08-أغسطس-2019

رحم الله سيدي زياد وسيدي صفوان وعوّضنا خيرًا بأيقونتين من أيقونات شباب تونس

مقال رأي

 

أستسمح القارئ الكريم في مقال قد يبدو شديد الذّاتيّة هذا الأسبوع، وعلّة ذلك فاجعة فقدان تونس لسيدي زياد الماي وسيدي صفوان القرطبي الأندلسي كما كان يُعرفان عند أصدقائهما وأحبابهما.

يبدو الأمر ذاتيّا، مُبتدأه حادثة سير في بلد يسجّل أرقامًا قياسيّة في مآسي حوادث الطّرقات، ولكنّ خبره أكبر وأعمق، فهو خبر شابين صديقين لم يتجاوزا العقد الثّالث، لم يتفارقا في الحياة وفي الموت وفي الطّريق التي كانا يلتمسانها. هذه الطّريق هي التي تعنينا، لكونها طريقًا ذات مغزى وذات آفاق كبيرة لتونس ولأجيالها التي تحمّست لشيء جديد لم يكتمل بعد 2011.

كانا متجاورين في حيّ شعبيّ من أحياء منّوبة التي نشأت بمفعول الهجرة الدّاخليّة للعاصمة، لا شيء في حيّ  "القبّيعة" يوحي بالجمال اللهمّ لُحمة أهله وتآزرهم وسكينة تجعل هذا الحيّ مختلفًا عن تجمّعات عمرانيّة أخرى مشابهة تنتشر فيها الجريمة ومظاهر التفكّك العائليّ. على أنّ أمواج الفوضى العمرانية في "حيّ القبّيعة" لم ترم بزياد وصفوان كما هو شأن بعض أقرانهم في كلّ مدن تونس إلى أحلام الهجرة للغرب بل جعلتهما يلجآن إلى المدينة العتيقة وفي القلب منها الجامع المعمور وأرباضه.

 لم يتفارقا في الحياة وفي الموت وفي الطّريق التي كانا يلتمسانها. هذه الطّريق هي التي تعنينا لكونها طريقًا ذات مغزى وذات آفاق كبيرة لتونس ولأجيالها التي تحمّست لشيء جديد لم يكتمل بعد 2011

كذلك عرفناهما متردّدين دائمين على ما صمد من حلقات الذكر في الزّيتونة، مجتمعين في قهوة "الشفّار"، متذوّقين كأرفع ما يكون التذوّق لما اختزنه تاريخ تونس وبلاد الغرب الإسلاميّ من جماليّة الخطّ والموسيقى واللّون والمعمار. كانت تلك هجرة سيدي زياد وسيدي صفوان ممّا يشوب واقعهم وواقعنا من قبح، فإذا هما ينفضان الغبار عمّا قطعته الحداثة وغرور الفردانيّة وسلطة العقل من أسانيد الذّائقة والجمال، وإذا هما يلتمسان صفاء التّوحيد والوصل مع أفضال النبيّ الأكرم والذّكر طريقًا لسكينة الإسلام، سكينة لا تمييع فيها باسم الروحانيّة ولا قسوة فجّة فيها باسم مطلب العدل المشروع.

اقرأ/ي أيضًا: "خوانجي".. تهمة في مهبّ المزايدات الانتخابيّة

كان زياد ابنا لعائلة لم تسلم من ويلات مظالم التّسعينيات، وكما علمتُ بعد وفاته رحمه الله، فقد سُجن عمّه المقرّب منه وعانى والده من التّضييق الإداريّ لسنوات. لا أذكر أنّ سيدي زياد المتعفّف على الدّوام حدّثني عن شيء من هذا حين كنّا نتجادل بهدوء كبير حول دعمه للتّوافق مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي رحمه الله في حين كنتُ ملتزمًا في حملة الدكتور المنصف المرزوقي سنة 2014. كان زياد من زاوية اجتماعيّة وشخصيّة، إن صحّ التّعبير، ابنًا شرعيًا لثورة 2011، وكانت علاقته بتطلّعاتها وهمومها علاقة لصيقة وهمّا شخصيًا باعتبار ما عانته عائلته.

في المقابل كانت علاقتي بتطلّعات 2011 محض قناعة شخصيّة فكريّة سياسيّة لكوني ابن لعائلة، على غرار ملايين التونسيين، لم تتجرّأ يومًا على النّظام، لم تتودّد له ولم تعارضه. بيد أنّ الطّريف هو أنّ زياد كان دائم الاعتدال في الزّمن السياسيّ، حادًا قاطعًا فيما له علاقة بما أسمّيه الزّمن التّاريخيّ، وهذا تمييز يحتاج لمزيد التّوضيح.

