02-يوليو-2018

تروي "أوبرا عائدة" الحرب الضروس بين الواجب والعاطفة والحب والانتقام ونكران الذات والأنانية

على تخوم قصر الجم، أطبقت الشمس جفونها وانحدرت نحو مخدعها، أسدلت خصلاتها الصفراء فارتطمت على جنبات المسرح الأثري حيث أينعت زهرة الغروب. صبغت الشمس الأثير بألوانها النارية، واحمرّت خدود الكون، معلنة ميلاد لحظة جديدة، لحظة تنتفي حدود الزمن ويطلق فيها الحلم صرخته الأولى.

فيما الشموع التي تزين حيطان قصر الجم ترسل بريقًا بلون الحلم والحنين، أعلن عازفو الأوركسترا ميلاد عرض " أوبرا عايدة" في رحاب "تِيسْدْرُوسْ"

وأنت تهوم بين ثنايا قصر الجم، تشعر وكأنك في برزخ، تقف معلّقًا بين الحاضر وواقعه والماضي وحكاياته. حادت الحجارة عن صمتها، وصدحت المدرّجات بزئير الأسود في حلبة المصارعة وآهات العبيد وأسرى الحرب الممزّقة أجسادهم، وردّدت الجدران صدى تصفيق نبلاء ينتشون بالصراعات الدامية، ورفرفت العصافير بأجنحتها احتفاء بروح "الكاهنة" التي تحصّنت بقصر الجم هربًا من حسان بن النعمان.

تتضرّج الشمس بدمع أحمر، دمع سكبته أعين المصارعين والوحوش الكاسرة وحفظته فتحتان من جانبي الحلبة، وتنسحب العصافير من سماء مدينة الموسيقى الكلاسيكية، ويهل عازفون ينتمون إلى أركسترا وأصوات أوبرا تونس، والأركسترا السمفوني وكورال لوليو الترابنية الإيطالي للموسيقى والأركسترا السمفوني التونسي.

فيما الشموع التي تزين حيطان قصر الجم ترسل بريقًا بلون الحلم والحنين، أعلن عازفو الأوركسترا ميلاد عرض " أوبرا عايدة" في رحاب "تِيسْدْرُوسْ". وما أجمل أن يتردّد عزف النشيد الوطني التونسي في أرجاء القصر المحمّل بالذكريات والعبر، يليه النشيد الوطني الإيطالي، إيذانًا بأن الفن عابر للحدود.

اقرأ/ي أيضًا: "نحب البلاد".. عرض تونس الحالمة

[[{"fid":"100493","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":333,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

يشارك في عرض "أوبرا عائدة" 250 عنصرًا بين مغنيي أوبرا وعازفين وكورال

وعلى ضوء القمر الذي أطل كعاشقة خجولة من بين فتحات المسرح الأثري بالجم، حلّقت النوتات الكلاسيكية وانطلق عرض أوبرا عائدة، وهو عبارة عن تجسيد ركحي لملحمة حب يتجاذبها صوتي العقل والقلب. وأطلقت الآلات الوترية للأوركسترا العنان لرحلة مدادها الخيال وسافرت بالجمهور إلى الحضارة الفرعونية التي استلهم منها الموسيقار الإيطالي جوزيبي فيردي "أوبرا عايدة".

وهذا العمل الموسيقي الذي يتألف من 4 مشاهد أعاد تنفيذه كورال "لوليو الترابنية للموسيقى" ومسرح أوبرا تونس، بمشاركة حوالي 250 عنصرًا بين مغنيي أوبرا وعازفين وكورال يمثلون المجموعة الموسيقية الإيطالية وكذلك الأوركستر السمفوني التونسي وأوركسترا أوبرا تونس وبالي تونس.

وتروي "الأوبرا" قصّة عايدة ابنة الملك الحبشي "أموناصرو" التي أصبحت أسيرة لدى الفراعنة، وتحوّلت من سليلة ملوك إلى جارية لـ"أمنريس" ابنة الملك المصري "منفيس" وتتنافس المرأتين على قلب القائد الحربي "راداميس" الذي بادل الأسيرة الحبشية الهوى وأعرض عن النبيلة.

