06-يونيو-2018

من رحم جبال السند ولد العرض الذي احتفى بالمرقوم

"المرقوم" غطاء صوفي في صيغة المذكّر خلقته أنامل في صيغة المؤنّث وحملت خيوطه حكايات نفخت فيها المرأة من روحها. وصانعات المرقوم روائيات وعازفات على طريقتهن، يعزفن على خيوط المنسج البيضاء وينسجن حكايات الحب والحلم.

يؤويهنّ بيت قدّ من الحب لا تنضب فيه الموسيقى ولا ينقطع منه صوت الغناء، تخلق النسوة اللاتي يجدن صنع المرقوم حياة من العدم، ويملأن الفراغ بألوان الحياة. وهؤلاء النسوة لا يجدن "الخلق" فحسب بل هن مصدر إلهام نبعت منه فكرة عرض المرقوم للمخرج نزار السعيدي.

المرقوم عرض موسيقي توثيقي لفعل اجتماعي يتعدّى الفضاء الخصوصي لنسوة يراكمن خيوط الصوف ويلاعبن الألوان والأشكال

المرقوم عرض موسيقي توثيقي لفعل اجتماعي يتعدّى الفضاء الخصوصي لنسوة يراكمن خيوط الصوف ويلاعبن الألوان والأشكال على وقع أغنيات من التراث لينقّب عن التاريخ اللامادي ويحفر في الذاكرة الجماعية ويحوّل تجربة فردية إلى تجربة مشتركة.

ومن رحم جبال السند ولد العرض الذي احتفى بالمرقوم، وتحوّلت تفاصيل "الرقم" إلى عرض فرجوي تماهت فيه الموسيقى البدوية والحديثة وتفاعل فيه الرقص والسينما ليكون العرض مرادفًا للأصالة والتجديد.

ألوان النسيج التقليدي المفعمة بالحياة زيّنت أزياء أعضاء الفرقة حتّى بدا ركح قاعة "الريو" بالعاصمة وكأنّه قطعة "مرقوم"، وأجساد الراقصات المستسلمة لإيقاع الطبل بدت كخيوط الصوف التي تجذبها المرأة وهي تخلّل يدها بين خيوط " الجدّاد" البيضاء فتنصاع لها دون مقاومة.

"مراول فضيلة" و"الشاشية" و"الخلال" و"الحزام" و"الملية" بعض من الموروث التقليدي التونسي الذي وسم العرض فكان تونسيًا خالصًا لوجه الذاكرة والتراث على الرغم من الركون إلى بعض الآلات الموسيقية العصرية على غرار "الدرامز" و"الغيتار" و"الأورغ".

عرض المرقوم يحفر في الذاكرة الجماعية ويحوّل تجربة فردية إلى تجربة مشتركة

عرض المرقوم الذي أشرف عليه نبيل بن علي موسيقيًا ليس وليد الصدفة إذ أن الإيقاعات تتكاتف لتحملك إلى عوالم سرمدية تحكمها صانعات المرقوم

اقرأ/ي أيضًأ: فلسفة الحضرة.. الرقص والغناء طرق إلى الله

على وقع الأهازيج والأغاني خُلق "المرقوم " داخل بيوت مغلقة، والتراث الغنائي نفسه خلّد هذه العملية واخترق حاجزي الزمان والمكان.

وعرض المرقوم الذي أشرف عليه نبيل بن علي موسيقيًا، ليس وليد الصدفة إذ أن الإيقاعات تتكاتف لتحملك إلى عوالم سرمدية تحكمها صانعات المرقوم وتغزوها أشكال هندسية ملونة.

في هذا العرض يُخلق "المذكّر" من رحم "المؤنّث"، فمن "الطبلة" و "الدربوكة" انبعث إيقاع ينبض حماسًا يحاكي نقرات "الرطاب" على خيوط الصوف، ومن "الكمنجة" انساب عزف يحاكي أنفاس النسوة، ومن "الزكرة" استرسل رنين أزيز المنسج عند طيه. يمتزج إيقاع آلات القرع مع الآلات الوترية فيخيّل فيخيّل إليك أنّك أمام حوار لامرأتين تتشاركان "مرقومًا" ولكلّ منهما طريقة في النسج، فنقرات "الرطاب" كالبصمة لا تشبه الواحدة الأخرى.

وعلى الشاشة خلف الركح فيديو يعرض امرأة خط العمر تجاعيده على وجهها وكاد وشمها أن ينطق، فعل الزمن فعلته بيديها ولكنها مازالت تمسك "بالقرداش" وتقلبه بين يديها بخفة، وصوت "التقرديش" ينبعث من قاعة العرض.

