15-نوفمبر-2020

يتكوّن مشروع المجلة من 631 فصلًا (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

نصف قرن ويزيد منذ إصدار "مجلة الإجراءات الجزائية" عام 1968، وقد كهلت وشاخت إذ لم تعد أحكامها محيّنة وفق التوجهات الحديثة في ميدان الإجراءات الجزائية، كما لم تعد، في بعض جوانبها، مسايرة لمستلزمات دستور 2014 وتحديدًا في علاقة بالحقوق والحريات، عدا وأن تطبيقاتها على مر السنوات أفرزت اختلافًا في الاجتهادات بين المحاكم، ولعلّ الاختلاف بين دوائر محكمة التعقيب لليوم تحديدًا حول مسألة تعقيب قرار دائرة الاتهام بالإيقاف التحفظي، هو خير دليل أن المجلة آن لها أن تُحال على التقاعد بعد أن أدت واجبها على مدى نصف قرن، كما لم تعد الإصلاحات الترقيعية، وآخرها تنقيح 2017 المتعلق بالاحتفاظ، كافيًا لحسن تنظيم المادة الإجرائية الجزائية "الخطيرة" لمساسها، في جانب أساسي منها، بقيمة الحرية وحقوق الانسان.

انبنى مشروع مجلة الإجراءات الجزائية على أسس الدستور والمعاهدات الدولية واستأنست بالقانون المقارن عدا ما تضمنته الاجتهادات الفقهية والتوجهات المستقرة لفقه القضاء

أعدت لجنة مختصّة، ترأسها الجامعي الأستاذ البشير المنوبي الفرشيشي وضمّت شخصيات وطنية مشهود لها بالكفاءة من مختلف المهن القانونية والقضائية، مشروع مجلة جديدة للإجراءات الجزائية بعد ماراطون استشارات دام 5 سنوات (2014-2019). ويضمّ مشروع المجلة 631 فصلًا موزعًا على 7 كتب مقارنة بـ377 فصلًا تضمها المجلة الحالية، وليس هذه الزيادة الهامة في عدد الفصول إلا ترجمة لما يجب أن يكون عليها تقنين الإجراءات الجزائية، من حيث الوضوح والدقة وحسن التبويب، وحسم كل المسائل وتدقيقها وغلق الباب أمام اجتهادات طالما مسّت من الأمن القانوني، عدا عن إدراج آليات وأدوات وهياكل جديدة تكفل حسن الموائمة بين حماية حقوق الأفراد من جهة وحماية حق المجتمع من جهة أخرى.

وانبنت المجلة على أسس الدستور والمعاهدات الدولية واستأنست بالقانون المقارن عدا ما تضمنته الاجتهادات الفقهية والتوجهات المستقرة لفقه القضاء. واخترنا التطرق لهذا المشروع المُنجز بالعرض والدراسة والمقارنة وفق ترتيب كتبه.

اقرأ/ي أيضًا: ثورة تشريعية.. ماهي أهم التنقيحات المنتظرة في المجلة الجزائية؟

الكتاب التمهيدي: القواعد الأساسية للإجراءات الجزائية

ضمت المجلة كتابًا تمهيديًا يتكون من 24 فصلًا بعنوان "في بعض القواعد الأساسية للإجراءات الجزائية"، وهو يعد كتابًا ثوريًا بالنظر إلى أن المجلة الحالية لا تتضمن عرضًا لهذه القواعد المسيرّة التي تأتي كخطوط محدّدة والبوصلة الموجّهة لكامل أحكام المجلة. وتعكس، في جانب منها، الإيمان بمنزلة مبادئ الحرية والدفاع والمساواة وضمان حقوق المتهم، وقد أكد رئيس لجنة مراجعة المجلة البشير الفرشيشي أن هذا الكتاب "لا مثيل له في التشريعات في العالم" (تصريح تلفزي).

وتُفتتح المجلة بفصل نصه أن "حرية الشخص يكفلها القانون ولا يمكن الحد منها إلا بمقتضى إذن كتابي"، ويشير الفصل الثاني إلى المبدأ الدستوري بأن "كل شخص بريء إلى أن تثبت إدانته". ويشدّد الفصل 3 على حق الدفاع "في كل طور من أطوار القضية"، ويرتقي الفصل 13 بالحق في الصمت إلى مرتبة القاعدة الأساسية، ويشير الفصل 5 إلى مبدأ التقاضي على درجتين، إضافة للحق في محاكمة في "أجل معقول" وهو تنزيل لما ورد بالفصل 108 من الدستور.

