14-يوليو-2018

قُتل الطالب عبد الواحد العبيدلي تحت التعذيب في جوان 1991 (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

لم يكن يوم 13 جويلية/ تموز 2018 يومًا عاديًا في تاريخ المحكمة الابتدائية بسوسة التي أحيلت عليها أول قضية لدى الدائرة الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية، وقد تعلق الملف الأول بالضحية عبد الواحد العبيدلي أصيل مدينة برقو من ولاية سليانة الذي قتل تحت التعذيب في جوان/ حزيران 1991 بسوسة وقد تضمن الملف انتهاكات القتل العمد والاختفاء القسري والإيقاف التعسفي وإلقاء القبض على شخص واحتجازه دون إذن قانوني صاحبه العنف والتهديد وتبعه الموت طبق الفصلين 250 و251 من المجلة الجزائية وإخفاء ما تثبت به الجريمة طبق الفصل 158 من المجلة الجزائية.

وتضمنت لائحة المتهمين المرفوعة من هيئة الحقيقة والكرامة في هذا الملف، الذي تعود أطواره الى سنة 1991، كل من المخلوع زين العابدين بن علي والوزيرين السابقين عبد الله القلال والصادق شعبان والمسؤولين الأمنيين عز الدين بن رمضان ومحمد علي القنزوعي ومختار بوغطاس وأحمد رزام وصالح العواني والعونين محسن بن حسن وبوبكر الهاني.

عبد الواحد بن صالح العبيدلي اعتقل لما كان طالبًا بدار المعلمين العليا بسوسة في 18 جوان/ حزيران 1991

اقرأ/ي أيضًا: قلع أظافر ورصاصة في الرأس.. عن قصة مقتل نبيل بركاتي

وورد في لائحة الاتهام موضوع التعهد، والتي تلاها رئيس الدائرة الجنائية القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بسوسة، أن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي شن في مستهل التسعينيات جملة من الملاحقات والاعتقالات ضد حركة الاتجاه الإسلامي آنذاك (حركة النهضة حاليًا) ولاحق مؤسسيها لتتسع و تشمل المنتمين والمتعاطفين في صفوف الشباب وطلبة الجامعات وخصوصًا المنخرطين في الاتحاد العام التونسي للطلبة، وقد كان الطالب عبد الواحد العبيدلي من أبرز النشطاء في "دار المعلمين العليا بسوسة "( معهد عالي) إذ تم رصده واعتقاله في المنزل الذي كان يتخفى فيه مع رفقائه الشاهدين في قضية الحال وهم خيار الدين الكيلاني وزهير المعلم ومعاوية بالواعر وتم اقتيادهم إلى منطقة الأمن الوطني بسوسة الذي كان يرأسها آنذاك صالح العواني. فيما كان أحمد رزام يشغل خطة رئيس المصلحة المختصة بها ومختار بوغطاس يرأس فرقة الإرشاد. أما كل من محسن حسن وبوبكر الهاني فكانا عوني أمن بالمنطقة المذكورة.

وأثناء الاحتفاظ بالضحية من يوم 13 جوان/ حزيران 1991 تمت عملية انتزاع الاعترافات بدعوى "الكشف عن تهريب أسلحة وقلب نظام الحكم "، وذلك باستعمال شتى أنواع التنكيل والتعذيب كالتعري والخنق والتعليق والصعق الكهربائي والمنع من شرب الماء. وقد تداول على تعذيبه كل من رئيس المنطقة ورئيس الفرقة المختصة ورئيس فرقة الإرشاد وعوني أمن.

غاب عن أولى جلسات المحاكمة في قضية العبيدلي المتهمون ولسان دفاعهم (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

وذكر قرار دائرة الاتهام أنه "أثناء عملية التداول لتعذيب الضحية بين الفرقتين المذكورتين أثناء احتجازه بزنزانته طلب منه مكافحة أحد رفقائه وهو أحد الشهود في هذه القضية. وقد عاين الشاهد آثار التعذيب على الضحية. وفي اليوم الرابع من اعتقال الضحية انهارت قواه متأوها وقد منع من الأكل والشرب إلى أن فارق الحياة".

