27-أبريل-2020

تضييقات وانتهاكات في خضم الوضع الاستثنائي لمواجهة فيروس كورونا (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

قد يتبادر إلى أذهاننا أننا في زمن حرية التعبير، وقد نخال أننا رحلنا عن زمن إعدام الفكرة وإجهاض الكلمة، وكثيرًا ما نتوهم أن مصادرة الحريات الشخصية على غرار حرية التعبير باتت من الماضي ولن تجمعنا به سوى ذكرى.

وقد يطنب الكثير منا في الحديث في المنابر والإذاعات و حتى مدرجات الكليات ومحطات الميترو عن ضمانات تشريعية وسندات قانونية وخاصة مكاسب دستورية اندرجت بالأساس في الباب الثاني من دستور 2014 تحت عنوان "الحقوق والحريات" على إثر قائمة من الحقوق امتدت على 28 فصلًا. وقد مثلت حرية التعبير موضوع الفصل 31 من الباب الثاني سالف الذكر ومنطوقه أن "حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يمكن ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات".

 ما شهدته تونس في الآونة الأخيرة من إيقافات متتالية قد يكون خير مثال على مصادرة الحريات باسم الوضع الاستثنائي 

لكن الواقع أن ما شهدته تونس في الآونة الأخيرة من إيقافات متتالية قد يكون خير مثال على مصادرة الحريات باسم الوضع الاستثنائي وفي ظل حالة الطوارئ، وهو تعد صارخ على مكاسبنا التي تم انتزاعها بالدماء لا بقرع الطبول. هو نهج الاستبداد ومصادرة الحريات وتكميم الأفواه التي لا تنطق بما تمليه السلطة.

والتالي، فمن المقبول أن نطرح السؤال: هل أن هذه الانتهاكات باتت سلوكًا طبيعيًا يندرج ضمن أولوياتنا الحالية أو أننا بتنا نعتمد منطقًا تفاضليًا بين الحقوق والحريات؟ والواقع أن تعدد هذه الأخيرة و تباينها لا يمكن اعتماده على أنه الأساس الوجيه لتبرير علوية حق على حق آخر.

اقرأ/ي أيضًا: من سيقود عالم ما بعد الكورونا؟

بمعنى أوضح، في ظل الوضع الراهن وبالنظر لجملة المعطيات الصحية والاجتماعية والاقتصادية والمجهودات المبذولة في سبيل تجاوز هذا الظرف بما يكفل للمجموعة البشرية حقها في الحياة، هل أصبح هذا الطارئ مرتبة أسمى من باقي المراتب التي تحتلها مختلف الحقوق الأخرى على غرار حرية التعبير.

أعتقد أنه من غير المنطقي اعتماد آلية المفاضلة باعتبار أن منع حرية التعبير يحول دون المطالبة بالحق في الحياة نفسه. هذه الآلية تقوم على تبويب و تقسيم كلاسيكي تندرج في إطاره حرية التعبير في خانة الحقوق الأساسية، على أن جملة الحقوق على اختلافها من الضروري أن تجتمع و تتكامل حتى تعكس تكريسًا فعليًا للذات البشرية. وفي هذا الإطار، يمكن أن نستدعي مقولة ريفيرو "يتبع مصطلح الحريات الأساسية إذن من تصنيف تفاضلي للحقوق هو في آخر الأمر أسوأ تصنيفاتها".

وقد نجد فيما يلي تجليات مختلفة وتمظهرات متباينة من حيث الأطراف والحيثيات لكنها تجتمع لفضح وإعلان رغبة واضحة لطمس فكرة الحق وتخليد منطق الموالاة.

انتهاك في حلق الوادي 

على خلفية نشره لمقطع فيديو ينتقد فيه ممارسات رئيسة بلدية حلق الوادي، تم إيقاف الطالب محمد أمين سعدو المرسم بكلية الحقوق و العلوم السياسية بتونس، يوم 26 مارس/آذار الماضي، بتهمة إثارة البلبلة ونسب أمور غير قانونية لموظف عمومي أثناء القيام بعمله دون دليل. والواقع أن الأمر لا يتجاوز كونه يتعلق بحق النفاذ إلى المعلومة، إذ من بين النقاط التي تعرض إليها الطالب طبيعة المواد المُستعملة بغرض التعقيم.

في مرحلة أولى قام الشاب بإنزال مقطع فيديو متحدثًا فيه باللغة الفرنسية وذلك كطريقة رمزية للفت انتباه أعضاء المجلس البلدي بحلق الوادي وعلى رأسهم آمال الإمام رئيسة البلدية على إثر تصريحها في راديو "Radio Orient" وذلك بصفتها رئيسة البلدية لا بصفتها متساكنة كسائر متساكني منطقة حلق الوادي و صرحت فيه بما يلي: "تم احتلالنا من فرنسا ونحن فرنسيون" (On a été colonisé par la France, on est français).

ثم قام الطالب فيما بعد بإنزال مقطع فيديو ثان باللغة العربية وتعرض إلى عمليات التعقيم وتساءل عن كيفية صرف الميزانية المخصصة لمجابهة فيروس كورونا، بعد أن صرح المسؤول عن عمليات التعقيم في البلدية يوسف بن حمزة، في حديث خلال النشرة الإخبارية، بأنها مقدرة بـ 50 ألف دينارًا. ما دفع الشاب إلى مراسلة الهيئة المالية لكن دون تلقي أي تفاعل أو الحصول على رد، كما ندد بضرورة حماية الأعوان أثناء قيامهم بعمليات التعقيم بالمنطقة.