ولعل من أهم القواعد الأساسية التي تجرأت اللجنة على تضمينها، وهي جرأة مباركة، هو "مبدأ المساواة بين جميع الأطراف" و"مبدأ التوازن بين مصالح أطراف النزاع" (الفصل 6)، وأحالت اللجنة، في استعراض هذا المبدأ، لقرار لجنة حقوق الإنسان الأممية باعتبار حق كل الأطراف في استعمال نفس الأسلحة وهو عنصر مرتبط بمبدأ المحاكمة العادلة. ونص الفصل 11 على قيام الإثبات على "النزاهة" و"الشرعية"، وانتفاع المتهم بالشك، وتبنى الفصل 19 المبدأ فقه القضائي بأنه "لا يضر الطاعن بطعنه"، ويحق لكل شخص أن يتولى القاضي النظر في قضيته "بنزاهة وعدل وإنصاف".

تضمن مشروع المجلة الجديدة كتابًا تمهيديًا بعنوان "في بعض القواعد الأساسية للإجراءات الجزائية"، وهو يعد كتابًا ثوريًا ويمثّل البوصلة الموجّهة لكامل أحكام المجلة

وخُصص الفصلان 22 و23 لتنفيذ الأحكام الجزائية، بالتنصيص أولًا على لزوم أن يكون التنفيذ "ناجزًا وعادلًا وتُحترم فيه حرمة الإنسان وكرامته وحقوقه المكفولة بالدستور ومصلحة أسرته" مع التنصيص صراحة على قاعدة "تفريد تنفيذ العقوبة" أي مراعاة الحالة الصحية والنفسية والظروف الاجتماعية للمحكوم عليه، مع التنصيص ثانيًا على تنفيذ العقوبة السالبة للحرية "في ظل نظام إصلاحي يقوم على تهيأة السجين وتأهيله وإعادة إدماجه في المجتمع في ظروف تصان فيها حقوقه الجسدية والمعنوية في إطار احترام المواثيق الدولية" في إطار أنسنة تنفيذ العقاب.

وتُختتم القواعد الأساسية بفصل جذري يحسم جدلًا طالما اختلف حوله شراح القانون والمحاكم، إذ ينص الفصل 24 على بطلان "كل الأعمال والإجراءات والقرارات والأحكام المخالفة للنصوص المتعلقة بالنظام العام أو للقواعد الإجرائية الأساسية أو لمصلحة المتهم الشرعية أو إذا نص القانون على جزاء البطلان". وجاء هذا الفصل في هذا الموقع التمهيدي ليشمل كل أطوار التقاضي دون استثناء مع الإشارة أن النص الحالي ورد في باب الأحكام المشتركة للمحاكم ولذلك لا يُطبق، أصلًا، إلا على الأحكام القضائية ولا يشمل مرحلة البحث الأولي بالخصوص. ومع تعميم جزاء البطلان، حمل الفصل 24 إضافة ثانية وهي إضافة سبب رابع للبطلان وهو ذاك الذي يشمل "ما نص القانون على جزاء البطلان" أي إضافة نظرية البطلان العام.

الكتاب الأول: في الدعوى العمومية والدعوى المدنية

قالت اللجنة إنها خيّرت تجميع كل ما يتعلق بالدعوى العمومية والدعوى المدنية في كتاب واحد نظرًا للتداخل والترابط الكبيرين الموجودين في الأحكام المتعلقة بهذين المحورين. وأعادت التأكيد أن الجريمة يترتب عنها دعوى عمومية وأخرى مدنية على سبيل الخيار.

وتضمنت المراجعة، في هذا الموضع، تعديلات وإضافات منها أن أجل سقوط الدعوى بات يُحتسب من "اليوم الموالي لتاريخ وقوع الجريمة" وليس من "يوم ارتكاب الجريمة" في إطار "البحث عن مزيد المساواة بين مراكز الأطراف" مع الإشارة إلى أن المعيار المستجدّ يفيد المتضرّر وليس المتهم. وتأثرت المجلة وضوحًا بفقه القضاء وذلك عبر تدقيق خصوصيات الحساب بين الجرائم الحينية والمستمرة والمتكررة وجرائم العود، في نقل حرفي لقرار تعقيبي صادر بتاريخ 20 أكتوبر 2007. ولعل الصبغة الحمائية للمتضرر، تتعزز بما أورده الفصل 31 أن سريان أجل سقوط الدعوى يبدأ من "تاريخ اكتشاف الجريمة" بالنسبة للمتضرر "العاجز عجزًا مطلقًا على الإعلام بها بسبب إعاقة ذهنية"، ومن "تاريخ اكتشاف الجريمة" أو من "تاريخ بلوغ سن الرشد" بالنسبة للضحية في الجرائم الأخلاقية.

اقرأ/ي أيضًا: لتنقيح المجلة الجزائية.. إليكم مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة

ومن الإضافات الجوهرية للمجلة هو أنه يحق للجمعيات والأحزاب والنقابات والهيئات المهنية القيام بالحق الشخصي "إذا تضررت من أفعال تدخل في إطار موضوعها أو أهدافها المنصوص عليها في نظامها الأساسي"، ولكن اشترط المشرع أن يكون قد مضى على تكوينها 5 سنوات نقلًا من القانون الفرنسي، وإن كان اشتراط مرور مدة من الزمن من التأسيس مقبول لضمان الجدية مبدئيًا، يبقى الأجل الزمني المحدد قابل للنقاش.

واعتنت المراجعة بشكل بيّن بالقيام بالمسؤولية الخاصة، أي حال حفظ النيابة العمومية للملف، من الناحية الإجرائية من خلال تولي المعني بالأمر باستدعاء الخصم عبر عدل منفذ إن كان الطلب مقدم مباشرة إلى المحكمة، كما له طلب تعيين القضية لدى التحقيق، ويلزم النص، هنا، بالانطلاق في إجراءات القضية التحقيقية في ظرف 10 أيام من تاريخ إيداع المطلب. وبخصوص المبلغ الواجب تأمينه في صورة القيام على المسؤولية الخاصة، خيرت اللجنة تقديم مقترحين أولًا أن التقدير يتم حسب مداخيل المعني بالأمر مع إمكانية الإعفاء حال العسر، والثاني بتحديد مبالغ قارة فحواها مبلغ 100 دينار في صورة الإحالة للناحية و200 دينار في صورة الإحالة على المحكمة الابتدائية و300 دينار في صورة الإحالة على حاكم التحقيق.

الكتاب الثاني: في النيابة العمومية ومباشرة الأبحاث الأولية

تضمن هذا الكتاب جزئين اثنين هما "النيابة العمومية" و"مباشرة الأبحاث الأولية"، ويمثل الجزء الأول نموذجًا على خيار اللجنة في التبويب وحسن التنظيم والترتيب عبر باب تمهيدي بعنوان "أحكام عامة" وأبواب لاحقة بعناوين "في وظائف الوكيل العام لدى محكمة التعقيب" و"في وظائف الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف" و"وفي وظيف وكيل الجمهورية" وذلك في إطار تنظيم مكونات النيابة العمومية تدريجيًا. ونص الفصل 50 بالخصوص على أنه "تشرف النيابة العمومية في نطاق صلاحياتها على الضابطة العدلية وتراقب جميع الأبحاث الأولية" بالتأكيد على قضائية الأبحاث الأولية.