كما تضمنت لائحة الاتهام "أنه إزاء تلك الحالة دعا مرتكبو تلك الانتهاكات إلى طمس معالم الإجرام بتدبير حيلة إطلاق النار على الجثة فتولى رئيس المنطقة آنذاك الإذن بإخراج الجثة من غرفة الاحتفاظ الانفرادية ملفوفًا في غطاء قطني (زاورة) وإلقائها بمربض السيارات خلف منطقة الأمن بحضور عدد من الإطارات الأمنية وعدد من الأمنيين وأمر بإلقاء الجثة خارجًا حسب رواية أحد الأمنيين في قضية الحال".

جنازة عبد الواحد العبيدلي تمت تحت رقابة أمنية مشددة بمدينة برقو من ولاية سليانة

وقد تم بعد ذلك إحضار سيارة مرور لتنفيذ المهمة ونقلت الجثة إلى إحدى الضيعات بسوسة وتم إطلاق النار عليه من خلف بدعوى أن موته كان إثر إصابة أثناء المطاردة.

وتبعًا لذلك ظل والد الضحية تائهًا للسؤال عن ابنه بين منطقة سوسة ووزارة الداخلية دون جدوى إلى أن بلغه نبأ وفاة ابنه بعد شهر كامل من البحث أي في 10 جويلية/ تموز 1991.

اقرأ/ي أيضًا: أحداث 8 ماي 1991.. حينما وُجه الرصاص صوب الطلبة

وجرت جنازة عبد الواحد العبيدلي تحت رقابة أمنية مشددة بمدينة برقو من ولاية سليانة. وقد عاين آنذاك والده وإخوته وبعض من أقاربه آثار التعذيب البادية على جزء من وجهه فيما تولت وزارة الداخلية إجراء بحث حول ظروف وملابسات الوفاة بالمصالح المختصة بها والتي كانت تحت إشراف المدير العام للمصالح المختصة. وقد أفضى البحث إلى أن "رصاصًا طائشًا قد أصابه حسب مكاتبة مظروفة بالملف إلى رئاسة الجمهورية وجهها آنذاك وزير العدل، كما تم فتح بحث تحقيقي لدى القضاء العسكري انتهى بالحفظ حسب مكاتبة لرئاسة الجمهورية كذلك بتاريخ 05 جانفي/ كانون الثاني 1993. وتضمّنت الإشارة إلى عدم حضور أعوان الأمن مجريات التحقيق العسكري وهم آنذاك تحت إشراف وزير الداخلية".

توفي والد الضحية عبد الواحد العبيدلي يومًا قبل انطلاق أولى جلسات محاكمة ابنه (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

ويذكر أنه تحت ضغط الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية وبعض السفارات الأجنبية ومن بينها السفارة الأمريكية استقدم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي والد الضحية لقصر قرطاج وأذن له بمنحة شهرية تقدر بـ 100 دينار حسب ما جاء في لائحة الاتهام.

وبناء على ما جاء في الملف المُحال من هيئة الحقيقة والكرامة، تتمثل التهم ضد مرتكبي الانتهاكات في القتل المسبوق بجريمة التعذيب، والتعذيب الناجم عن العنف، والاختفاء القسري، والحجز دون إذن قانوني لعدد من الأمنيين. كما تم توجيه تهمة المشاركة لعدد من المسؤولين على رأس الدولة وقيادات أمنية عليا.

وقد جرت الجلسة الأولى لهذه القضية وسط حضور إعلامي، وقد تمت تلاوة لائحة الاتهام أمام الملأ بحضور مكثف لمحامين ينوبون الضحية وعدد من النشطاء الحقوقيين التونسيين والأجانب من بينها المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب وممثلين عن قدماء الاتحاد العام التونسي للطلبة إضافة إلى أهالي الضحية، في حين غاب عن الجلسة المتهمون ولسان دفاعهم.

اقرأ/ي أيضًا: الأمل الأخير للمحاسبة.. ماذا تعرف عن قضاء العدالة الانتقالية؟

منسق لجنة الدفاع عن العبيدلي لـ"الترا تونس": عملية قتل عبد الواحد هي عملية اغتيال فظيع

وقال الطاهر يحي منسق لجنة الدفاع عن الضحية عبد الواحد العبيدلي، في تصريح لـ"الترا تونس"، " حسب تقديرنا عملية قتل عبد الواحد إنما هي عملية اغتيال فظيع من حيث التسلط على جسم ضعيف من آلة معية مترامية الأطراف وبدفع من السلطة السياسية آنذاك والتي كانت في مواجهة مع جزء من الحراك السياسي والاجتماعي في البلاد، وما تعرض له الضحية من تعذيب بجميع الوسائل خارج كافة الاتفاقيات الدولية المناهضة للتعذيب ويبدو أن إصراره على عدم تمكين السلط الأمنية على المعلومات اللازمة كان سببًا في تسليط أقسى أنواع التعذيب عليه وهذا ما لاحظه أمني كان شاهدًا على الحادثة".

