14-أبريل-2018

يعاني حراس الليل التهميش وغياب التغطية الاجتماعية (صورة تقريبية/ Getty)

هي مهنة من أغرب المهن. يتخلّى فيها الإنسان عن جزء من آدميته. إنها أمّ الفضائل وهو التعريف الفلسفي للنوم. يفتّت ليله حكايا شهرزادية على أجنحة دخان السجائر الرديئة، وتيهًا بين رشفات كؤوس الشاي. أحيانًا يبذل الإنسان ليله من أجل لقمة العيش.

ـ "آش تخدم عم الطاهر ؟"

ـ " عسّاس  في الليل ".

اقرأ/ي أيضًا: الاستغلال الاقتصادي.. آفة الطفولة في تونس

إجابة عم الطاهر الرجل السبعيني فيها انطفاء وانكسار داخلي ويأس من مكرمات الحياة. إذ يشعر هذا الرجل أن الحياة مرّت بجانبه ولم تعطه شيئًا، خذلته فراح يشتغل "عسّاسًا" بالليل. هؤلاء الرجال تجاربهم مع الليل و" العسّة " طويلة وغريبة، فيها الكثير من " الرّيسك " والمخاطرة. عم الطاهر هو حارس إقامة سكنيّة بإحدى ضواحي العاصمة. قدّم نفسه بأنّه رجل الليل  " الليل ما تخونوش .. ما يعطيكش". و قد فسّر عم الطاهر لـ"الترا تونس" تلك الحكمة بأن الليل يجب أن تصادقه كرجل شجاع وتحاوره بهدوء وتشعلان سيجارة معًا وتناجيه وتبوح إليه، حينها لا يغدر بك ولا يخونك، بل يلهمك الصواب والحكمة.

عمّ الطاهر (حارس ليلي): يجب أن تصادق الليل كرجل شجاع وتحاوره بهدوء وتشعلان سيجارة معًا وتناجيه وتبوح إليه، حينها لا يغدر بك ولا يخونك

وبسؤالنا عن السبب الذي حمله إلى هذه المهنة، ذكر أنه كان مزارعًا بجهة سجنان من ولاية بنزرت يشتغل "في أرض الناس". وهنا توقف عم الطاهر وأخذ نفسًا من سيجارة رديئة كورية الصنع، بخسة الثمن، وصمت هنيهة وفي صمته قصة علاقته بالأرض، لكنه استجمع نفسه التائهة. وهمس أن الفلاحة أصبحت قاسية وغير معطاء لذلك توجه إلى العاصمة التي لم تقدّم له سوى هذه المهنة الذي قضى فيها ثلاثة عقود بلياليها. له خمسة بنات وأحفاد يحبهم ويراهم امتدادًا له من بعده.

عمّ الطاهر يعرف جميع قصص الإقامة التي يشتغل بها.. شقق الطلبة الذين تأتيهم صديقاتهم خفية ويغادرن فجرًا فيتكفل هو بجلب سيارة التاكسي من أعلى الشارع. أرملة وحيدة لها مواعيدها القارّة مع أحد الشباب. يعرف المرضى وأمراضهم وأطباءهم وأدويتهم. يعرف جميع أرقام السيارات وإن حلّت سيارة غريبة بالمأوى يجب أن يعرف صاحبها وفي أي شقة ينام.

وعن الأخطار التي قد تحدق به في مهنة " العسة "، يذكر عم الطاهر أن سرقة السيارات هي فعل ليلي وأن "السرّاق" لا يتوانون عن فعل أي شيء مقابل سرقة السيارت لذلك هو حذر في هذه المسألة إذ يكثر من إشعال جهاز الإضاءة اليدوي ولديه صفارة يستعملها عند الخطر أيضًا. هو يعرف مواعيد دوريات الأمن فيستوقفهم ليتجاذب معهم الحديث ويعطيهم شايًا "منعنعًا" وهو يرى أن في ذلك نوعًا من الحماية له وللمنطقة التي يحرسها وبتلك الأساليب يبتعد عنه اللصوص.

أما الأجرة فيرى عمّ الطاهر أنّها لا تسمن ولا تغني من جوع. فهو يعوّل على مساعدات السكّان خاصة في الأعياد وفي شهر رمضان. عمّ الطاهر يشعر أنه في وضعيّة إهمال فهو محروم من التغطية الاجتماعية بالرغم من المطالب العديدة التي تقدم بها حتى يتحصل على دفتر علاج مجاني وجراية من وزارة الشؤون الاجتماعية.

اقرأ/ي أيضًا: لعبة "البلانات".. الإدمان الخفيّ من أجل الربح السريع

التقينا ليليًّا آخر وهو " الشاذلي " من مدينة القيروان، كهل صغير العينين، طويل اليدين يضع قبعة رياضية على رأسه. الشاذلي حارس لحضيرة بناء كبيرة بإحدى ضواحي العاصمة يعيش بمفرده "متاشي" (كلمة متداولة بين عمّال الحضائر المقصود بها ترك العائلة والإقامة داخل الحضيرة في ظروف قاسية). كانت هذه هي الكلمة المفتاح التي بدأ بها الشاذلي حديثه لـ"الترا تونس". قالها بألم "متاشي وبعيد على أولادي". وقد شعرت أن قلبه انقلع من مكانه وسافر إلى القيروان وتحسس أبناءه وعاد.

الشاذلى (حارس ليلي) يعتقد أن مهمته في النهاية هي أن يحرس مال الآخرين وثراءهم

الشاذلي حسب تصريحه لـ"الترا تونس" كان عامل حضيرة مثابر ولكنه ومنذ ثلاث سنوات تعرّض إلى حادث شغل أليم حيث سقط الرجل من الطابق الأول وتسبب له ذلك في كسور في ساقيه وسقوط بدني كامل اضطرّه للكف عن العمل بالساعد والتحول إلى حارس بنفس شركة المقاولات. وهو يعتقد أن ذلك كان عطفًا من مسؤولي الشركة بإبقائهم عليه حارسًا ليليًا وهو يتنقل معهم من جهة إلى أخرى أو من حيّ إلى آخر وذلك حسب المشاريع التي يتحصلون عليها.

مهمة الشاذلي تبدأ بعد انتهاء العمل بالحضيرة، يظل متيقظًا كامل الليل خوفًا من سرقة "الماتريال والسلعة والمادري والياجور والحديد". هذه هي مصطلحات الشاذلي، لكنه في النهاية وحسب قوله هو يحرس مال الآخرين وثراءهم. والشاذلي وحسب روايته لـ"الترا تونس" يقضي ليله في سمر متقطّع مع حراس مجاورين سرعان ما يصادقهم فتتشكل علاقات تحكمها قيم "العسّة" ومستلزماتها، التّضامن وقت الخطر والإنابة وقت المغادرة لشراء القهوة والسجائر والتداول على تحريك نار الكانون حتى يبقى الجمر مزهرًا والشاي ساخنًا سخيًا.

الشاذلي ورفاقه يخوضون خلال الليل الطويل على طريقتهم البسيطة والعفوية في السياسة وكرة القدم والاقتصاد والدين. إذ يقول "نحن في حيرة من أمرنا بخصوص الصراع الدائر الآن بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة.. ما عاد فاهمين شيء الطرح ظاهرلي قوي". ويضيف محدّثنا أنّ الراديو هو من علّمهم الحكمة وثقفهم فهو رفيق الليالي ومبهجها، فـ"لا نوم مع الراديو خاصة عندما يذيع أغنية أو لحنًا يحرّك الفؤاد ويذكّرني بأيام الصبا والشباب بريف القيروان البديع حيث للحب مسارب نعرفها جميعها".

