الجامعة التونسية، ومنذ تأسيسها في سنة 1958، كانت بمثابة الأرض الموعودة لمجتمع متهالك خرج لتوّه من استعمار هزّ كياناته لعقود طويلة وعطّله عن ركوب كل أسباب التقدّم، وتحولت لفضاء مُشتهى ومطوّق بأحلام الإنسان التونسي الطامح إلى ولادة نفسه من جديد وتغيير محيطه والنهوض ببلده والتحليق به نحو الأعالي.
برزت ظاهرة جديدة، آخذة في التفاقم بشكل لافت في مجتمع التعليم العالي والمجتمع التونسي عمومًا، تتمثل في "السنة البيضاء"، وهي من الأعطاب المستجدة ومن مظاهر تقهقر الجامعة التونسية
كما كانت الجامعة رهانًا أساسيًا من رهانات دولة الاستقلال، بها حققت ما حققت طيلة عقود، فكان لخرّيجي الجامعة التونسية، المكانة الرمزية في مجتمعهم وحتى خارج تونس ضمن سياسة التبادل الفني. ومع مرور السنوات، تحولت الكليات والمعاهد العليا التونسية إلى وجهة مثلى لطلبة عرب وأفارقة وحتى من دول أوروبية في مجالات بحثية دقيقة ضمن أطر التبادل البحثي والمخبري مع جامعات عريقة.
بقي أن المحافظة على تلك الصورة وتلك المكانة الرمزية والمسار الذهبي الذي حققته الجامعة التونسية بأناة، يتطلب من الجميع تفكيرًا إستراتيجيًا يسعى دومًا إلى مزيد التطوير والتجويد وذلك بالمحافظة على حياة جامعية ينمو فيها الحلم ويثمر ويزهر.
عدم ملاءمة منظومة التوجيه الجامعي لرغبات الطلبة الجدد من حاملي شهادة البكالوريا ولما يتطلبه سوق الشغل والحياة الاقتصادية، هي عوامل أدت إلى التراجع الرمزي للجامعة التونسية
لكن ما حدث أن هذا المسار المتوّج للجامعة التونسية الذي ساهم بهمة في بناء تونس الجديدة المستقلة، قد تعطّل وحدثت داخله قطائع إبستيمية عديدة، وعطالة للسير التاريخي الطبيعي لمنظومة الجامعة، ولعلّ مردّ ذلك هو غياب الرؤى السياسية والتفكير والتخطيط السليم فيما يتعلق بالإصلاحات والصيانة الدورية من جهة، ومسايرة المستجدات في العالم من جهة ثانية. ومن مظاهر تقهقر الجامعة التونسية وضرب صورتها الرمزية في الداخل والخارج، نجد أنّ ترتيبها في السنوات الأخيرة في تراجع ملحوظ ومدوٍ أحيانًا ضمن أكثر من مضمار تقييم وقياس دولي أو قاري أو إقليمي، مقارنة بما كانت عليه في عقود سابقة.
ومن الأعطاب المستجدة التي جعلها في تراجع رمزي، هو عدم ملاءمة منظومة التوجيه الجامعي لرغبات الطلبة الجدد من حاملي شهادة البكالوريا ولما يتطلبه سوق الشغل والحياة الاقتصادية. فنجد أن الاختصاصات التي تملأ دليل التوجيه الجامعي الحالي والذي لم يتغير منذ عقود، يؤدي جزء منها إلى البطالة والعطالة في علامة دالة على أن منظومة التوجيه الجامعي تتطلب تدبيرًا جديدًا.. الأمر الذي أدى إلى بروز ظاهرة جديدة وآخذة في التفاقم بشكل لافت في مجتمع التعليم العالي والمجتمع التونسي عمومًا، وتتمثل في "السنة البيضاء" وهي تسمية شعبية لما يعرف لدى تكنوقراط التربية والتعليم بالرسوب الاضطراري أو الاختياري.
الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني: أكثر من 15% من جملة الناجحين الجدد في مناظرة البكالوريا، يسيرون سنويًا في درب السنة البيضاء وسحب التسجيل
وبهذا الخصوص، تغيب الأرقام الرسمية الدقيقة كما تغيب التقييمات العلمية ونية التشخيص السليم والتطوير النافع للمجتمع، فتضيع أحلام الشباب سدى وتخسر الدولة سبيلًا من سبل الإغناء.
وقد أعلنت الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني، على لسان رئيسها أن أكثر من 15% من جملة الناجحين الجدد في مناظرة البكالوريا والذين يصل عددهم إلى 74379 (حسب المعطيات الرسمية لوزارة التربية التونسية الخاصة ببكالوريا سنة 2024) يسيرون سنويًا في درب السنة البيضاء وسحب التسجيل وعددهم بالآلاف، وهو رقم مخيف وغير ملتفت إليه، فتتشتت السبل بأبناء السنة البيضاء لكن نسبة ضئيلة منهم تعود إلى رواق الجامعة وتلتحق بالركب أما البقية فيهيمون في مسالك أخرى.
حول موضوع السنة البيضاء حاول "الترا تونس" مقاربة الظاهرة عبر هذا التقرير:
-
أبناء السنة البيضاء: التوجيه الجامعي أضر بأحلامنا وبانتظارات المجتمع
"عبد القادر" هو ابن حي شعبي بالعاصمة تونس، لم يعرف الرسوب يومًا، نال شهادة البكالوريا شعبة العلوم التقنية في صيف سنة 2024. تحدث بألم لـ"الترا تونس": "بعد زوال غمرة الأفراح العائلية وتلك المشاعر الإيجابية بعد الإعلان على النتائج، اصطدمتُ بواقع التوجيه الجامعي، حيث لم أكن أتوقع كل هذه الصعوبة في الحصول على رغبتي في اختصاص الإعلامية الصناعية، لقد فشلت في تحقيق حلمي وتم توجيهي إلى شعبة لا أحبها ولا ترضي طموحي وغروري المعرفي".
ناجح في البكالوريا لـ"الترا تونس": توخيت نهج "السنة البيضاء" حتى لا أخسر من رصيد الرسوب الجامعي، بعد أن وقع توجيهي لاختصاص لم أرغب فيه
وفسّر عبد القادر ذلك بغياب التأطير اللازم طيلة مشواره الدراسي بالإعدادي والثانوي فيما يتعلق بالتوجيه وبناء الحلم، وهو ما أدى إلى نوع من الإحباط. وأضاف أن العديد من زملائه يعانون من الإشكال نفسه، وبات البحث عن حلول متعبًا ومقلقًا للجميع. وأوضح أنه توخى نهج "السنة البيضاء" حتى لا يخسر من رصيد الرسوب الجامعي، لكنه خسر سنة من عمره وفق قوله وهو حاليًا ينتظر مناظرة إعادة التوجيه الجامعي مطلع سنة 2025 لعله ينقذ مستقبله الجامعي.
أما "ريم بلال" وهي طالبة سنة أولى من دفعة بكالوريا 2024 شعبة العلوم التجريبية، كان حلمها الحصول على اختصاص في مجالات الطب، لكنها تعثرت في التوجيه لأن "السكور" أو رصيدها الحسابي الذي يخوّل لها دخول كلية الطب، هو ما جعلها تتوقف وتقرر "سنة بيضاء" بعد أن كان نصيب توجيهها الجامعي، "الدراسات التحضيرية" بمدينة المهدية الساحلية. وهنا قالت الطالبة التونسية "ريم" إن التوجيه الجامعي لا يتسم بالمرونة وهو عملية آلية لا تراعي الرغبة الكامنة أو حلم الطالب. وأضافت أنها وبعد تأمل قررت الهجرة إلى المغرب الأقصى والتسجيل بإحدى كليات الطب هناك ثم العودة إلى تونس من أجل تنظير شهادتها وقد شجعتها العائلة على قرارها من أجل تحقيق حلمها.