كومة الصوف اللينة تصبح جاهزة للغزل وهي عملية تتطلب مغزلًا وكثيرًا من اللين والمرونة حتى يتحول الصوف إلى خيوط لينة ورقيقة، وأنت تشاهد الفيديو وتسمع عزف الفرقة ينبعث من وسط العزف صوت أسفل المغزل وهو يلامس الأرض في حركات دائرية.

ينبعث صوت "الخالة جميلة" عنوانًا للحب والحياة والجمال واحتفاء بالـ"مرقوم" 

فيما يخطّ العازفون بأناملهم آهات النسوة وأنفاسهن، يرسم الراقصون لوحات الحلم بأجسادهم وتسافر الأعين  بين خطوط " مراول فضيلة" وألوانها إلى زمن حلو، وتطالعك امرأة من الشاشة تروّض أناملها التي خطّ عليها الزمن قسوته خيوط "الطعمة" وتكتب على  المنسج حكايات صاغها بريق عينيها.

وأنت ترقب الأنامل الرقيقة تتسلّل بين ثنايا الخيوط البيضاء تملأ بياضها ألوانًا وأشكالًا متنوعة فتعلن ميلاد حياة تعقبها حياة أخرى بتلوينات مغايرة، ينبعث صوت من أعماق جبال السند يحاكي إيقاع الريح حينما تداعب خدّ الصخور ترافقه نقرات الطبلة المتمرّدة على قسوة الطبيعة الجبلية.

وينبعث صوت "الخالة جميلة" عنوانًا للحب والحياة والجمال واحتفاء بالـ"مرقوم" الذي تعدّى كونه قطعة منسوج ليصبح رواية للذات وسردية للجماعة في الآن نفسه، وتنساب الكلمات من حلقها تحرّرك من سجن المادة وتعرج بك إلى فضاءات روحية خالصة يعبق منها عبق العنبر.

وتماما كما تتنقل سيّدة المرقوم بين توليفات الألوان والأشكال، ينتقل العازفون  بين النغمات البدوية والنغمات العصرية وتتفاعل معها أجساد الراقصين.

و"الرقم" كالوشم لا يمحى ولا تسقط تفاصيله بالتقادم، فصانعات المرقوم تحملنه بين ثناياهن وفي ذاكرتهن الحية النابضة بالحب والحلم ويحوّلنه إلى أهازيج وأغنيات تتحدّى آفة النسيان.

اقرأ/ي أيضًأ: صناعة الأواني الخشبية: عادة قديمة وتجارة تزدهر في المواسم الكبرى

عرض المرقوم اتخذت فيه الألوان والأشكال والنغمات أبعادًا فلسفية انتفت فيها الحدود بين الفرد والجماعة

وعلى أعناق المنسج تُرفع المربعات والمعينات والمثلثات في رسومات سطّرتها ريشة "الرطاب" وزينتها "الخلالة" بسحر وقعها، فكانت تعبيرات للفن والإبداع الذي تعبق منه رائحة الأصالة.

وعرض المرقوم اتخذت فيه الألوان والأشكال والنغمات أبعادًا فلسفية انتفت فيها الحدود بين الفرد والجماعة وانتفت فيه المادة لتخيم روح التراث على المكان وتتماهى عناصر العرض كما تتماهى "الطعمة مع الجدّاد".

وبما أن الأشكال التي توشّح المرقوم تختلف من قطعة إلى أخرى رغم اشتراكها في الأصل وهو الأشكال الهندسية لكن تفرّعات الأشكال النهائية تُترجم تصوّر صانعته، فإنّ العرض طرح هذا الاختلاف من خلال توزيع موسيقي جديد لأغنية " هزي حرامك وخمريك".

انبعثت كلمات الأغنية سلسة ترافقها نغمات "الغيتار" ونقرات الطبل، ليتردّد صدى كلمات الأغنية بأسلوب غربي على شاكلة الجاز فكان المرقوم أرضية لقاء بين التراث والحداثة.

ومثلما تتدرّج مربعات المرقوم ومثلّثاته وكأنها معرّجة إلى العلياء، تعاقبت أهازيج التراث وأغنياته وتواترت اللوحات الجسدية لتحكي قصّة تراث حبلى بالمعاني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الكاف.. "أزيز أبواب الجنة" ونفحات الآلهة "فينوس"

"شورّب".. بين قسوة الواقع الاجتماعي وقسوة الدراما التلفزية