وعن المخاطر التي قد تعترضه، يذكر الشاذلي أنه تعوّد على اللصوص والسّراق وباتوا جزءًا من ليله و"عسّته" وهو يعالج الأمور بالقوّة حينًا وبحكمة الليالي أحيانًا أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: في الـ514.. الأبواب مفتوحة والحافلة تسير و"نورمال"

أما إبراهيم، من ولاية جندوبة، اشتغل في الدولة الليبية أيام الفاتح ثم عاد مع العائدين لما هبّت رياح الثورة وعصفت بحكم القذافي عصفًا. يروي إبراهيم لـ"الترا تونس" أنه لم يجن الكثير من المال من ليبيا فقد أمّن سقف البيت لا غير. وهو الآن حارس ليلي بأحد أسواق الفريب (سوق لبيع الملابس القديمة) بجهة منوبة.

إبراهيم (حارس ليلي) إلى جانب "العسّة" ينظف أحد الأسواق ويوفر لتجاره خدمات عدة منها توفير مكان التقائهم بصديقاتهم

إبراهيم إلى جانب "العسّة" يكنس السوق ويرفع الفضلات من الملابس المتقادمة ويحمي السلع المكدّسة فوق الطاولات من الأمطار. هذا إلى جانب مهام أخرى يكلفه بها تجّار السوق. وعندما سألته ماهي هذه المهام تردّد في البداية لكنه صدح ببعضها وهي من قبيل الطبخ لبعضهم واستقبال البعض من هؤلاء التجّار لصديقاتهم بغرفته المتاخمة للسوق وأحيانًا يكون ذلك على حساب نومه وراحته. وبخصوص التّأجير يقول محدثنا إن أهل السوق كرماء يساعدونه كلما طلب منهم ذلك. ويختم حديثه معنا بالقول "المهمّ وليداتي بخير ياخي نا على شكون مضحّي"، وابتسامة ريفية تعلو محيّاه.

هذه عينات بسيطة من شريحة مجتمعيّة مجهريّة تمرّ أمامنا في تونس ولا نراها، تعيش وضعًا هشًا على جميع المستويات فهي لا تتمتع بالتغطية الاجتماعية التي تضمنها الدولة للفقراء ضعفاء الحال وذلك لطول الإجراءات الإدارية وتشعبّها. هذه التراجيديات التي تقف وحيدة في العراء تحت القمر، حملنا ألمها الدفين والخفيّ للإخصائية النفسية سوسن درين والتي أفادت "الترا تونس" أنّ هؤلاء الرجال وبعد أن يقضوا سنوات في امتهان العمل الليلي يتغيّر التوقيت الداخلي لأجسادهم وينحرف جهازهم العصبي ويصبح عرضة للتوتر والشدّ لأن النوم الليلي هو مليّن للأعصاب الدقيقة في جسم الإنسان.

وأضافت درين أن هذه المهن غير المؤطرة وغير المنظّمة فيها اعتداء واضح على إنسانية الإنسان وأكّدت أن تونس لم ترق بعد إلى مستوى الدّول التي تحترم خصوصيات هذه المهن، مشيرة إلى أن النص القانوني في بلادنا مازال صامتًا على بعض الجزئيات والتفصيلات. وأوضحت الإخصائية النفسية أن هؤلاء الرجال من عملة الليل وخاصة الحرّاس عادة ما ينتهون مرضى بالانهيار العصبي دون أن يعلموا بذلك خاصةّ إذا كانوا من طبقة اجتماعية ضعيفة.

الحارس الليلي مهنة شاقة شقاء العديد من المهن المنسية واللامرئية في هذا الوطن وتحتاج إلى منظومة تشريعية جديدة تضمن حقوق العاملين في هذا المجال وتوفر لهم أدنى مقومات الحياة الكريمة.         

 

اقرأ/ي أيضًأ:

الكحل.. صنعة "الخالة مليكة" التي تحدت الماركات العالمية

التنمية البشرية في تونس: بين النبل والشعوذة المبتكرة؟