الكلاب، يبدو المكان جيدًا لدرجة أن الكلب بدأ في ربط علاقات مع كلاب أخرى، ولكن، يبرز "كارم" ويصيب الحيوان برصاصة في عينه.. كيف سيعيش كائن ما بعينٍ واحدةٍ؟ كيف سينظر لـ"جمال" بلده؟ ربما منحه الله فرصة ليرى بؤسه بنصف حجمه وبنصف ذمامته.

يقرر "حسن" في النهاية التخلي عن جزء منه وعن ذكريات جمعته بـ"رامبو" ويجد الحل في تسفيره نحو الخارج.

• هل "رامبو" انعكاس لحسن؟

من يشاهد الفيلم، سينتبه لشخصية "حسن" الطيبة، المسالمة والخاضعة، ففي حين تحاول والدته رد محاولات "كارم" طردهم والوقوف في وجهه بما تستطيع، حتى لو كان فقط لسانها، نرى "حسن" خانعًا راضيًا إلى حد كبير بما هو موجود ما عدا وضعه مع "رامبو"، الذي يحاول كما أشرنا سابقًا إخراجه مما هو فيه.

هل يعتبر "حسن" صديقه "رامبو" انعكاسًا له؟ هل هو "حسن" في شكل آخر؟ هل تمنى "حسن" أن يكون كلبه في لحظات ما؟ هل تمنى أن يكون شجاعًا ليرد أذى "كارم"؟ هل تمنى أن يسافر هو إلى الخارج؟

من يشاهد الفيلم، سينتبه لشخصية "حسن" المسالمة والخاضعة والراضية بكل ما هو موجود ما عدا وضعه مع كله"رامبو" الذي يحاول إخراجه مما هو فيه.. فهل يعتبر "حسن" صديقه "رامبو" انعكاسًا له؟ هل هو "حسن" في شكل آخر؟ هل تمنى أن يسافر هو إلى الخارج؟

سيلاحظ المشاهد أيضًا تعارض الأسماء مع أفعال الشخصيات، فلا يبدو "كارم" كريمًا في معاملاته خاصة حين يحاول إخراج "حسن" وأمه من البيت، ولا يبدو "حسن" حسنًا في ردود فعله السلبية في مجملها، وحده "رامبو" يثأر لاسمه حين هاجم "كارم" دفاعًا عن صاحبه مخلفًا له جرحًا لم يُشفَ على مستوى عضوه التناسلي.

هل كان "حسن" مسالمًا من محبي المهاتما غاندي مثلًا الذي يعتبر أن "اللّاعنف هو سلاح الأقوياء"؟ ربما قال غاندي ذلك لأنه ضعيف البنية الجسدية غير قادر على رد الأذى؟ وهو ما دفعه لاختيار نهج سلمي في المقاومة، وهو رأي يناقضه الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي وهو الأقرب ثقافيًا لـ"حسن"، إذ يقول في إحدى قصائده:

لا رأي للحق الضعيف ولا صدى

والرأي رأي القاهر الغلاب

لا عدل إلا إن تعادلت القوى

وتصادم الإرهاب بالإرهاب

لكن غاندي يقول أيضًا "إن الفقر هو أسوأ أشكال العنف"، وهل هناك ما هو أعنف مما يعيشه "حسن"؟ عامل بسيط جدًا يسكن رفقة أمه في شقة متهالكة سيطردون منها عما قريب، منكود الحظ، حتى الفتاة التي يشعر تجاهها بالإعجاب سيكتشف أنها مخطوبة.

ربما اكتشف "حسن" هذه المقولة متأخرًا واستفاق بعدما خسر صديقه ليأخذ بثأره من "كارم" في آخر الفيلم. ولكنه لا يغادر بلده رغم كل معاناته، هل شاهد "حسن" فيديو فاطمة بوعون التي تدعو الناس في تونس لعدم مغادرة بلادهم وأخذ برأيها؟

ربما اكتشف "حسن" هذه المقولة متأخرًا واستفاق بعدما خسر صديقه ليأخذ بثأره من "كارم" في آخر الفيلم، لكنه لا يغادر بلده رغم كل معاناته.. كيف رضي الكلب بالمغادرة ولم يرضَ الإنسان؟ 

كيف رضي الكلب بالمغادرة ولم يرضَ الإنسان؟ ستقولون ربما إنّ ليس للحيوان حيلةً، كان يمكن أن يعضَّ ويخدش كل من اقترب منه ليفلتوه ويعود إلى صاحبه. لكنه فهم ربما أنّ لا مُقام له في أرض جده "وبواوت" أو فاتح الطريق، وهو معبود مصري قديم اتخذه المصريون القدماء إلهً فتح الطرق أمام الملك في المعارك وفي الحياة الأخرى، وصوروه على هيئة ذئب.

لو بقي في بلده لكان مثل جده الآخر "أنوبيس" إله الموتى والمقبرة والتحنيط، أي أنه سيكون على نفس الحال ولو عاش الدهر كله.

حتى جينيريك الفيلم كان معبرًا عن تلك الحالة، حيث اختار المخرج أغنية "شجر الليمون" للفنان المصري محمد منير، وهي أغنية صدرت سنة 1981، وجاءت بعض كلماتها قائلة:

"فينك

 أنا من غيرك أنا مش عاقل ولا مجنون

 أنا مطحون والدنيا دي رحايا

 وقلبي حب الحب وحبابي عيون 

 شجر الليمون دبلان على أرضه

 شجر الليمون دبلان على أرضه"

• "رامبو" التونسي

كل مواطن تونسي هو مشروع "رامبو" مؤجل، قد لا تكون به إصابات بدنية كما وقع للكلب، ولكن كثيرين مصابون نفسانيًا وعاطفيًا، بعضهم خذلهم بلدهم أو لنقل خذلتهم آمالهم إن أردنا تلطيف العبارات، آخرون أنهكهم العيش في تونس، إن لم يكن بسبب البطالة المميتة ببطء، فبسبب ضغط العمل ذي الأجر المحدود وسُمّيّة العلاقات الاجتماعية وغيرها من الأطر المحيطة بالمواطن والتي تضغط على أضلاعه فتحوله إلى بقايا إنسان.

كل مواطن تونسي هو مشروع "رامبو" مؤجل، قد لا تكون به إصابات بدنية كما وقع للكلب، ولكن كثيرين مصابون نفسانيًا وعاطفيًا، بعضهم خذلهم بلدهم أو لنقل خذلتهم آمالهم، وآخرون أنهكهم العيش في تونس

هل يمكن لشخص ما كائنًا من كان أن يعيش في مجتمع ترتفع فيه معدلات الجريمة، نسب البطالة، تردي الخدمات..؟ كيف يمكن له التفكير في تكوين عائلة وأن يكون له نوع من الاستقرار؟ كيف سيربي طفله مثلًا؟ حسب الأخلاق وما يجب أن يكون عليه حال أي طفل قويم، أم حسب ما سيجد عليه المجتمع حين يكبر؟

كان فيديو فاطمة بوعون ليكون أكثر إقناعًا لو توجهت به للمهاجرين ونصحتهم بأن يعودوا ليستثمروا في بلادهم ربما، وأن تلعب على وتر إحساس الغربة والتمييز العنصري مثلًا.

لكن، يبدو أنّ الأفضل أن تكون "رامبو" في الخارج أفضل من أن تكون "رامبو" داخلها، ما دام لا مفرّ من الجراح، وقد قال الشاعر الجاهلي طرفة ابن العبد منذ أكثر من 1600 عام: "وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهند".