09-يونيو-2018

ما فتئت الأعمال الفنية في رمضان تفقد سحرها

رمضان آخر نعيش أيّامه الأخيرة.

بخطى سريعة يغادرنا على أمل أن نلتقيه في العام القادم ليقتل تلك الرّتابة التي تخنقنا على مدار السنة ويكسر نمط عيشٍ مملّ سيطر على أغلب المنازل التونسية التي أنهكت الأيام كاهلها ففرّقت بين الأب وابنه والأخ وأخيه، فتراهم، وقد اتخذ كل واحد منهم غرفة، وانكبّ على شأن يعنيه.

وبالحديث عن رمضان، فإن مائدة الطعام خلال أيّامه كانت وماتزال تُمثّل فرصة نادرة يجتمع فيها أفراد الأُسرِ التّونسية، فتنفُخ في روح علاقات باردة بين معمّري المنزل الواحد وتَدُبَّ الحياة من جديد بين جدرانه الكئيبة.

وفي تونس، كان للمسلسلات والأعمال الفنية نفس هذا الوقع.

اقرأ/ي أيضًا: أهم الأعمال التلفزية التونسية في رمضان 2018

سكان الشاشة في تونس من كتاب ومنتجين وممثلين هم المتهمون الرئيسيون في ما وصلت إليه الأعمال التلفزية في رمضان

أذكر أنّيَ في صغري وقبل أن أغادر منزل جدي بـ"الصباغين" مكرهًا، إلى أحد الأحياء "الحضرية" كنت أنتظر بفارغ الصبر سماع أغنية بداية مسلسل "شوفلي حل" لا لأضحك، وإنما لأتمتع بالنظر إلى جدتي وخالاتي وباقي أفراد العائلة الموسعة يجتمعون في غرفة واحدة ويتبادلون القهقهات وأطراف الحديث وأشعر بدفئ غريب يغلف قلبي.

ولئن حافظ الشهر الكريم على قدرته في هدم جدرانٍ تحجِبُنَا عن أهالينا، فإنّ الأعمال الدّرامية ما فتئت منذ سنوات ومنذ أن تحولت القنوات التلفزية إلى غرف مغلقة تحاك فيها مؤامرات كالتي سمعنا عنها مؤخرًا- ولعل تلك التي تخص قناة "نسمة" ومالكها نبيل القروي أشهرها - ما فتئت الأعمال التلفزية تفقد بسرعة جنونية ذلك السحر، حتى أصبحت المقاهي في جل الأحياء تستقبل روادها دقائق قليلة بعيد آذان المغرب، بعد أن كانت كراسيها لا تنفذ إلا إثر انتهاء المسلسلات وبرامج الكاميرا الخفية.

صحيح أن سيطرة رجال أعمال فاسدين، يأكلون التراث أكلًا ويحبون المال حبًا جمًا، على وسائل الإعلام قد لعبت دورًا في ما وصلت إليه الأعمال التلفزية في رمضان. لكنّ سكان الشاشة في تونس من كتاب ومنتجين وممثلين هم المتهمون الرئيسيون في هذه "الجريمة" خاصة وأنهم يؤكدون يومًا تلو الآخر أنهم يعيشون في وطن آخر. تونس أخرى لا تشبه تونس التي نقطنها.

اقرأ/ي أيضًا: الأعمال الفنية التاريخية: تحريف للتاريخ أو وسيلة لتعميمه؟

فعلى الرغم من أن أواخر سنة ألفين وسبعة عشر وبداية السنة الحالية كانت مليئة بالأحداث التي أبكت الخضراء وأرهقت أبناءها، أحداث كانت لتمثل مادة تشد انتباه المشاهد فتتكلم باسمه وتنطق بما يخالج صدره، إلا أننا لم نجد لها أي أثر.

لم نجد أثرًا لحكاية فتاة جامعية داهمها المرض فجأة خلال أيام الدراسة فسقطت مغشيًا عليها، ولمّا تم نقلها إلى إحدى المصحّات الخاصة لتلقي العلاج قوبلت بالرفض وطُلِب منها دفع مبلغ ماليّ محدد قبل أي إجراء آخر. وبالنظر إلى خلوّ جيب والدتها اضطرت هذه الأخيرة إلى الإتصال بابنها الذي يقطن في مكان بعيد، وكان المشهد كالآتي: أخ يسابق الزّمن، من صفاقس إلى تونس يحاول تسليم الفدية التي طلبتها إدارة المشفى لإنقاذ حياة أخته.

طالبة تحتضر تسأل عن النّقود بعد أن داهمها الموت في الوقت الخطإ، وأمّ تربّت على كتف ابنتها، تحاول في يأس تخليصها من بين يدي ملك الموت، تطلب منها أن تنتظر قليلًا فشقيقها على بعد كيلومترات.

 لم نجد في مسلسلات رمضان أثرًا لرانية ذات العشر سنوات، تلك الفتاة التونسية التي صيّرت أسطورة "بائعة الكبريت" واقعًا

كما لم نجد أثرًا لقصة عجوز تعيش بإحدى جبال تونس السّامة، لا مُلك لها سوى ابنين أوّلهما مبروك السلطاني، شابّ أمضى حياته وحيدًا يرعى على سفح جبل  بين الأشجار الهزيلة مواشٍ تنعم بعالم مضيء عن عالمه المظلم الذي ازداد قتامة حين أغمض الإرهابيون عينيه بعد أن حاصروه في جحر مظلم ثم ذبحوه من الوريد إلى الوريد. وكذلك فعلوا مع شقيقه قبل أن تجف دموع أمهم "زعرة" ليزرعوا في قلبها حزنًا وكمدًا يظاهي الأرض وما عليها.

كذلك لم نجد في مسلسلات رمضان أثرًا لرانية ذات العشر سنوات، تلك الفتاة التونسية التي صيّرت أسطورة "بائعة الكبريت" واقعًا حين عجز كوخ والدها الصغير في "عين دراهم" وقميصها الأخضر الرّث عن صدّ البرد القارس عن جسدها النحيل ليفتك بها ويسلّمها لخالقها لتشكو له ضعفنا وهواننا، تاركة وراءها قرى مليئة بأشباهها ممن ينتظرون الموت بلا حول ولا قوة.

أخيرًا وقبل يومين، وبينما كنت أتنقل بين القنوات التلفزية إستوقفتني خطبة للإعلامي نوفل الورتاني يستنكر فيها الانتقادات اللاذعة التي تعرضت لها الأعمال التلفزية من قبل التونسيين هذا العام، فكان أشبه بمحتكري قاعات السينما والمسرح في تونس، أولئك الذين يعرضون أعمالًا ناطقة باللهجة التونسية وقضاياها "فرنسية"، فإذا ما أعرض عنهم المواطنون وتركوهم في وحدتهم يتخبطون ونظروا من حولهم فوجدوا الكرسي فارغة قالوا "شعب جاهل ونحن المثققون". ألا إنهم هم الجاهلون ولكن لا يعلمون.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"جنون القايلة".. إسراء ومعراج إلى عوالم أخرى

"شورّب".. بين قسوة الواقع الاجتماعي وقسوة الدراما التلفزية