أوبرا عائدة، التي تروي الحرب الضروس بين الواجب والعاطفة والحب والانتقام ونكران الذات والأنانية، انحصرت فيها البصمة التونسية في مشاركة الفرقة الإيطالية العزف وتجسيد بعض اللوحات الراقصة

وكانت حلبة المصارعة في قصر الجم فضاء لتجسيد ملحمة موسيقية تراجيدية، حيث تماهت المعزوفات الكلاسيكية مع الأصوات الأوبرالية للتينور "داريو برولا" الذي تقمّص شخصية "راداميس" والسوبرانو  "ألبارولا" التي تقمصت شخصية "عايدة" وميزو سوبرانو "دانييلا دياكوفا" التي جسّدت شخصية "آمناريس" ابنة حاكم مصر فيما جسّد التينور "داريو برولا" شخصية "راداميس" وتقمّص الباص "أنريكو رينالدو" دور حاكم مصر.

والبناء المعماري للمسرح الأثري بالجم أضفى لمسة من الواقعية على عرض فرجوي صمّمت ديكوره وملابسه من قبل تونسيين وإيطاليّين، وأنبأ تسارع وتيرة آلات النفخ باندلاع فتيل الحرب بين الأحباش والفراعنة.

وكأن الأسر المادي لم يكفها لتجد عائدة نفسها أسيرة صراع عميق بين حبّها لبلدها وحبّها للقائد المصري الذي يخوض حربًا ضدّ شعبها، وتتصاعد ترنيماتها وتتضرّع إلى الآلهة في مقطع غنائي قدّ من شجن وانكسار واهتزّت له السماء.

اقرأ/ي أيضًا: فلسفة الحضرة.. الرقص والغناء طرق إلى الله

[[{"fid":"100494","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":333,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

انحصرت البصمة التونسية في عرض أوبرا عائدة في مشاركة الفرقة الإيطالية العزف وتجسيد بعض اللوحات الراقصة

الحرب انتهت بانتصار الفراعنة، ولكن النصر لم يكن سوى لعنة للقائد "راداميس" إذ أعلن الملك زواجه من ابنته "امنريس" بالمناسبة، وفي الأثناء تتصاعد ألحان مؤثّرة تقشعر لها الأبدان وتتراقص على وقعها الشرايين، وهاهو والد عائدة الذي وقع أسيرًا لدى الفراعنة يتوسّل إلى ابنته لتنتزع معلومات عسكرية من حبيبها القائد، لتوافق الفتاة وتحلّق في سماء الجم "نوتات" تترجم أحاسيس فتاة ضلت طريق حبيبها لتسلك سراط والدها.

وفي سبيل شعبها ووطنها، تتمكّن عائدة من انتزاع معلومات سريّة من حبيبها القائد المصري، ويلقى داراماس كالأسرى في معبد الإله فولكان بغرفة حالكة السواد كشعر حبيبته الحبشية، وينتظر موتًا محتومًا وسط تراتيل الكهنة، التراتيل نفسها سمعها قائدًا منتصرًا وعاشقًا منكسرًا.

في قبره المغلق، لم يكن داراماس يعلم أنّ ملائكة الموت قادمة لتزفّه إلى حبيبته عائدة التي سبقته إلى طريق الموت حيث رتّلا الحبيبان أغنية الوداع الأخير. وفيما العاشقان يودّعان الأرض ويتغنيان بالحب قيمة إنسانية في انتظار أن تفتح لهما أبواب الجنة وتغرق روحهما في سعادة أبدية، تتلو ابنة الملك صلاتها وحيدة وتخفت كل الأصوات ويتردّد صدى تصفيق الجمهور في أرجاء مسرح الجم.

و"الأوبرا" التي تروي الحرب الضروس بين الواجب والعاطفة والحب والانتقام ونكران الذات والأنانية، انحصرت فيها البصمة التونسية في مشاركة الفرقة الإيطالية العزف وتجسيد بعض اللوحات الراقصة، ولكن هذا لا ينفي كونها أسرت بالجمهور إلى عوالم أخرى عمادها التضحية والإيثار، عوالم حيث الحب زينة الحياة الدنيا، والموت مع الحبيب طريق إلى الجنة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الرسم على الماء" أو "الإيبرو".. الإقصاء القسري لفنّ عظيم

الـ"ميمز": صور تسخر من الواقع.. أنشرها ولك الأجر