ولعل أهم ما ورد في باب النيابة العمومية هو التنصيص أن الخطوط العامة للسياسة الجزائية يضبطها هيكل قضائي متكون من وكيل الدولة العام لمحكمة التعقيب بوصفه رئيسًا والوكلاء العامون لدى محاكم الاستئناف وممثل عن المجلس الأعلى للقضاء وذلك في إطار الفصل بين النيابة العمومية والسلطة التنفيذية والتي تم التوافق عليها "بالأغلبية" وفق ما ورد في تقرير اللجنة. غير أن هذه التركيبة محلّ نقاش لاعتبارين اثنين أولًا حول مدى اعتبار أن الاستقلالية عن السلطة التنفيذية تقتضي بالضرورة عدم مشاركتها في تحديد السياسة الجزائية وهي مسألة ليست قضائية فنية بل خاضعة لتقديرات وتوجيهات استراتيجية ذات صبغة سياسية واجتماعية بل واقتصادية، والأمر الثاني حول ضعف تمثيلية المجلس الأعلى للقضاء (ممثل واحد) وهو المكوّن من قضاة ومحامين وعدول وجامعيين أي مختلف المعنيين/المرتبطين بالشأن القضائي، عدا أن أغلبية أعضائه من المنتخبين وليس من المعيّنين بما يعزّز شرعيته ويفترض، مبدئيًا، تعزيز دوره في تحديد الخطوط العامة للسياسة الجزائية. وبالعودة لمشروع المجلة، يوجه وكيل الدولة العام تقريرًا سنويًا للوزير المكلف بالعدل حول سير السياسة الجزائية ونشاط النيابة العمومية (الفصل 53) وله "سلطة على سائر ممثلي النيابة العمومية التابعين لهذه المحكمة ويسهر على تنفيذ القرارات الصادرة عنها" (الفصل 55) وذلك في تكريس لاستقلالية النيابة العمومية.

 القسم الأكثر "ثورية" في باب النيابة العمومية هو استحداث قسم خاص لـ"بدائل التتبع" وهو خيار يأتي استلهامًا من البدائل في إثارة الدعوى العمومية في القانون المقارن 

وفي باب التتبع بالنسبة لوكيل الجمهورية، ما يورده المشروع في باب التجديد هو إحداث خلية للتتبع السريع لدى المحكمة الابتدائية في القضايا المتعلقة بالجنح والمخالفات لضمان التسريع في فصل محاضر البحث الأولي وتفادي البطء في التتبع، إذ يشرف عليها مساعد لوكيل الجمهورية ويقع إعلامها من مأموري الضابطة العادلة بالأبحاث الجارية لديهم وتلقي التعليمات في شأنها وتنفيذها حالًا (الفصل 63). ولعل هذه الآلية المستحدثة قد تساهم في تجاوز معضلة الشكايات المعطلة والتي تظل محفوظة في الأدراج بما يزيد من شعور المتضرر بهضم حقوقه وإفلات الجاني من التتبع والعقاب، والأهم لا تفقد فقط ثقة المجموعة العامة في العدالة بل تجعلها تتشكّك في وجودها من أصله.

وما استجدّ في المشروع في علاقة بالشكايات المرفوعة لدى وكيل الجمهورية هو أنه لا يجوز له، إذا اتخذ قرارًا بالحفظ، أن يتخذ لاحقًا قرارًا مخالفًا ما لم تطرأ معطيات جديدة تبرر ذلك مع لزوم تعليل قراره وإلا عد باطلًا (الفصل 65)، ولا تنص المجلة حاليًا على هذه القيود (المعطيات الجديدة والتعليل)، وبررت اللجنة خيارها لتجاوز ما وصفته بالتعسف في حق التشكي ووضع حد للشكايات المتعددة في نفس القضية.

بيد أن القسم الأكثر "ثورية" في باب النيابة العمومية هو استحداث قسم خاص لـ"بدائل التتبع" وهو خيار يأتي استلهامًا من البدائل في إثارة الدعوى العمومية في القانون المقارن التي أثبتت نجاعتها ونجحت في التقليص من حجم  الإيقافات غير المبررة خاصة في الجرائم غير الخطيرة. وتهدف هذه البدائل إلى "إنهاء النزاع الجزائي قبل إثارة الدعوى العمومية مع إمكانية ضمان جبر الأضرار الحاصلة للمتضرر من الأفعال المنسوبة إلى المشتكى به وإذكاء الشعور لدى هذا الأخير بالمسؤولية واحترامًا لقانون".

