19-نوفمبر-2020

يعاني متساكنو قرية بولعابة من الحرمان من مقوّمات العيش الكريم (إيمان السكوحي/ألترا تونس)

 

طفل يحمل ضعف وزنه طينًا عالقًا بحذائه وبين عينيه حلم طريق معبّدة، وأمّ تحمل ابنها على كتفيها لتجنّب الانزلاق في الوحل وفي خيالها ذات الحلم، وابن يحمل والدته على ظهره لأنها لا تقوى على المشي في الوعر ويتشارك أيضًا حلم "الطريق"، هي صور تجسّد المعاناة اليومية لأهالي إحدى القرى التونسية وذلك كلّما أمطرت السماء، إذ قد تختلف الصور لكنّ الحلم واحد.

قامت 15 عائلة بإمكانياتها البسيطة في قرية بولعابة بتشييد طريق حجري لتأمين مسلك للتلاميذ نحو المدرسة

هي قرية بولعابة التي تبعد 25 كلم عن ولاية جندوبة من الشمال الغربي، مسافة جعلت أهلها يُحرمون من أبسط مقوّمات العيش الكريم. والرحلة إلى بولعابة هي رحلة نحو الأصل والأرض والهوية، كيف لا وأهلها جمعوا آلامهم صخرًا وبسطوها أملًا ليرسموا في الخارطة طريقًا يحمل براعمها إلى المدرسة.

"ألترا تونس" زار هذه القرية البسيطة بأهلها والعميقة بجذرها ونقلت تفاصيل مبادرة "الطريق إلى المدرسة".

اقرأ/ي أيضًا: "هذي غناية ليهم".. "للناس اللي تعاني" في سفوح جبال القصرين

"لولا السلطة الرابعة لما سمع لنا صوت"

لحظة الوصول إلى بولعابة حدث استثنائي لأهاليها، الكل يعرف أنّك غريب ولكنّ المثير أنّ الجميع يعرف أنّك صحفي وهم بانتظارك، وهنا تستشعر بعدًا آخر للمهنة. يشعرونك أنك مبعوث إلهي لتوصل صوتهم، يلتفّون حولك كأنّك الضامن الوحيد لنجاتهم.

أولى الكلمات التي قيلت لي من عند أحد شيوخ الجهة عبد الرحمان القنوني: "لولا السلطة الرابعة لما سمع لنا صوت، ولو هناك مناسبة للتصويت فسأصوّت لكم"، كلمات على بساطتها تعرّي أثر الوعود الانتخابية الزائفة للأحزاب.

تبعد قرية بولعابة 25 كيلومتر عن المدرسة (إيمان السكوحي/ألترا تونس)

 

مهمة صعبة وحمل ثقيل يرمونه على كتفك، كيف لا ولم يزر المسؤولون المكان سوى عندما انتشرت صور مبادرة الطريق عبر مواقع التواصل الاجتماعي. هبّ، وقتها، المسؤولون من والي، ورئيس بلدية، ومعتمد، ومندوب الفلاحة، عاينوا المكان وثمّنوا المبادرة وأكّدوا أّنهم سيوفّرون ما يلزم لاستكمال أشغال الطريق حسب ما أكّده لنا خليل قنوني.

وخليل (36 سنة) هو شاب متحصل على الأستاذية في الرياضيات وعاطل عن العمل منذ عشر سنوات، رجاؤه الوحيد أن يفي المسؤولون بوعودهم ليخفّفوا حمل التلاميذ الذين ينقطع أغلبهم عن الدراسة بسبب الظروف الصعبة.

طريق الكيلومترين رُسم بسواعد نساء ورجال القرية

خمس عشرة عائلة اجتمعت بعد أن أعياها تواصلها المستمرّ مع السلطات من أجل إيجاد حلّ لأبنائهم ليصلوا للمدرسة سالمين، عائلات على بساطة إمكانياتها استطاعت أن ترسم أثر حلم الطريق.

توفيق العيادي (من متساكني بولعابة): وضعنا اليد في اليد وآمنّا أنه في مقدورنا تهيئة طريق لأبنائنا ليسهل عليهم الوصول للمدرسة 

حلم يتحدّث عنه توفيق العيادي، أحد متساكني المنطقة، قائلًا: "وضعنا اليد في اليد، وآمنّا أنه في مقدورنا تهيئة طريق لأبنائنا ليسهل عليهم الوصول للمدرسة خاصّة وأنّنا كلما لجأنا للمعتمدية أوالولاية لا يلبون مطالبنا نظرًا لقلة إمكانياتهم".

الخطوة الاولى كانت جمع التبرّعات والتي قدّرت بـ4200 دينار وتتراوح مبالغ المساهمة ما بين 30 و200 دينار حسب الوضعية الاقتصادية لكل عائلة، ومنهم من باع بعضًا من دجاجاته وهناك من باع "نعجة" من أجل توفير المبلغ.

تطوّع سكان القرية لتشييد طريق إلى المدرسة (إيمان السكوحي/ألترا تونس)

 

طريق الكيلولمترين رُسم بسواعد نساء ورجال تعثّرت أمانيهم وطال أمد انتظارهم من أجل تحقيق حلمهم يواصل الحديث عنه توفيق قائلًا :"الشيء الوحيد الذي استطاعت توفيره بلدية المنطقة هو جرّافة من أجل فتح الطريق من ثمّ قمنا بجلب الحجارة من الجبال وقمنا بالأشغال المناسبة من أجل تهيئة الطريق لكنّ المسألة مازالت تحتاج أكثر إمكانيات ونرجو من المسؤولين المساعدة لاستكماله".

الطريق المشيّد بإمكانيات بسيطة من القرية إلى المدرسة (إيمان السكوحي/ألترا تونس)

وللنساء في الطريق نصيب

أجواء اللقاء بالأهالي كانت دافئة بدفء قلوبهم وبسيطة ببساطة أحلامهم، يلتف بك الجميع ويتهامسون فيما بينهم ويتشاورون من فيهم يملك من البلاغة ما يستطيع به إيصال رسائلهم ومطالبهم.

اقرأ/ي أيضًا: بسبب الإرهاب.. سكان الحدود يهجرون مهنًا جبلية

نسوة المنطقة خجولات ولكنّهن يمتلكن حق التعبير، فقليل من الجرأة قد يفتح الكثير من الجروح المندملة. تتقدّم الخالة منجية العميري "حوانتية الدوار" لتحدّثنا عن مشكلتها، فهي أرملة حرمت من المنحة بعد سنوات من العمل الشاق في "السواني" وعند "الفلاحة"، ومع هذا أكّدت أنّ مطلبها الاستعجالي والآني هو تعبيد الطريق.

المدرسة الابتدائية ببولعابة (إيمان السكوحي/ألترا تونس)

 

"حانوت" الخالة منجية المحاذي لمدرسة بولعابة هو نقطة تجمّع الأطفال صباحًا، هناك يستبدلون أحذيتهم البلاستيكية الملوثة بالطين والوحل بأخرى نظيفة يستطيعون الدخول بها لأقسامهم. وعند استكمال يومهم الدراسي، يسترجعون أحذيتهم المتسخة ويواصلون رحلة العودة لمنازلهم بكل عناء.

حديث الخالة منجية، شجّع سعيدة قنوني للحديث لـ"ألترا تونس"، والتي أكّدت بدورها أنّ هذا الطريق سيسهّل أيضًا تنقّل المرضى وسينقذهم من مشقّة كبيرة في التنقّل.

منجية العميري وسعيد القنوني من سكان قرية بولعابة (إيمان السكوحي/ألترا تونس)

 

تواصل محدثتنا: "والدتي مريضة بهشاشة العظام ولا تستطيع سلك الطريق الوعرة، فأضطرّ أحيانًا لحملها على ظهري أو على الحمار لتصل إلى الطريق الرئيسي من ثم نستقلّ النقل الريفي للوصول إلى المستشفى، وهنا يصبح المرض مضاعفًا. أنقذونا من هذا الألم أرجوكم".

