11-مايو-2019

في عرض " للا" كسرت أمينة الصرارفي كل الصور النمطية على الركح

 

"في دين الحب... المحبة طريقة... والحبيب طريق... والجمال سنة... والصدق شريعة... والشوق إيمان... وإن تعددت الطرق... والطرق... والطرائق... والطرقات ...فإني واحد... دائمًا..."، كلمات لابن العربي قد تلخّص معنى التصوّف وما يحمله من أصول الحب والجمال.

والتصوّف فلسفة تجعل من الموسيقى والغناء والرقص سبلًا نحو الله، فالمديح والإنشاد وما بينهما من تمايل واهتزازات قد يكسران كل أغلال الواقع ويأخذانك إلى عوالم خارج حدود المادة، لتغدو الأجساد حرّة طليقة تنشد مرحلة الصفاء. والموسيقى الصوفية، بما هي ذلك العالم الساحر الذي يقوم على ثنائية المحب والمحبوب، هي الأخرى تخضع لتقسيمات المجتمعات الأبوية، إذ تظلّ الصوفية النسوية مغمورة مقارنة بالصوفية الرجالية.

عرض "للا" جعل من المدحات التي تتردّد في دوائر نسوية صرفة في الزاوية أو المقام تبلغ مسامع محبي الموسيقى الصوفية الذين سافروا بين الكلمات والألحان

اقرأ/ي أيضًا: رمضان بلا برمجة ثقافية ليلية: أين تتجه أزمة التوقيت الخصوصي للمؤسسات الثقافية؟

عن الصوفية المؤنّثة..

ظل التبرّك بالوليات الصالحات والتغني بهن حكرًا على الزوايا والمقامات باستثناء بعض "المدحات" التي تردّد في الحضرات الرجالية على غرار "يا سيدة يا نغارة"، إلى أن غاصت الفنانة أمينة الصرارفي في هذا العالم وكان عرض "للا".

و"للا" تصور فني جديد للحضرة النسائية، وهو رحلة بحث استغرقت سنوات، ليتولّج عنها عرض وضع حدًّا لسجن الأغاني التي تتبرّك بالسيدة المنوبية وأم الزين الجمالية وصالحة بنت بوسعيد الباجي، وتحريرها لتعبر حدود الزوايا إلى آفاق المسرح. والعرض الموسيقي الصوفي، الذي افتتحت به برمجة مهرجان المدينة، جعل من المدحات التي تتردّد في دوائر نسوية صرفة في الزاوية أو المقام، تبلغ مسامع محبي الموسيقى الصوفية الذين سافروا بين الكلمات والألحان إلى زمن تحدّت فيه "وليات الله الصالحات" المجتمع وتقاليده ليكنّ فيما بعد عنوانًا للمآثر والكرامات.

 اختارت الصرارفي أن يكون العرض ببصمة نسائية إذ تنجزه مجموعتها الموسيقية عازفات بمشاركة مدّاحتين

 

وكان الركح في مدينة الثقافة، فضاء لتجربة روحانية، اختارت عرّابة العرض أمينة الصرارفي أن يكون ببصمة نسائية إذ تنجزه مجموعتها الموسيقية عازفات، بمشاركة "المدّاحتين" مامية القروي ودجلة قادر. ولم تكن الصرارفي قائدة فرقة بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة، بل كانت تجول على الركح بكل تلقائية وتتفاعل بكل جسدها مع الإيقاعات والأنغام، فيما رسمت مجموعة العازفات معالم الرحلة بين ثنايا الموسيقى الصوفية لتزينّها المدّاحتين بصوتيهما الذين يحملان كل ألوان الحياة.

وعلى الركح، بدت العازفات منسجمات بلباسهن الأزرق الموشّح باللون الذهبي، متناغمات في عزفهن وغنائهن، فيما كانت المدّاحتان بثوبيهما الأبيضين زينة العرض، وتردّد صوت دجلة قادر في الأرجاء متغنياً بالوليات الصالحات، كان صوتها عذبًا عميقًا لا تكاد تفرق فيه بين الألم والأمل، صوت ممتد بين الوجع والحلم. وأما مامية القروي فصوتها لا يزال نابضًا بالحياة ووجهها مشرقًا كشمس الربيع رغم أنّها بلغت من الكبر عتيًا، ولا تزال تمدح محبوباتها من الوليات الصالحات.