اقرأ/ي أيضًا: مقترح لمجلة الحقوق والحريات الفردية.. ماهي أهم محاورها؟

ونص المشروع على ثلاث بدائل منها واحدة موجودة في المجلة الحالية وهي الصلح بالوساطة مع إحداث تعديلات جوهرية منها جعل عرض الصلح عملًا "إجباريًا" وليس "اختياريًا" لوكيل الجمهورية، وتوسيع قائمة الجرائم لتشمل "كل الجنح التي يترتب عنها ضرر شخصي" ما يعني مبدئيًا فتح باب التقدير لوكيل الجمهورية للتمييز بين الجرائم التي تمس من الشخص وتلك التي تمس من المجتمع. ويتمثل البديلان الآخران للتتبع، والذي يتم إرسائهما لأول مرة بالقانون التونسي، في "تأجيل التتبع" وهو يشمل المخالفات والجنح وذلك "إذا اعترف المظنون فيه بارتكابه للفعل وعبر عن ندمه عما أتاه وتولى جبر الأضرار الحاصلة للمتضرر وقبل هذا الأخير عدم تتبع" (الفصل 73) مع استئناف التتبعات في بحر سنة في صورة ارتكاب فعل يجرمه القانون، والبديل الأخير هو "الإمهال لتصحيح وضعية"، وضربت اللجنة مثال السياقة بدون رخصة، فبدل أن يحيل وكيل الجمهورية المظنون من أجل السياقة بدون رخصة يمكن له أن يمنح المظنون فيه أجلًا لتصحيح وضعيته وفي هذه الصورة الحصول على رخصة سياقة.

يمنح مشروع المجلة لمأموري الضابطة العدلية الحق في منع مغادرة أي شخص لمسرح الجريمة بعد إذن كتابي من الجهة القضائية على ألا يدوم المنع من المغادرة 4 ساعات

وفي الجزء الثاني من هذا الكتاب أي "الأبحاث الأولية"، اهتم المشروع بالجهة التي تتولى مباشرة هذه الأبحاث وهي الضابطة العدلية بتحديدها وضبط صلاحياتها، والمستجد في هذا الموضع، بالخصوص، التأكيد على سريان مبدأ السرية على أعمال البحث الأولي وحذف صفة الضابطة العدلية عن العمد، مع التنصيص على تأهيل الضابطة العدلية وتحديد أجل أقصى لأعمال البحث وهو 6 أشهر. وكلها قواعد جديدة من شأنها المساهمة في تجاوز الخروقات والنقائص المسجلة في مرحلة الأبحاث الأولية. وفي الجانب المتعلق بالإشراف على مأموري الضابطة، قدمت اللجنة مقترحين، ينص الأول، وهو الذي حاز على أغلبية الأصوات، على إخضاعهم لتسيير وكيل الجمهورية وإشراف ورقابة الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف، فيما ينص المقترح الثاني على تبعية الضابطة لوزارة العدل عبر خضوع المأمورين لسلطة ورقابة الوزارة عبر النيابة العمومية. 

وفيما يهمّ التلبس، أحدث مشروع المجلة قسمًا خاصًا بعنوان "في المحافظة على مسرح الجريمة" وبررت اللجنة إحداث هذا القسم الذي يضم 11 فصلًا بأهمية الحفاظ على مسرح الجريمة لضمان سلامة الأبحاث والوصول للحقيقة، ويحمّل مثًلا الفصل 106 كل متدخل في مسرح الجريمة "المسؤولية القانونية.. عن الحفاظ الملائم للآثار المادية"، ويمنح لمأموري الضابطة العدلية الحق في منع مغادرة أي شخص لمسرح الجريمة بعد إذن كتابي من الجهة القضائية على ألا يدوم المنع من المغادرة 4 ساعات.

