04-ديسمبر-2024
البرلمان التونسي الصلح الجزائي

صادق البرلمان أخيرًا على فصول مشروع قانون المالية لسنة 2025 وقد رافقت المصادقة عليه عدة طرائف شعبوية تحت قبة البرلمان

مقال رأي 

 

صادق البرلمان (مجلس نواب الشعب) أخيرًا على فصول مشروع قانون المالية لسنة 2025، السنة الصعبة حتى بمقياس الحكومة وأحباب الحكومة ومعارضي الرئيس، لأن المعارضون ينسون باستمرار أن هناك حكومة وراء الرئيس يمكن الاهتمام بما تفعله، ولو من حين لآخر. 

الحقيقة أنّ الكتابة في الشأن التونسي، السياسي منه خاصة، أصبح مقرفًا، وهذا يعود بالدرجة الأولى لأن الوضع لم يعد يحتمل أن يكتب حوله، فما بالك بشؤون البرلمان أو الحكومة أو الميزانية. لذلك فأنا أجد أعذارًا للمعارضين في معارضتهم التي تحولت إلى إعراض عن هذه المسائل، وكثير غيرها، حتى لو تحوّل الإعراض إلى بطالة تقنية، وقد أصبح تقريبًا كذلك.

في مشروع قانون المالية، كشفت بعض الفصول عن تحمّس بعض النواب "لانتظارات الشعب"، ولكن "عقل الدولة" تغلب في النهاية على العواطف الجياشة لأصحاب المقترحات والتي تم إسقاطها 

فيما عدا هذه الاعتبارات النفسية، فإن قانون المالية سينفذ علينا جميعًا، حتى لو كان البرلمان الذي صوّت عليه قد انتخب بـ11% من أصوات التونسيين كما تقول هيئة الانتخابات الموقرة. هذا لا يهم مطلقًا. 

الحقيقة أن في هذ القانون، وفي البرلمان الموقر (أيضًا) الذي صوّت عليه، بعض ما يسترعي انتباه حتى من أصابه القرف من الشأن العام التونسي، ويروّح به عن نفسه. من ذلك، الفصل الذي اقترحه عدد من النواب للسماح للأسر التونسية المقيمة (قضاءً وقدرًا) في تونس بتوريد سيارة معفاة من المعاليم الجمركية، ولكن هذا الفصل سقط في التصويت. أو ذلك الذي يعفي المتقاعدين من الضرائب على جراياتهم، وقد سقط أيضًا في التصويت، فالحكومة تعوّل كثيرًا على الاقتطاعات من المتقاعدين، وميزانية الدولة قد تعاني كثيرًا، على قول السيدة وزيرة المالية، لو أن هذه الاقتطاعات توقفت أو انخفضت، باعتبار أنه لا شيء ينقذ التونسي من الضرائب إلا الموت، وهذا في حد ذاته مدعاة للتفاؤل بالمستقبل. 

هذه كلها أشياء عادية، يحصل مثلها في كل البرلمانات، حتى تلك المنتخبة بأكثر من 11% من أصوات شعوبها، عندما يتحمس بعض النواب "لانتظارات الشعب"، ولكن "عقل الدولة" هو الذي يتغلب في النهاية على العواطف الجياشة لأصحاب الاقتراح. 

من الطريف أنّ "عقل الدولة" قادر على الانتصار حتى في برلمان شعبوي، تمثل الشعبوية رأس ماله الوحيد تقريبًا.. فكلما اقتربنا من مصالح الدولة وتوازناتها المالية، استعادت الشعبوية عقلها وأبدت قدرة محمودة على التفهم والفهم

الطريف أنّ ذلك العقل قادر على الانتصار حتى في برلمان شعبوي، تمثل الشعبوية رأس ماله الوحيد تقريبًا. فكلما اقتربنا من مصالح الدولة وتوازناتها المالية، استعادت الشعبوية عقلها، وأبدت قدرة محمودة على التفهم، والفهم. 

معنى ذلك أنّ الشعبويين يفهمون وقادرون على استخدام عقولهم عندما يجد الجد، وهذا أيضًا مدعاة للتفاؤل بالمستقبل. يحطم ذلك كثيرًا من الانطباعات المتسرعة عن الشعبويين. فيما يخصني، اعتقدت دومًا أنهم أذكى من كثير من منتقديهم، ولكن هذا موضوع آخر.

في مقابل الفصول التي سقطت، فإن فصولًا أخرى مرت، وقد كانت من اقتراح النواب، ولا أثر لها في مقترحات الحكومة الأصلية. من بين الفصول التي حظيت بتصويت النواب الموقرين جدًا، نجد فصلًا يتيح للإذاعات الخاصة، التجارية، تخفيضًا بـ70% من تكلفة كراء موجات البث. وهي نسبة كبيرة جدًا ستجعل الهيئة الحكومية المشرفة على توفير الترددات واستخلاص الكراءات في صعوبات جمة. لا أحد يدري كيف وصلت نقابة مالكي الإذاعات الخاصة للنواب، ومن أي باب دخلت عليهم، وكيف أقنعتهم. 

