عرض "ظلال الأطلس" للعازف عطيل معاوي في الـ"JMC".. صورة موسيقية ناعمة وعميقة

لم تكن أيام قرطاج الموسيقية التي بزغت تحت سماء الثقافة والفن البديع في تونس منذ عقد من الزمن، بمعزل عن سردية تأسيسية رسختها أيام قرطاج السينمائية ذات 1966 ونسجت على منوالها أغلب التظاهرات الثقافية الواجهة في تونس على غرار أيام قرطاج المسرحية وأيام قرطاج الشعرية وأيام قرطاج للفن الحديث والمعاصر المهتمة بالفنون التشكيلية.. وهي الإنتاج الإبداعي المفكّر والمغيّر، الذي يقطع مع السائد والمستهلك والتجاري الصرف، فقد تخيّرت هذه التظاهرة الفتيّة نهج الموسيقى في ذاتها كما تسير إلى ذلك الفلسفة بالاعتماد على فكرة شهيرة وهي "الموسيقى الآلاتية" البعيدة عن تلك المزاوجة بين الشعر المغنّى والموسيقى.. وهو تقريبًا ما ينقص المشهد الموسيقيّ التونسيّ مبنيّ الفعل على الموسيقى الكلاسيكية، حيث بقي التجريب في حيز ضيق يضيء هنا وهناك.

قدّم عطيل معاوي بمعيّة سبعة من العازفين الممهورين، مساء 22 جانفي 2025 حفلًا موسيقيًا يحتمل الكثير من التأويل، ورد تحت عنوان "ظلال الأطلس"

الدورة العاشرة الجارية الآن بالعاصمة تونس والمتواصلة بمختلف فضاءات مدينة الثقافة الشاذلي القليبي إلى يوم 24 جانفي/يناير 2025 تسير على نفس نهج التأسيس مع السعي إلى التطوير في مستوى التنظيم وتخير المحتوى المبرمج.

ومن الأسماء التونسية المشاركة في أيام قرطاج الموسيقية والتي تمثل علامة من علامات الموجة الجديدة التي تشتغل على الموسيقى التجريبية المتولدة من الذات العالمة للفنان ومن اللحظة التاريخية والثقافية الراهنة التي يعيشها الإنسان التونسي داخل جغرافيته الضيقة والواسعة في الوقت نفسه، نجد "عطيل معاوي" أستاذ الموسيقى المتخرج من المعهد العالي للموسيقى بتونس سنة 2018 واختصاصه العزف على آلة الكمان وهو يدرّس حاليًا بمعهد سيدي صابر وهو أيضًا عازف كمان في فرقة أوبرا تونس.

لقد قدّم عطيل معاوي مساء 22 جانفي/يناير 2025 حفلًا موسيقيًا يحتمل الكثير من التأويل بعد تأمله والإنصات إليه بعيون القلب بآذان الروح، وقد ورد تحت عنوان "ظلال الأطلس"، وهي تسمية مركبة مستبطنة من جغرافيا شمال إفريقيا وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن المادة الموسيقية المقترحة هي من وحي هذا الأطلس الكبير الجامع بين سكان هذه الأرض والمسكون بتاريخ طويل مديد يستطيع أن يكون معينًا لا ينضب للمبدعين المحليين في شتى مجالات الإبداع من الفنون والآداب.

معزوفات عرض "ظلال الأطلس" لم تتجاوز العشر قطع، قدمها العازفون في 40 دقيقة، بآلات موسيقية ناسجة للمعاني على غرار الناي، البندير، التار، قيتارة الفلامنكو..

عطيل معاوي، وضمن حفل "ظلال الأطلس" قدّم بمعيّة سبعة من العازفين الممهورين مقطوعات موسيقية متجانسة معنوياً، ليس لها ملامح نلتقطها بالعين، بل تشبه الظلال في سحرها وجمالها، فالظل هو علامة حياة رغم عدم ادعائه ذلك.