واعتنى المشروع أيما اعتناء بالاحتفاظ (الانتقال من 6 فصول في المجلة الحالية إلى 22 فصلًا في المشروع)، وليس بذلك بغريب إن ما كان هذا الإجراء الخطير تتولاه الضابطة العدلية ويمس من حرية الفرد، إذ أن تنقيح 2016 يظل قاصرًا في كل الأحوال على ضمان الاحتفاظ في الحالات اللازمة ويشكل حقوق المظنون فيه. ومن أهم النقاط الجديدة الواردة في المشروع هو حصر التمديد في الاحتفاظ في الجنايات فقط دون الجنح، وتعزيز حق الدفاع في البحث الأولي ومن ذلك أساسًا وجوبية حضور المحامي في الجنايات والجنح التي تتجاوز عقوبتها سنتين سجن، مع جواز حضور المحامي لأعمال التفتيش والحجز وكل الأبحاث المؤدية لكشف الحقيقة (ليس حضور الاستنطاق فقط)، وهو ما يجعل قسم الاحتفاظ من أوجه الثورية على النص الحالي في اتجاه تعزيز دور الدفاع في ضمان حقوق المتهم، وذلك بما أصلًا وفره حضور المحامي منذ عام 2016 من تعزيز للضمانات وتراجع عدد المحتفظ بهم وفق إحصائيات أشارت إليها اللجنة نفسها. هذا ونص القسم، في جانب متصل، على تعزيز ظروف الاحتفاظ ومن ذلك لزوم أن تكون أماكن الاحتفاظ ملائمة لكرامة المحتفظ به وفق المعايير الدولية مع حق وكيل الجمهورية في زيارتها دون إشعار والإذن بنقل المحتفظ به إلى مكان آخر.

الكتاب الثالث: في التحقيق ودائرة الحقوق والحريات

قسم المشروع هذا الكتاب إلى 3 أجزاء وهي "التحقيق"، و"في دائرة الحقوق والحريات" و"في إعادة النظر في التحقيق"، وهو كتاب حمل جملة من التغيرات الجذرية خاصة بإلغاء دائرة الاتهام وتعويضها بدائرة جديدة هي "دائرة الحقوق والحريات" بالمحاكم الابتدائية لا الاستئنافية.

ومن جملة التعديلات في الجزء الأول وفي الباب الأول المتعلق بقضاة التحقيق، نص المشروع أن التحقيق وجوبي فقط في الجنايات مع تعهد قاضي التحقيق بالجنح في حالة القيام على المسؤولية الخاصة، مع الإشارة إلى أن النص الحالي ينص على وجوبية التحقيق في الجنايات واختيارية التحقيق في الجنح والمخالفات، وبررت اللجنة منع مجال التحقيق في المخالفات لندرته، فيما فسرت تقليص مجال التحقيق في الجنح لعدم إغراق قاضي التحقيق بالقضايا مثلما هو الحال الآن، على النحو المعمول به في بلجيكا.

وفي وسائل التحقيق، تضمن المشروع تعديلات في اتجاه ضمان الحقوق والحريات ومن ذلك حق المظنون الاتصال في أي وقت من الأوقات بمحاميه، وإقرار حق الزيارة المستمرة للمحامي، وعدم الإحالة الآلية على القيس (التثبت من بطاقة السوابق العدلية)، وحضور المحامي في المكافحة وتكريس شكلية الإذن بالتفتيش.

ولا يمكن الحديث عن التحقيق دون الحديث عن "أخطر" قرار يمكن أن يتخذه قاضي لتحقيق وهو الإيقاف التحفظي، الذي خيرّ المشروع استبداله بلفظ "الإيقاف المؤقت" للتعبير أكثر أن الإجراء استثنائي كما أشارت اللجنة. والمستجد الجوهري هو أن قاضي التحقيق لم يعد لوحدة صلاحية إصدار بطاقة إيداع، إذ بات ملزمًا حال قناعته بالإيقاف أن يحيل الملف إلى دائرة الحقوق والحريات التي تبت في أجل 48 ساعة إذ لا تصدر بطاقة الإيداع إلا بعد موافقتها مع التنصيص أن القرار بالموافقة غير قابل للطعن بالتعقيب، وذلك قطعًا لتأويل منتظر وعودة لاختلاف توجهات الدوائر التعقيبية، كما الشأن الآن فيما يهمّ الطعن في قرارات دائرة الاتهام حول الإيقاف التحفظي.