وأضاف يحي أن "العائلة لم تتمكن من رؤية جثة ابنها وطلب من أحد الأطباء منح شهادة طبية تثبت الوفاة إثر حادث سير ولكن رفض الطبيب حائلًا بينهم و بين تزوير الحقائق فما كان من الجلادين إلا حمل الضحية إلى ضيعة وأطلقوا عليه الرصاص من خلف للإيهام بأنه توفي أثناء المطاردة".

وأشار إلى أن "عائلة الضحية لم تستطع استخراج مضمون وفاة ابنها أو حجة الوفاة طيلة عقود ولم تتمكن من ذلك إلا بعد الثورة باستصدار حكم قضائي".

من جهته، صرح شقيق الضحية شكري العبيدلي لـ"الترا تونس" قائلًا "أكثر من 27 سنة على مقتل شقيقي عانت العائلة الأمرين من التضييقات و المراقبة الأمنية. هجرنا بلدتنا برقو وتوجهنا إلى العاصمة تاركين أهلنا وراءنا، كان البوليس يراقب قبر شقيقنا لأشهر عديدة حتى لا يتم فتحه خشية اكتشاف آثار التعذيب، يوم الدفن كان الحضور الأمني مكثفًا وكان شرط السلطة أن لا يتم فتح الصندوق والتوجه به مباشرة نحو المقبرة وكان معتمد البلدة وممثلو حزب التجمع الدستوري الديمقراطي يفاوضوننا في ذلك".

وأضاف شكري قائلًا "في 18 أفريل/ نيسان 2018 تم استخراج الجثة للتشريح بحضور أفراد العائلة والسلط الأمنية ومنذ ذلك اليوم تدهورت صحة أبي صالح العبدلي إلى أن وافاه الأجل المحتوم يوم 12 جويلية/ تموز 2018 ونحن أتينا اليوم إلى محكمة سوسة بعد أن أقبرنا والدنا الذي تمنى أن يشهد هذه اللحظة التاريخية، نعم قبرناه يوم أمس 12 جويلية/ تموز وجئنا اليوم 13 جويلية/ تموز لأولى جلسات المحاكمة".

شقيق الضحية العبيدلي لـ"الترا تونس": قبرنا والدي أمس وجئنا اليوم لأولى جلسات محاكمة عبد الواحد

و قال "عبد الواحد أوصاني قبل أيام قليلة من اعتقاله بأبي وأمي وأنا في سن الأربعة والعشرين. وأرجو أن أكون قد لبيت وصيته".

وبعد ثلاث ساعات من المداولات والاستماع إلى عائلة الضحية، طلب لسان الدفاع ونائب الحق العام اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحجير السفر على المتهمين في انتظار حضورهم فكان لهم ذلك مع تأجيل القضية إلى 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 مع استدعاء الشهود والمتهمين. وقد صرّح النائب عن حركة النهضة سمير ديلو لـ"الترا تونس" أن "هيئة الدفاع عن المتضررين آثرت ضمان المحاكمة العادلة للمتهمين وذلك باستدعائهم بطرق قانونية ضمانًا لحضورهم والمساهمة في كشف الحقيقة".

ويذكر أنه حسب ما ورد في الفصل 7 من قانون العدالة الانتقالية تتيح إحالة الملفات على الدوائر القضائية المختصة المساءلة والمحاسبة مما يمثل ضمانًا لعدم التكرار. ويشار إلى أنه تم إحداث 13 دائرة قضائية متخصّصة في العدالة الانتقالية في كل من تونس وسوسة وصفاقس وقابس والقصرين وسيدي بوزيد وبنزرت والكاف وقفصة والقيروان ومدنين والمنستير ونابل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"قضاء التعليمات".. المتفقد العام يدعو القضاة لعدم قبول ملفات "الحقيقة والكرامة

هيئة الحقيقة والكرامة تحيل ملفين جديدين على قضاء العدالة الانتقالية