.. فيما يخص الفيديو بالفرنسية ، هاو فيديو بالتونسي حاولت نعاود فيه الي قلتو لتعم المعلومة و توضاح اكثر . - رابط حوار...

Publiée par Amine Sadou Yaakoubi sur Dimanche 22 mars 2020

ليتصل فيما بعد بالمندوبية الجهوية لوزارة الصحة ثم بمكتب الصحة التابع للبلدية وأعلمته إحدى المشرفات على هذا المكتب أنها تجهل طبيعة المواد المستعملة ليتصل في مرحلة أخيرة بالبيطري المسؤول ويتم التوصل إلى أن المادة المستعملة هي "7Hypred force" التي وفقا لما تقدم به تشكل خطرًا على صحة الإنسان خاصة وأنه يقع توزيع هذه المادة على المتساكنين بالجهة وأنها بالأساس صالحة للاستعمال الفلاحي.

يبدو أن حرية التعبير تعود إلى قيودها التي كانت تكبلها لعقود من الزمن في حنين لنظام قمعي، وما الحرية إلا شعارًا أو أداة قد تكون قاصرة من أجل الترويج لديمقراطية الدولة أو فقط بهدف كسب نقاط في مجال احترام حقوق الإنسان على السلم الدولي لا غير.

اقرأ/ي أيضا: الكورونا تبيح المحظورات

سوء تنسيق واعتداءات

 تم إيقاف رئيس منظمة "أنا يقظ" أشرف العوادي بتاريخ 25 مارس/آذار 2020 بتهمة خرق حظر الجولان، رغم أنه تحصل على ترخيص شفوي من إقليم الأمن قبل مغادرته للحصول على الترخيص الكتابي. في مفارقة غريبة بعض الشيء فكيف يمكن الحصول على ترخيص جولان دون المغادرة؟ وقع إيقاف العوادي ونقله إلى مركز الإيقاف ببوشوشة، وقد يبدو الأمر منذ الوهلة الأولى على درجة من الشرعية خاصة وأن القانون ينطبق على الجميع دون مراعاة لاعتبارات ثانوية أخرى عدا أن الأمر في هذه الحالة قد يشكل استثناءً للقاعدة سالفة الذكر.

المسألة متعلقة بمتطوع "خرق" حظر الجولان بغاية التنسيق لإيصال تبرعات ومساعدات طبية إلى جربة المنطقة الموبوءة، تم إيقافه ليقضي ليلة كاملة يتشارك فيها مع باقي الموقوفين المكان نفسه دون اتخاذ الإجراءات اللازمة للتثبت من إمكانية حمله للفيروس من عدمها.

لن تفضي الممارسات التعسفية إلا إلى استدعاء سيناريو النظام البوليسي الذي برهن على كونه من أبشع ما شهدته تونس على المستوى الإنساني

الصحة العامة هي ركن من أركان النظام العام، لكن كيف لنا أن نعيب على من لم يتلق من التكوين إلا البدني منه أن يكون على معرفة بأركان النظام العام؟ إن هذا النظام ليس إلا أداة ووسيلة لتبرير ممارسات فاشية فيها تعد صارخ على الحقوق والحريات الفردية وحتى الجماعية.

وقد نأخذ كمثال لآخر للاعتداءات المادية والمعنوية لأعوان الأمن تلك المسلطة على سائقي دراجات الأجرة "intigo"، وقد قد كان مروان أحد الضحايا وقد سجل فيديو يصف من خلاله ما تلقاه من اعتداء جسدي قرب مركز المرسى الشرقية رغم حمله لترخيص.

ليتلقى في مرحلة لاحقة اتصالًا يتوجه على إثره الى نفس المركز المذكور ظنًا منه أنه سيتمكن من استرجاع وثائقه الخاصة ليجد نفسه متهمًا بنشر الأخبار الزائفة وإثارة البلبلة، ثم يُنقل هو الآخر إلى مركز الإيقاف ببشوشة حتى يعرض في مرحلة موالية على وكيل الجمهورية.

 أن تكون حامللترخيص من وزارة الداخلية التونسية غير معترف به لدى أعوانها ماهو إلا دليلًا مثاليًا على ضعف أجهزة الدولة وغياب السيطرة، الأمر الذي قد يشكل الأرضية الملائمة لمختلف التصرفات القمعية. وما يمكن الإنتهاء إليه هو أن حالة الطوارئ باتت المناسبة المثالية لسلب الحريات بإسم الوضع الاستثنائي، الشيء الذي قد يتعارض وكل محاولات ومجهودات دمقرطة الدولة.

إن الأمر أكبر حجمًا و قيمة من أن يكون احتكارًا لسلطة القرار. هو تعاون و تنسيق بين أجهزة الدولة ومختلف الفاعلين من أفراد ومنظمات المجتمع المدني. ولن تفضي الممارسات التعسفية إلا إلى استدعاء سيناريو النظام البوليسي الذي برهن على كونه من أبشع ما شهدته تونس على المستوى الإنساني. فكيف لحماة الوطن أن يكونو مصدر اللاأمن و اللاطمأنينة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

كورونا.. امتحان جماعي في ديمقراطية ناشئة

"ذكورية الكورونا".. أو حين تحمل الأنثى وزر الأوبئة