أهم ما ورد في هذا الكتاب، وربّما في كل مشروع مجلة الإجراءات الجزائية، هو إحداث دائرة قضائية تسمى "دائرة الحقوق والحريات" وإلغاء "دائرة الاتهام"

كما حدد المشروع مدة الإيقاف المؤقت بالجنايات بـ6 أشهر مع التمديد مرة واحدة لنفس المدة (حاليًا 6 أشهر مع التمديد مرتين لا تزيد مدة كل واحدة عن 4 أشهر) ما يعني تخفيض المدة القصوى للإيقاف في الجناية من 14 شهرًا إلى 12 شهرًا، مع منع التمديد في الجنح (حاليًا يحوز التمديد مرة واحد لمدة أقصاها 4 أشهر) ما يعني أيضًا تخفيض المدى القصوى للإيقاف في الجنحة من 10 أشهر إلى 6 أشهر).

ومواكبة للتطور العلمي في البحث عن الجرائم واستئناسًا بقانون مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، خصص المشروع قسمًا خاصًا بعنوان "طرق التحري الخاصة" وهي 3 طرق هي اعتراض الاتصالات، والمراقبة السمعية البصرية والاختراق، والتي لا يمكن الإذن بها إلا من الجهة القضائية المختصة مع التشديد أنها لا تمس من حقوق الدفاع ولا من السر المهني للمحامي.

وهذه الطرق الخاصة يطلبها وكيل الجمهورية أو قاضي التحقيق من دائرة الحقوق والحريات في الجنايات التي تفوق عقوبتها 10 سنوات (الفصل 239)، ولا تتجاوز مدة اعتماد الطريقة شهر واحد قابلة للتمديد بنفس الفترة (الفصل 240)، مع عرض جميع الأدلة الناتجة عن هذه الطرق على دائرة الحقوق والحريات لـ"مراقبة مدى احترام نص المأمورية" وإتلاف ما ورد خارج النص (الفصل 241)، وهي كلها ضمانات واردة لعدم الانحراف بهذه الطرق الخطيرة في البحث عن الحقيقة.

وقلنا أن أهم ما ورد في هذا الكتاب، وربّما في كل مشروع مجلة الإجراءات الجزائية، هو إحداث دائرة قضائية تسمى "دائرة الحقوق والحريات" في المحاكم الابتدائية تتولى الإشراف على أعمال التحقيق مع إلغاء دائرة الاتهام المنتصبة في محاكم الاستناف، وجاء إحداث الدوائر في محكمة الدرجة الأولى في إطار التخفيف من الثقل المحمول على محاكم الاستئناف خاصة المحكمة المنتصبة بتونس الكبرى وفي إطار تقريب القضاء من المتقاضي، وفق اللجنة.

غير أن المسوغات الجوهرية لهذا التعديل الجوهري هو "المردودية الضعيفة" لدائرة الاتهام بعد تجربة نصف قرن، خاصة في ظل الأخذ والرد في عديد القضايا بين الدائرة ومحكمة التعقيب ما جعل بعض القضايا تراوح مكانها لنحو 5 سنوات حسب اللجنة. وفي الخشية من انتقال ثقل وعيوب دائرة الاتهام الملغاة إلى دائرة الحقوق والحريات المستحدثة، يوضح المشروع أن الخشية مردود عليها لعاملين اثنين، أن اختصاص الدائرة الجديدة هو أقل مجالًا من الدائرة الملغاة، وأن الطعن بالتعقيب في قرارات الدائرة الجديدة لن يتم إلا مرة واحدة وذلك مع تحديد أجل للطعن.

ودائرة الحقوق والحريات، التي تنظر أساسًا في الطعون بالاستئناف المتعلقة بقرارات قاضي التحقيق، تتكون من رئيس المحكمة الابتدائية أو من ينوبه ومن قاضيين اثنين من الرتبة الثانية، وهي تبت في أجل 10 أيام مع وجوبية إنابة محامي، وهي أحكام شبيهة إلى حد ما بتلك الجارية بالنسبة لدائرة الاتهام. ويُشار إلى أن جميع قرارات هذه الدائرة قابلة للطعن بالتعقيب عدا القرارات المتعلقة بإبطال أعمال قاضي التحقيق قبل ختم التحقيق، والقرارات الصادرة في التصحيح والسحب والترجيع، وهي آليات جديدة استحداثها المشروع في القضية التحقيقية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المحاكم في تونس.. ماهي أصنافها؟ كم عددها؟ وأين مقراتها؟ (1/2)

المحاكم في تونس.. ماهي أصنافها؟ كم عددها؟ وأين مقراتها؟ (2/2)