طالبة جديدة لـ"الترا تونس": التوجيه الجامعي لا يتسم بالمرونة وهو عملية آلية لا تراعي الرغبة الكامنة أو حلم الطالب،وقررت الذهاب في سنة بيضاء والهجرة لدراسة الاختصاص الذي أرغب
كم نجد أن الطالب الجديد "سليم" الذي نجح في البكالوريا سنة 2024 شعبة الاقتصاد والتصرف، قد سلك درب السنة البيضاء فسحب ترسيمه بالسنة الأولى بعد أن درس لأسابيع اختصاص "مهن القضاء" وهي اختياره الخامس ضمن جدول الاختيار في بطاقة التوجيه الجامعي، إذ يقول: "كنت أرغب في اختصاص (التصرف في مجالات الرياضة) وهو حلمي منذ البداية، لكن التوجيه الجامعي دمرني".
ويضيف سليم: "لقد قررت السنة البيضاء بعد استشارة مطولة ووجدتني مضطرًا لذلك حتى أنقذ ما يجب إنقاذه، وحاليًا أستعد مرة أخرى لتوجيه جديد علّني أظفر بحلمي قبل أن يتبخر ويتبدد بسبب صلابة التوجيه الجامعي".
طالب نجح في بكالوريا 2024 لـ"الترا تونس": اضطررت للذهاب في سنة بيضاء حتى أنقذ ما يجب إنقاذه، وحاليًا أستعد مرة أخرى لتوجيه جديد قبل أن يتبدد حلمي بسبب صلابة التوجيه الجامعي
هذه العينة من الطلبة الذين تخيّروا "السنة البيضاء" تبدو مسكونة بألم ما، لكن ما زال في جرابها بقية للحلم. وقد حاولنا مقاربة هذه المشاعر وهذه الرغبات مع المختصين في التوجيه المدرسي والجامعي.
-
رئيس الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والمهني
سامي بالحبيب، مستشار عام في الإعلام والتوجيه وخبير الحياة المدرسية بوزارة التربية ورئيس الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني، أوضح لـ"الترا تونس"، أن قانون الجامعة التونسية يضمن للطالب الجديد سحب تسجيله مرتين. مرة في الشهر الأول من السنة الجامعية مع تنوع الأسباب، ومرة ثانية مع تقدم السنة الجامعية، لكن هذه المرة مع تقديم المبررات لذلك.
وأضاف سامي بالحبيب أن هناك انسحاب ثالث لا نعلم عنه شيئًا وكل هذا يدفع بآلاف الطلبة في منطقة السنة البيضاء التي تضفي إلى مناظرة إعادة التوجيه وإلى توجيه المسارات بشكل فردي نحو التعليم العالي الخاص أو التكوين المهني أو السفر إلى الخارج أو الانقطاع التام.. وهو ما شكل ظاهرة جديدة في الحياة الجامعية وفي المجتمع بشكل عام.
رئيس الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والمهني: لتجنب ظاهرة السنة البيضاء وكل أنواع الانسحاب، لا بدّ من تكريس مفهوم التربية على التوجيه في الحياة المدرسية التونسية
واعتبر سامي بالحبيب أن نماء الظاهرة يعود إلى المراحل الأولى من تعليم الطالب والمقصود بذلك المرحلة الإعدادية والثانوية التي تغيب فيها ثقافة التوجيه أو "التربية على التوجيه، وهو مفهوم جديد نحن بصدد تكريسه في وزارة التربية ومستشاري الإعلام والتوجيه يدافعون عن هذا التوجه الجديد، والجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني تنهض بهذه الفكرة وتسعى لتكريسها، والمقصود بذلك هو تدريب التلميذ على الاختيار والتحدث بصراحة عن أحلامه وذلك عبر بعض المواد والحصص الخاصة ولا يكون ذلك في القسم فقط بل في مختلف اللحظات التي يعيشها التلميذ في الحياة المدرسية مثل النوادي الثقافية.. والهدف من ذلك تعرّف التلميذ على ذاته من جهة، وعلى الشعب الجامعية وتحولات سوق الشغل وعلى معرفة إمكانياته ومهاراته من جهة ثانية".
