28-مارس-2023
 مقهى في تونس

هناك مساحات مخصصة "للفطّارة"، مساحات تتحول إلى أمكنة لا مرئية نمر من أمامها فنراها ولا نراها (صورة توضيحية/Getty)

 

إنه صباح أحد أيام شهر رمضان، تبدو الحياة بطيئة رتيبة في أغلب شوارع العاصمة تونس، هكذا هو نسق رمضان في أغلب المدن، المقاهي والمطاعم والحانات مغلقة، محلاّت بيع الملابس والمكتبات تفتح أبوابها بعد العاشرة صباحًا، باعة الورد بأقصى شارع بورقيبة يبدأ نشاطهم مع منتصف النهار.

هناك مساحات مخصصة "للفطّارة"، مساحات تتحول إلى أمكنة لا مرئية نمر من أمامها فنراها ولا نراها، وهي عادة ما تكون مقاه تفتح خصيصًا في نهار رمضان أو صاحب "نصبة" لبيع "كسكروت عياري" يتخذ له مدخل عمارة منزوية ويحوّله إلى مطعم سري

في المقابل، الإيقاع الرمضاني في شوارع وأنهج أخرى ليست بعيدة يبدو مغايرًا فالحياة بها تنطلق منذ الساعات الأولى للفجر على غرار الأنهج المحيطة "بالمارشي سنترال" حيث توجد محلاّت البقالة الكبرى ودكاكين بيع "الدّقلة " المتجاورة كمقطورات محمّلة بالأفراح ومغازات بيع الفواكه الجافة والأجبان والشكولاتة المهرّبة من أوروبا... وهي أنهج عادة ما تعرف زحمة خاصة في شهر رمضان فتصبح محجّة لسكان مدينة تونس وما جاورها، وأيضًا يتنقل إليها الناس من بعض المدن الداخلية القريبة بحثًا عن رائحة رمضان التي تستوطن هذه الأرجاء.

 

 

وسط هذه الزحمة المدينية والإيقاعات والأنساق الرمضانية المتداخلة في شوارع العاصمة تونس هناك مساحات مخصصة لمن يسمّونهم في تونس "بالفطّارة" (أي مُفطري شهر الصيام)، مساحات  تنبثق في الأنهج والشوارع المألوفة فتتحول إلى أمكنة لامرئية نمر من أمامها فنراها ولا نراها، وهي عادة ما تكون مقاه تفتح خصيصًا في نهار رمضان أو صاحب "نصبة" لبيع "كسكروت عياري" (صاحب عربة متجولة لبيع سندويتشات البيض) يتخذ له مدخل عمارة منزوية ويحوله إلى مطعم سري للعابرين من "الفطارة ".

صبيحة أحد أيام شهر رمضان، كانت العاصمة تونس مأخوذة بإيقاعات الشهر الكريم تبحث عن الوجد العتيق فسحة للروح وحنيًنا مغمسًا في ذكريات رمضان الأصيلة التي مرّت على البلاد ووشّحت المجتمع طيلة قرون الإسلام، وذلك رغم ما يخيم على البلاد من غموض في السياسة وعدم استقرار الاقتصاد وتدهور مريع للمقدرة الشرائية للمواطن التونسي.

بأحد الشوارع الخلفية الموازية لشارع بورقيبة، تعترضك رائحة دخان السجائر لا تدري من أين أتت لكنك في النهاية تتأكد أن مقهى المكان مفتوح في رمضان، أبوابه مواربة وبلورها مغطى بصفحات من جريدة تونسية

كان الطقس ربيعًا ريّانًا في أحد أيام الشهر المعظم، وكان النّاس يتحركون بهدوء وسط مدينتهم.. بأحد الشوارع الخلفية الموازية لشارع الزعيم الحبيب بورقيبة، تعترضك رائحة دخان السجائر لا تدري من أين أتت لكنك في النهاية تتأكد أن مقهى المكان مفتوح في رمضان، أبوابه مواربة وبلورها مغطى بصفحات من جريدة "لابراس" التونسية لكن بمجرد دفعك إياها تجدك في عالم غائم صنعته دوائر دخان السجائر حول القناديل التي تتدلى من السقف فتضفي على الفضاء سحرًا سينمائيًا لا تستطيعه أعتى كاميرات كبار المخرجين. رائحة القهوة تملأ الأرجاء ورنين الفناجين والكؤوس وضجيج "الجلاّس" تصنع اللحن الخاص "بالفطار".

 

 

تجول ببصرك بهدوء داخل المقهى فتتبدى هذه الشخصيات كشخصيات روائية، لكل واحد قصة مع إفطار رمضان قابلة للسرد..