في عرض " للا"، كسرت أمينة الصرارفي كل الصور النمطية على الركح إذ لامست أنامل نسوية "الطبلة" و"الدربوكة" و"البندير"

وفي عرض " للا"، كسرت أمينة الصرارفي كل الصور النمطية على الركح، إذ لامست أنامل نسوية "الطبلة" و"الدربوكة" و"البندير" لتخلق إيقاعات سرت معها الحماسة في صفوف الجمهور الذي تفاعل معها بطرق مختلفة، لتثبتن أن الآلات الإيقاعية ليست حكرًا على الرجال.

وكان الجمهور على موعد مع الفنانة نبيهة كراولي التي قدّمت أغنيتين من التراث التونسي الأولى بعنوان "ماحضرش الدالة" وهي من تراث منطقة قفصة، والثانية تتغنى بأشراف الكاف وهي من التراث الموسيقي للشمال الغربي التونسي.

اقرأ/ي أيضًا: ملتقى تونس للرواية العربية: فتح أبواب المسكوت عنه في الثقافة العربية

وجه جديد للحضرة النسائية..

التوزيع الموسيقي للعرض يتسم بالثراء حيث اجتمعت فيه إيقاعات السطمبالي والعيساوية والتيجانية والمالوف، ويعود هذا الثراء إلى التنويع في الآلات الموسيقية إذ شمل العرض إلى جانب الطبلة والبندير والدربوكة الكمنجة والقانون والبيانو والعود والشقاشق والدرامز. والتجديد الذي أضفته أمينة الصرارفي على مستوى التوزيع الموسيقي للمدحة من خلال المزح بين الموسيقى الشعبية والموسيقى الكلاسيكية، مثّل وجهًا آخر للحضرة النسائية التي تعتمد بالأساس على الآلات الإيقاعية.

عرض "للا" عمل فني أزاح الستار عن موروث موسيقي ظل حبيس جدران الزوايا

وخلق التناغم بين الآلات الموسيقية المختلفة ألحانًا جديدة، لم تفقد المدحة عمقها ولم تطمس النغمات الصوفية التي تزداد تجذّرًا كلّما ضاعت رائحة البخور والعود في المكان، وإن كانت الآلات الإيقاعية من دربوكة وطبل وزد عليها الدرامز  تحاكي صخب الحياة والتحديّات التي واجهتها الوليات الصالحات حتى يبلغن مقامهن الحالي في المخيال الشعبي، فإنّ النغمات التي تنبعث من القانون كانت أقرب إلى مناجاة المحب لمحبوبه، وأما نغمات الكمنجة فتحيلك إلى لحظات الصفاء الروحي والعشق الإلهي وأما العود فكانت نغماته بمثابة آهات عاشق ينتظر الوصال.

عرض "للا" لم يكن نسائيًا صرفًا

والعرض لم يكن نسائيًا صرفًا، إذ شارك فيع عدد من العازفين، ويبدو أن الأمر ليس اعتباطيًا، ذلك أن مكارم الوليات الصالحات تشمل الذكور والإناث، وفق ما تحفظه الذاكرة الشعبية من حكايات عنهن. وإن شارك عدد من العازفين في خلق موسيقى العرض، فإن الغناء كان نسائيًا خالصًا، وقد غنّت المداحات ومجموعة عازفات "يا سيدة دخيل" و"شيلوني يا رجال الحمادة" و" اصبر يا قلبي واتصبر " و"زيارة المنوبية" و"نغارة "و"بابا سالم"، إلى جانب تعليلات ومدحات تحفظها النساء في الزوايا والمقامات وتردّدنها في الحضرة.

عرض موسيقي فرجوي..

والعرض الذي استمدّ تسميته من مناداة الوليات الصالحات بـ"للا" وهي كلمة تعادل "سيدي" بالنسبة للأولياء الصالحين، عمل فني أزاح الستار عن موروث موسيقي ظل حبيس جدران الزوايا، وقدّمه في عرض موسيقي فرجوي تظافرت فيه الموسيقى والغناء والكوريغرافيا.

وإن كان الإخراج يشكو من بعض الهنات على مستوى الإضاءة والتوظيب الركحي، فإنّ اللوحات الراقصة أضفت على العرض لمسة خاصة إذ تحمل المتابع إلى عالم الصوفية المؤنثة سواء من خلال الحركات أو اللباس التونسي الأصيل بما يحمله من بساطة. وقد سعت الفنانة أمينة الصرارفي إلى الحفاظ على اللمسة الخاصة للعرض، وذلك عبر حديث الممثلة ليلى عن حياة الوليات الصالحات وتقديم لمحة تاريخية عن تاريخهن، لتنتهي في كل مرّة إلى التضرّع إلى الله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أوبرا شهرزاد.. ليلة في جنان الحكايات وبهاء الأغنيات

مسرحية "الخوف"... سيميولوجيا محضة حول الواقع التونسي