من بين الفصول المثيرة للجدل التي مرّت تحت قبة مجلس النواب، فصل اقترحه أحد النواب يتعلق بتخفيض الأداء الجمركي على المخللات، وهو اقتراح غريب في بلد ينتج الزيتون بكثرة وينتج كذلك مواد زراعية كثيرة تستعمل في صناعة هذه المخللات

مرّ فصل آخر اقترحه أحد النواب، ويتعلق بتخفيض الأداء الجمركي على المخللات، أو ما يسمى بـ"الطرشي" في تونس، وهو اقتراح غريب في بلد ينتج الزيتون بكثرة، وينتج كذلك مواد زراعية كثيرة تستعمل في صناعة هذه المخللات. 

في الأصل، كانت الضريبة على استيراد المخللات مرتفعة لحماية المُنتج التونسي، ولا يعلم أحد الحكمة اليوم، من تخفيض هذه الضريبة. يقال إنّ صاحب المقترح نائب يشتغل في هذا القطاع، في توريد المخللات تحديدًا، وإنّ زملاءه لم يفعلوا سوى التضامن معه. 

يقال أيضًا إنّ سقوط الفصل المتعلق بتوريد العائلات سيارة من الخارج متعلق بحملة قادتها مجموعة موردي السيارات في أروقة البرلمان. هذه كلها أقوال مغرضة لا دليل عليها سوى الصدفة التي جعلت صاحب مقترح المخللات موردًا كبيرًا لها، وجعلت أحد النواب يتحدث عن ضغوط كارتيل موردي السيارات في الجلسة العلنية، لذلك فهي تبقى مجرد صدفة. لا يمكن أن يكون الرئيس مقاومًا للكارتيلات، وأن يكون البرلمان متصالحًا معها ومسهلًا لأنشطتها. لذلك قلت إنّ الأمر متعلق بمجرد صدفة.

الحقيقة أن "برلمان السيد الرئيس" قد وقعت حمايته جيدًا، بحسب الخطابات الرسمية، من الكارتيلات البنكية والصناعية الكبرى، لكن كل الجهود لم تبذل من أجل غلق بعض الثغرات التي تسربت منها كارتيلات المخللات. أن تؤتى دولة من المخللات، فهذا لعمري أمر يعيبها. كان بالإمكان أن نتفهم لو تعلق الأمر بطبق رئيسي مثلًا، أما المخللات..!

زِد على ذلك أن النواب قد صفقوا عند مرور هذا المقترح في التصويت، والتصفيق هنا علامة انتصار، ما يعني أن الأمر جلل فعلًا. في الواقع فإن بعض النواب أبدوا انزعاجهم من سقوط مقترح التخفيض من الأداء فى جرايات التقاعد، وكذلك من عدم مرور مقترح السيارة العائلية المستوردة، لكنهم صمتوا على موضوع المخللات، ما يعني أنه الموضوع كبير فعلًا، وهذا دليل آخر على أن المسألة ربما تعلقت بالأمن القومي للبلاد، لكنني لا أملك في الحقيقة تأكيدًا حاسمًا على ذلك.

درة الجلسات وتاج البرلمان يبقى بلا منازع ذلك الفصل الإضافي الذي اقترحه النواب والذي قاموا من خلاله بالعفو عن أنفسهم بتأثير رجعي وتقدمي، وأسقطوا تقرير دائرة المحاسبات وعقوباتها ضد المتجاوزين منهم في علاقة بالانتخابات التشريعية والمحلية

لكن جوهرة النقاش ودرة الجلسات وتاج البرلمان يبقى بلا منازع ذلك الفصل الإضافي الذي اقترحه النواب في قانون الميزانية، والذي تم بموجبه العفو عن "الخطايا والعقوبات المالية الصادرة عن محكمة المحاسبات والمتعلقة بالانتخابات التشريعية لسنتي 2022-2023 وانتخابات المجالس المحلية والجهوية والمجلس الوطني للجهات والأقاليم لسنة 2024 والمتخلدة بذمة المترشحين في هذه الانتخابات الذين لم يتحصلوا على تمويل عمومي". نعم، هكذا. عفى النواب عن أنفسهم بتأثير رجعي وتقدمي، وأسقطوا تقرير دائرة المحاسبات وعقوباتها ضد المتجاوزين منهم، والتي لم تصدر بعد، وحتى تقرير نفس المحكمة حول انتخابات 2024 التي ما زالت المحكمة لم تنظر فيها بعد. 

وبالنسبة لمن سيقولون إنّ هذا فساد، فإن ردي عليهم هو أنه عمل تشريعي، وأن من صوت عليه هم نواب الشعب الممثلون لإرادة الشعب، بما يعني، تقريبًا، أن الشعب هو الذي صوت عليه، وأن إرادة الشعب لا ترد، وأنه يريد، حتى لو كنا لا نعرف بالضبط ما يريد. نعم هكذا أيضًا..

مخللات وعفو استباقي يلغي عمل القضاء.. هذا بالضبط بعض ما يجعل الكتابة في الشأن العام التونسي اليوم مقرفًا!

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"