صاحب المقهى الذي خيّر عدم ذكر اسمه أو علامته التجارية أو النهج حيث يوجد محل عمله تحدث لــ"الترا تونس" عن عملية فتح المقهى مؤكدًا أن المقاهي ذات الصبغة السياحية هي فقط التي يسمح لها القانون بالعمل خلال شهر رمضان وهذا القانون معروف بقانون محمد مزالي لسنة 1981، موضحًا أن ذلك يحدث لأسباب تهم جانبًا من المجتمع لهم أعذارهم في الإفطار فضلًا عن السياح من ديانات أخرى اللذين يزورون تونس في فترة الصيام.

صاحب مقهى يعمل في نهار رمضان لـ"الترا  تونس": المقاهي ذات الصبغة السياحية هي فقط التي يسمح لها القانون بالعمل خلال شهر رمضان وهو القانون المعروف بقانون مزالي لسنة 1981

وأشار صاحب المقهى إلى أنه في الحقبة التي سبقت الثورة سرت بعض التراتيب غير القانونية فيما يشبه العرف من ذلك مثلًا إخضاع المقاهي العادية والسياحية على حد السواء لقرعة يتم على إثرها فتح عدد بعينه من المقاهي، وفي بعض السنوات تم تكريس عادة الفتح بالتداول. وبيّن صاحب المقهى أنه في السنوات الأخيرة تمت العودة للقانون مع كثير من الفوضى رغم المراقبة حيث ثمة مقاه عادية تشتغل خلال الشهر وتضيف على ذلك تقديمها لبعض وجبات الأكل الخفيفة.

المقهى يبدو مزدحمًا شيبًا وشبابًا وأغلب رواده يطلبون "الاكسبريس" ويدخنون السجائر ويشربون قناني المياه المعدنية فقط. على "الكنتوار"، يقف عامر، وهو اسم مستعار لكهل منشغل حينها بتحريك السكر في فنجان قهوته ويقبض بعناية بين أصابعه على سيجارة فاخرة يهم بإشعالها:

تحدث عامر إلى "الترا تونس" بخجل، موضحًا أنه صام رمضان سنوات عديدة أيام الصّبا والشباب وهو يحترم الصائمين، لكنه في الآونة الأخيرة أصيب بمرض القولون العصبي جراء الضغط النفسي فأشار عليه طبيبه الخاص بالإفطار،  وأوضح عامر أنه لا يفطر أمام أبنائه وزملائه في العمل فيضطر إلى الانزواء والقدوم إلى هذا المقهى من أجل تلبية حاجة الإفطار.

عامر لـ"الترا تونس": صمت رمضان سنوات عديدة لكني أصبت بمرض القولون العصبي جراء الضغط النفسي ونصحني الطبيب بالإفطار.. لا أفطر أمام أبنائي وزملائي في العمل فأضطر إلى الانزواء والقدوم إلى هذا المقهى

أما نديم، وهو طالب بإحدى كليات العاصمة تونس، فقد اعتبر أن الغلق القسري للمقاهي والمطاعم في نهار رمضان في تونس فيه اعتداء واضح على الحريات التي ضمنتها الدساتير التونسية القديم منها والجديد، فهو يرى أن الدولة التي تضمن حقوق الصائمين هي مطالبة أيضًا في إطار المساواة أمام القانون بضمان حقوق المفطرين وذلك بضرورة توفيرها لفضاءات خاصة ومعلومة ، مشيرًا خلال  حديثه لـ"الترا تونس" إلى أن "الفطارة" يمارسون حريتهم في الإفطار خلسة وهو أمر لا يتماشى مع صورة المجتمعات الحديثة.

وختم بأن تونس تتباهى بترسانة القوانين التي تضمن الحريات الفردية والعامة لكنها في حقيقة الأمر وعلى أرض الواقع لا تحترم حرية الضمير ولا حرية المعتقد ولا الحق في الاختلاف.

نديم، طالب لـ"الترا تونس": تونس تتباهى بترسانة القوانين التي تضمن الحريات الفردية والعامة لكنها على أرض الواقع لا تحترم حرية الضمير ولا حرية المعتقد ولا الحق في الاختلاف

خارج المقهى وفي نهج مجاور يضع أحدهم صندوقًا خشبيًا صغيرًا بواجهة بلورية قرب مدخل إحدى العمارات وهو يبيع للعابرين كل شيء: السجائر والحلويات وقطع الشكولاتة وأنواع شتى من علب البسكويت وبطاقات شحن الهواتف... وفوق الصندوق يضع طبقًا مستطيلًا مغطى بمنديل يحتوي على أكلة "الفريكاسي" وبعض سندويتشات "الفنكوش" المعدة منزليًا.