معزوفات عرض "ظلال الأطلس" لم تتجاوز العشر قطع وقد تشكلت ضمن توليفة لحنية تشبه العقد المنظوم في تناسقه ونسيجه الداخلي، أو هي كالقصيد المرصف الذي يخلق لدى المتلقى نوعًا من التنويم أو الخدر اللذيذ جرّاء بداعة العمل الفني المتخارج من روح الفنان، وليس من الأوتار في تناغمها مع الإيقاع وباقي آلات النفخ المستعملة.. هي كالظلال التي يتركها الأطلس الكبير عند رؤيته من علٍ، فندهش من ملاعبته خيوط الشمس المنبعثة من كل الجهات والأركان.. هكذا تغذي الموسيقى مشاعرنا فتجعلنا نحيا على نحو مغاير، متجددين كالصباحات الوليدة، وهكذا تغذي أفكارنا فتجعلنا مستلهمين لخيالنا مصادر جديدة لماعة كالبرق الشريد بين العواصف.

عرض "ظلال الأطلس" لعطيل معاوي يمتح من القوالب الموسيقية المحلية ويسكب عليها ملامح الجوار.. أو ليس المالوف مشتركًا وذاكرة حية دافئة تروي رحلة الموريسكيين من بلاد الأندلس إلى بلاد المغرب الكبير؟ من هنا نتلقى التفاصيل الدقيقة التي تعكس رؤية أو مقاربة مشروع موسيقي عاطفي مزدحم بالشاعرية والعواطف الجياشة.. إنه لوحة تشكيلية كثيرة التفاصيل والجزئيات تمامًا كسفينة نوح، لكنها بجمالية شديدة العفوية والصدقية.

الآلات الموسيقية الناسجة للمعاني (الناي، البندير، التار، قيتارة الفلامنكو، قيتارة كلاسيكية، باس، باتري) التي أرادها عرض ظلال الأطلس لمتلقيه في نطاق الدورة العاشرة من أيام قرطاج الموسيقية، عزفها كل من: عبد العزيز الشريف، خليل جمعة، البشير النفاتي، محمد حاتم هميلة، محمد على العش، محمد بن صالحة، حاتم اللجدمي. وهذا الفريق كان صنيعة حلم ومشروع إبداعي وثقافي تتطلع إليه ضمن نطاق التجريب والتغيير والقفز إلى مفازة التفكير والبحث دون التخلي عن خيوط الهوية الثقافية والمنابت الأولى للنغمات والموسيقات.

ما يقدمه عطيل معاوي وبقية شباب هذه الموجة الجديدة التي تشتغل في حقل الموسيقى العميقة هو جزء من الهوية الموسيقية التونسية التي تبحث لها عن ملامح جديدة

لقد كان فريق عمل "ظلال الأطلس" ينحت المعزوفات بأناة وصلابة خافتة لا نراها أحيانًا، ويرتب النغمات بعناية ويقدمها كإضمامة في عيد الحب بمزاوجات للآلات وبتدفق كبير للمشاعر الفنانة.

فيما يشبه الساعة من الزمن (40 دقيقة هي مدة العرض)، لكنها مداد من المعاني لا ضفاف له، منسكب في مسرح الجهات بمدينة الثقافة وفائض إلى الآفاق البعيدة الفسيحة، يجمع أصوات الأطلس وظلاله، شموخه وقسوته، جماله وشجونه.

الموسيقى الآلاتية في تونس خارج تظاهرة "أيام قرطاج الموسيقية" تبدو بلا حاضنة كنخلة يتيمة وحيدة في الفلاة الفسيحة تنتظر المستظل بظلها، وتنتظر الاهتمام تلو الاهتمام حتى لا تضيع التجارب والأحلام وتبقى في سطوع متواصل، كي لا نبقى سجناء الماضي الفني والموسيقى وفي الوقت نفسه دون التخلي عنه.

ما يقدمه عطيل معاوي وبقية شباب هذه الموجة الجديدة التي تشتغل في حقل الموسيقى العميقة هو جزء من الهوية الموسيقية التونسية التي تبحث لها عن ملامح جديدة تنهل من الآن وهنا. وما تقوم به أيام قرطاج الموسيقية إلى جانب دورها الترويجي هو "الحاضنة الأساسية" لهذا النوع من الموسيقى التي تسافر إلى العالم فيدرك المتلقي على أي أرض كان، أنها من تونس.