مركّب للطفولة والشباب؟

حمزة وقصي ومؤمن، ثلاثة أطفال من ضمن الحاضرين في اللقاء، حديثهم كان قليلًا ولكن معانيه عميقة، منهم من يريد أن يصبح لاعب كرة قدم، ومنهم من يريد أن يصبح جنديًا في الجيش التونسي ليستطيع حماية الوطن. وملخّص ما قيل: "نريد طريقًا، نريد ملعبًا لكرة القدم".

وعلى وقع كلماتهم، أجمع الجميع على حاجة المنطقة لمركب طفولة أو شباب يهيأ على بقايا المدرسة القديمة التي انهارت منذ سنة 1962 وأصبحت اليوم وكرًا للمنحرفين والمدمنين، وفق ما أكده أهالي المنطقة لـ"ألترا تونس".

المدرسة القديمة في بولعابة (إيمان السكوحي/ألترا تونس)

 

وأفادنا خليل القنوني أن المدرسة تابعة لوزارة التربية ولكن استحوذت عليها وزارة أملاك الدولة مقترحًا بيع شجر الصنوبر والكلاتوس المحيط بالمدرسة القديمة وإعادة تشييد المكان بالعائدات المحصّلة كفضاء مخصّص للأنشطة الترفيهية للأطفال، وما يعنيه كذلك من فرصة لمواطن شغل للعاطلين عن العمل في بولعابة.

بلدية بلطة بوعوان على الخط

تواصل "ألترا تونس" مع رئيس بلدية بلطة بوعوان صلاح الدين الفرشيشي للحصول على أكثر معلومات عن المنطقة ومعرفة مدى انخراط البلدية في المشروع. وأكّد لنا أنّ عمادة بولعابة من كبرى العمادات التي تعاني من مشكل فك عزلة المواطنين، مبينًا أنها تضم 12 قرية بحاجة لربطها بالطريق العام، مشيرًا إلى برمجة البلدية لإنجاز طرقات في منطقة بولعابة كـ"طريق مزلين" و"طريق الكلابنية" و"مسلك الثريات".

وأضاف محدثنا أنّ ما وقع في منطقة النواصرية يعدّ تجربة نموذجية تقوم بها البلدية بالتعاون مع المواطنين بصفة تشاركية لفك العزلة بطرقات وقتية حيث توفر البلدية المعدات لفتح المسالك الوعرة ويتشارك الأهالي في وضع المواد المقطعية وفرش الطريق الذي يقع استعماله بصفة وقتية لمدّة سنة أو سنتين إلى أن يتم برمجة تعبيده.

رئيس بلدية بلطة بوعوان لـ"ألترا تونس": البلدية حديثة وآفاقها واسعة ولا نستطيع حل مشاكل خمسين سنة في ظرف سنتين

وعند سؤاله عن موعد تعبيد هذا الطريق، أكد لنا صلاح الدين الفرشيشي أن المسألة مرتبطة بتوفر الاعتمادات، مضيفًا أنه من الوارد أن يجهز ما بين سنتَيْ 2021 و2022. وأشار إلى أنه وقع رصد 150 مليون دينار لإنجاز ملعب رياضي بأرض المدرسة القديمة، ولكن مازالت البلدية تنتظر إتمام الحوز بشهادة تقدّمها وزارة التربية. وأضاف أنه وقع فتح أكثر من خمسين مسلكًا في 11 عمادة بهدف إتمام فك عزلة أكثر من أربعين تجمعًا سكنيًا بحلول صائفة 2021.

وعن المشاكل التي تعانيها المنطقة، قال رئيس البلدية لـ"ألترا تونس" إنها تتمحور حول الماء الصالح للشرب، وتقريب الخدمات للمواطنين، ودور الشباب في المناطق الريفية بالإضافة إلى مشاكل التنوير العمومي. وختم حديثه قائلًا: "بلدية بلطة بوعوان حديثة وآفاقها واسعة ولا نستطيع حل مشاكل خمسين سنة في ظرف سنتين. نحن وضعنا حجر الأساس، ومن هنا لآخر العهدة سيتغير وجه المنطقة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

عمل المرأة الريفية في تونس.. بين مطرقة الحاجة وسندان الاستعباد

حي التضامن.. بصيص نور خافت وسط ظلمة التهميش