وأكد بالحبيب أن غياب هذه الثقافة لدى التلميذ يؤدي إلى توجيه مدرسي جامعي خاطئ. وبيّن أن المنظومة الحالية للتوجيه تخضع لقواعد خوارزمية لا تتسم بالمرونة ولا تقوم بالتقييم على ملامح أخرى غير بطاقة أعداد الخاصة بمناظرة البكالوريا هو ما يؤدي إلى اخيارات لا يرغب فيها الناجح الجديد في البكالوريا، وبالتالي لا بدّ من اعتبار التقييم الكيفي والإعداد لذلك بشكل جيد عبر توفر الإطار البشري واللوجستي والاشتغال على توفير ملف مهاري للتلميذ منذ دخوله المدرسة في المرحلة الابتدائية وتكون هناك بطاقة خاصة بذلك في ملفه المدرسي، وتكون من عناصر التوجيه الجامعي في حال النجاح.
مستشار عام في الإعلام والتوجيه لـ"الترا تونس": غياب ثقافة التوجيه لدى التلميذ يؤدي إلى توجيه مدرسي جامعي خاطئ، والمنظومة الحالية للتوجيه تخضع لقواعد خوارزمية لا تتسم بالمرونة
وأوضح سامي بالحبيب أن غياب كل تلك العناصر الأساسية والضرورية في مرحلة التوجيه الجامعي -تلك المرحلة المعقدة والشائكة والمحفوفة بالنفسي والاجتماعي والثقافي- تؤدي فيما تؤدي إلى "السنة البيضاء" وهي نوع من الفشل. والملاحظ أنها آخذة في التفاقم والتمدد. كما أن سحب التسجيل الأول اتسع بشكل مخيف ولافت وطال الأمر تلامذة نجحوا بمعدلات قوية تصل إلى 15 من 20 لكنهم لم يتحصلوا على ما كانوا يحلمون ويرغبون فيه، وفي ذلك خسارة شاملة للتلميذ نفسه وللمجتمع.
-
خبير في الشأن التربوي: ظاهرة السنة البيضاء أراها إيجابية وهي تعكس وعي الطالب
الباحث في علوم التربية والخبير في الشأن التربوي والمستشار في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي خالد الشابي، أشار إلى أنّ ظاهرة "السنة البيضاء" التي يجنح إليها بعض الناجحين الجدد في البكالوريا تعكس وعيًا جديدًا لدى الطلبة لم يكن موجودًا من قبل، ويتمثل في أن الطالب قام بتقييماته الذاتية للوضع وتبيّن له أن تلك الشعبة أو ذاك الاختصاص لا يتلاءم مع طموحاته ولا ينسجم مع ملمحه، الأمر الذي دفعه للتفكير بطريقة مختلفة ومغايرة.
مستشار في الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي لـ"الترا تونس": ظاهرة "السنة البيضاء" تعكس وعيًا جديدًا لدى الطلبة لم يكن موجودًا من قبل، ويتمثل في أن الطالب قام بتقييماته الذاتية ما دفعه للتفكير بطريقة مختلفة
وأضاف خالد الشابي أن منظومة التوجيه الحالية ورغم أنها مقاربة مغلقة تقوم على سد الشغورات فحسب، فإنها تمكّن الطالب الجديد من المشاركة في مناظرة إعادة التوجيه التي تنتظم في شهر مارس/آذار من السنة الموالية لسنة النجاح في البكالوريا.
تبقي السنة البيضاء ظاهرة متفشية في الحياة التربوية التونسية، وهي تشي بضرورة التحرك في اتجاه تشخيصها والوقوف على الأسباب والبحث عن حلول عاجلة تمس أساسًا مراجعة فلسفة التوجيه الجامعي في تونس، والذهاب إلى البناء القاعدي والمتمثل في الاهتمام بالتلميذ منذ بواكيره بالمدرسة ومرافقته منذ الطفولة حتى يتمكن من اختصاص جامعي يليق بملمحه وبطموحاته وبما يريده المجتمع نفسه.