في الزّمن السياسيّ، كان زياد لا يطمئنّ لكلّ ما قد يحمل توتيرًا لصيغة قائمة، وكان مقتنعًا إلى حين وفاة السبسي أنّ التوافق ضرورة وأنّ كلّ إضعاف له من شأنه أن ينهي التجربة الديمقراطيّة برمّتها. لا يهمّ أن يتّفق أحدنا أو يختلف في الزّمن السياسيّ، فلم يكن ذلك ليوتّر أيّ نقاش أو ليُقلق هدوء زياد إذ يتحدّث، وما أجمله من هدوء.

في الزّمن السياسيّ، كان زياد لا يطمئنّ لكلّ ما قد يحمل توتيرًا لصيغة قائمة، وكان مقتنعًا إلى حين وفاة السبسي أنّ التوافق ضرورة وأنّ كلّ إضعاف له من شأنه أن ينهي التجربة الديمقراطيّة برمّتها

لم يكن الاختلاف في الزمن السياسيّ مع زياد ليهمّ، لا لاستتباعات الخلاف فحسب، وإنّما لكون زياد كان منكبًا على الزّمن التّاريخيّ، وكان مدركًا لأهمّيته، وكان له دور كبير في توعية كاتب هذه الأسطر وربما غيره بأهمّيته.

كان زياد، كما يعلم جلّ أصدقائه ومحبّيه، تلميذًا لطه عبد الرحمان، وكان نقد الحداثة عند هذا الفيلسوف المغربيّ موضوع أطروحته في الماجستير. لقد كان زياد سبّاقًا من بين أبناء جيلنا، ذلك الجيل الذي كبُر في تربة ما قبل 2011 وارتفع سقف طموحاته بمفعول الثّورة وبلغت به راديكاليّة الزمن السياسيّ كلّ مبلغ في نشوة التّغيير، كان سيدي زياد رحمه الله سبّاقًا من زاوية الانتباه إلى الحاجة لإعادة تأسيس فكريّ أخلاقيّ لفهمنا للحداثة وما يتفرّع عنها من أفكار حول الدولة والمجتمع. وكان سبّاقًا في إدراك أهمّية تعديل الزّمن السياسيّ ابتغاء فضل العمل التاريخيّ ومقتضياته الفكريّة والتربويّة. كان زياد أيًضا منتبهًا لأهمّية النّخب ولم يكن منساقًا للهث وراء ما يحظى بالشّعبيّة وكان جريئًا أصيلًا في نقده للشعبيّة واعتبارات الأغلبيّة وغير ذلك ممّا هو شائع في المقولات الرّاهنة.

كان زياد مُحدّثنا عن الأخلاقيّة الإسلاميّة كأساس لحداثة أصيلة غير مُقلّدة، وكان استثنائيّا في جيل تتنازعه مقولات أيديولوجيا الحداثة الغربيّة منذ الستّينيات بما فيها مقولات "الدّولة الإسلاميّة"

كان زياد مُحدّثنا عن الأخلاقيّة الإسلاميّة كأساس لحداثة أصيلة غير مُقلّدة، وكان استثنائيًا في جيل تتنازعه مقولات أيديولوجيا الحداثة الغربيّة منذ الستّينيات بما فيها مقولات "الدّولة الإسلاميّة". كان استثنائيًا في جيل تنازعته مقولات الثّورة والثّورة المضادّة واستُنفذ في الزّمن السياسيّ على حساب الزّمن التاريخيّ والأزمة الكونيّة للحداثة والدّولة. كان آخر حديث متواصل لي مع زياد عن الدّولة المدنيّة من حيث المفهوم والمعاني، إذ كان ينسّق لعدد خاصّ حول هذه المسألة لمجلّة "المشترك" وكان قد طلب منّي أن أساهم في هذا العدد. وهو عدد نعد له منذ ما يزيد على السّنة، كان متحمّسًا لنقد تداولنا بخصوصه للدّولة المدنيّة باعتبارها مصطلحًا تلفيقيًا وتعبيرًا عن وهم الحداثة كما استفاض في تحليل ذلك طه عبد الرّحمان.

لعلّ القارئ الكريم يلحظ أنّي تحدّثت عن سيدي زياد ولم أشر إلاّ قليلًا إلى سيدي صفوان، لا إهمالًا ولكن جهلًا بخصال رجل كان شعاره "من صمت نجا". ففي زمن طغت عليه معقوليّة التّواصل بالظّاهر على معقوليّة الصمت وحكمه، أعترف أنّي لم أعرف عن صفوان إلاّ شيئين: رفقته وصداقته الخالصة الصافية مع زياد، واطمئنان روحيّ وتعفّف أخلاقيّ لا يستطيع أحدنا إلاّ أن ينجذب إليه. إلاّ أنّ الغفلة والمشاغل حالت بيني وبين التعرّف على صفوان ضمن معقوليّته ذات الأساس الروحيّ الصّامت.، كان صفوان في دربة روحيّة وأخلاقيّة دائمة.

رحم الله سيدي زياد وسيدي صفوان وعوّضنا خيرًا بأيقونتين من أيقونات شباب تونس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن وفاة الرئيس: أسئلة حول الزعامة وضيق الديمقراطية

ألا يشعر حكامنا بالغيرة؟