وبسؤال "الترا صوت تونس" عن نوعية زبائنه، ابتسم صاحب الصندوق قبل الإجابة، ثم أوضح أن جلّ زبائنه هم من "الفطّارة"  فمنهم من يشتغل بالإدارات المنتشرة في هذه العمارات، ومنهم من يأتي خصيصًا للمقهى المجاور فيقتني أكلة خفيفة تقيه الجوع طيلة اليوم وبعض السجائر قبل شرب القهوة بالمقهى المجاور.

 

 

وبينما نحن منهمكون في الحديث قدم أحد الشباب ليشتري سيجارة وبعض حبات الحلوى، مازحته قبل السؤال فتبيّن أنه تلميذ بأحد المعاهد الثانوية القريبة وقد أشار أنه لا يستطيع الصيام لعدم قدرته على الصبر زد على ذلك أنه نشأ في عائلة لا تصوم، موضحًا أنه حاول العديد من المرات مماراة أصحابه في الصيام لكنه فشل في ذلك.

وأضاف أنه كلما حل شهر رمضان فإنه يتظاهر بالصيام أمام الناس لكنه في حقيقة الأمر منخرط في مجموعة من بعض الشباب "الفطّارة" في الحي الشعبي المتاخم للعاصمة حيث يقطن، إذ يقصدون منزل أحدهم فيحملون أطعمة وغلالًا وهناك يأكلون ويشربون ويقضون وقتًا للراحة، أما القهوة طيلة اليوم فلكل واحد مقهاه ومكان تزوده بالسجائر. وأوضح هذا الشاب أنه وباقي رفقائه من "الفطارة" لا يجاهرون أبدًا بذلك احترامًا لمشاعر الصائمين، خاتمًا كلامه "ربي يهدينا ويتوب علينا". 

المختص في علم الاجتماع رمزي محواشي لـ"الترا تونس": "هذه الظاهرة ليست بالجديدة في المجتمعات الإسلامية بل هي قديمة جدًا، وكل فاطر لرمضان له أسبابه الصحية والنفسية والمادية والفنية"

وباتصالنا مع المختص في علم الاجتماع الدكتور رمزي محواشي بخصوص موضوع "الفطّارة"، فقد أكد أن "هذه الظاهرة ليست بالجديدة في المجتمعات الإسلامية بل هي قديمة جدًا، مضيفًا أن "كل فاطر لرمضان له أسبابه الصحية والنفسية والمادية والفنية... وقد أجازت الشريعة الإسلامية لهؤلاء الحق في الإفطار وذلك من باب التيسير والمرونة ومنحتهم ما يسمى بالبدل على غرار إطعام الفقراء والمساكين أو تقديم مساعدة ما".

وأضاف محدثنا أن منظومات الفقه عالجت هذه المسألة بكثير من الصرامة والزجر أما القوانين المدنية فقد انخرطت هي الأخرى في منظومة زجر "المفطرين" حيث نجد في بعض المجتمعات الإسلامية قوانين مدنية تجرم المجاهرة بإفطار رمضان وتذهب مجتمعات أخرى إلى حد إدراج هذه المخالفة في خانات الأعمال المنافية للحياء.

المختص في علم الاجتماع رمزي محواشي لـ"الترا تونس": "الفطّارة" وهم كثر في المجتمع التونسي يقضون شهرًا قاسيًا على المستوى النفسي حيث يجدون أنفسهم تحت سلطة المجتمع الذي ينظر إليهم شزرًا كخطائين ومارقين عن الدين فينبذهم

وأشار رمزي المحواشي، المختص في علم الاجتماع،  إلى أن كل ذلك يحدث بعيدًا عن مبدأي الإنصاف والمراعاة، موضحًا أن هؤلاء "الفطّارة" وهم كثر في المجتمع التونسي يقضون شهرًا قاسيًا على المستوى النفسي حيث يجدون أنفسهم بين سلطة المجتمع الذي ينظر إليهم شزرًا كخطائين ومارقين عن الدين فينبذهم وبين الاعتقاد في عذاب الله في الآخرة.. لكنهم في جوهرهم هم أشخاص عاديون في المجتمع الإيماني".

إن "الفطّارة" بقدر ما يبدون هامشًا يعيشون على حدود المجتمع الإسلامي فهم كغيرهم من البشر يحوزون كيانات حمالة لمشاعر إنسانية ولهم حقوقهم الدينية والمدنية التي تتطلب تحويلها إلى قوانين نافذة، فلا لبقائهم في السريّة تحت سطوة السيف الأخلاقي والفقهي.