طب الشيخوخة في تونس.. اعتراف مؤسساتي محدود ورحلات علاج مضنية
16 يناير 2025
"يبدو أنني غفوت أتمنى أنني لم أصدر أصواتًا ملفتة" يقول العم بشير ذو السبعين سنة ضاحكًا وهو قابع على كرسي قاعة الانتظار في أحد مكاتب الصندوق الوطني للتأمين على المرض.
ويهم بتقليب حزمة كبيرة من الأوراق بين يديه، قائلاً: هذه أوراق عيادات أطباء من كل الاختصاصات تقريبًا سأودعها لدى مصالح صندوق التأمين على المرض، لمواصلة رحلة العلاج المتعبة، فمنذ خروجي على التقاعد بدأت أعاني من أمراض ضغط الدم والسكري ثم أمراض القلب التي استدعت إجراء عملية جراحية، تلتها عملية على العين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، الآن أعاني من "الرعاش".
يعاني معظم المسنين في تونس من طول ساعات الانتظار المضنية في المستشفيات العمومية أو في العيادات الخاصة فضلاً عن متاعب رحلات العلاج والتنقل بين العيادات
بدا التعب ظاهرًا على ملامح وجهه الحزين، بعد أن تركت السنوات آثارها عليه، ويتابع بقوله: "لقد أنهكتني رحلة العلاج الطويلة، فمن طبيب إلى آخر تكدست أكياس الأدوية، وازدحم يومي في التنقل من عيادة إلى أخرى، فضلاً عن طول فترات الانتظار، أشعر بالأسف لأنني لم أحظى بأي مراعاة لسني المتقدمة سواء في تنظيم مواعيد الرعاية الطبية أو حتى خلال الفحص إذ يتم التعامل معي على أنني رجل متقدم في السن وشكّاء وكثير التذمر.
يقول محدثنا بحسرة تكشفها تنهيدته العميقة: "لا أجد من يستمع إلى تساؤلاتي ويجيب عن استفساراتي ويمنحني البعض من وقته، بل أشعر أحيانًا أنني أُعامل كشخص تجاوزه الزمن وأصبح يمثل عبئًا ثقيلاً على كل المحيطين به"، ويضيف: "أنا وغيري من المسنين نقضي ساعات طويلة ومضنية في قاعات الانتظار، سواء في المستشفيات العمومية أو في العيادات الخاصة، ولا نجد أي استثناء في المعاملة أو أي تبجيل يراعي سننا المتقدمة وعدم قدرتنا على الجلوس كثيرًا وحاجتنا إلى الرعاية والأكل المتوازن باستمرار خاصة بالنسبة لمرضى السكري".

لم تخف رحمة أيضًا معاناة "حماتها" ذات الـ77 سنة، خاصة وأنها ترافقها في رحلات علاجها لتساعدها على المشي والتنقل بين العيادات، بعد أن أفقدتها السنوات قدرتها على الخطو بثبات، وتقول رحمة لـ"الترا تونس": نحن في حاجة للحديث عن الصعوبات التي تعيشها هذه الفئة العمرية، فهم يحتاجون قطعًا إلى رعاية خاصة وإلى تأطير نفسي أيضًا، من المؤلم أن يشعر المسن بانتهاء دوره في المجتمع، وفي المقابل يطلب منه الآخرون تقبّل الأمراض التي تنهك جسده، خاصة إذا ما غاب التنسيق بين الأطباء الذين يفحصونه كل في اختصاصه وبين قائمات الأدوية التي ستلقاها في أحيان كثيرة"، حسب تعبيرها.
مواطنة لـ"الترا تونس": أتمنى لو يتوفر مركز طبي خاص بالمسنين في تونس يشمل كل الاختصاصات لتلقي مختلف الفحوصات اللازمة فضلاً عن تكفل صندوق التأمين على المرض "الكنام" بتغطية العلاج الطبي داخل المنزل
وتؤكد محدثتنا أن كثافة مواعيد الفحص الطبي والحاجة إلى التنقل بين العيادات والمستشفيات ومراكز التصوير بالأشعة والتحاليل وغيرها، يجعل مهمة الاعتناء بكبار السن صعبة جدًا، وعبرت عن أمنيتها بتوفّر مركز طبي خاص بالمسنين في تونس يشمل كل الاختصاصات كي يتوجه إليه المسنون لتلقي الفحوصات اللازمة، مضيفة أنه من المهم أن يتوفر في هذا المركز طابق أرضي لمراعاة كبار السن، وتجنيبهم مشقة السلالم والصعود والنزول خاصة إذا ما كان المصعد معطلاً.
وتتساءل في حديثها مع "الترا تونس": "حقيقة ما المانع من أن يتكفل صندوق التأمين على المرض في تونس "الكنام" بتغطية العلاج الطبي داخل المنزل أي العيادات الطبية المنزلية؟ برأي هذا حل مناسب لتجنيبهم متاعب التنقل بين عيادات الأطباء".

كما انتقدت رحمة بعض العبارات التي يكررها الكثيرون وترددت على مسامعها في عديد المستشفيات والعيادات الخاصة ومن بينها "ان شاء الله نعيشوا قدها الحاجة"، "امرأة كبيرة الرجوع لربي خليها ترتاح في الدار"، إذ تعتبر محدثتنا أن هذه العبارات مؤلمة وجارحة في حق كبار السن الذين قضوا أفضل سنوات حياتهم في بناء الدولة والمؤسسات من خلال وظائفهم وفي رعاية أسرهم وأطفالهم، وما إن يحتاجوا إلى الرعاية حتى يتم التفوه أمامهم بعبارات لا تراعي حالتهم النفسية"، حسب تقديرها.
تضيف رحمة محاولة السيطرة على دموعها: "المسنون يتألمون أساسًا بفعل عجزهم على قضاء شؤونهم اليومية والحياتية بمفردهم دون تلقي المساعدة، إضافة إلى حزنهم على شبابهم الذي لن يعود، ولكن في المقابل لا يجدون اهتمامًا بهذا الجانب النفسي وهو ما يؤكد حاجتهم إلى رعاية صحية ونفسية خاصة بهم".
متاعب كثيرة ترهق كبار السن في رحلة العلاج في تونس البلد الذي تتجه نحو التهرم السكاني في ظل ارتفاع نسبة السكان ممن تجاوزت أعمارهم الـ60 سنة لتبلغ 15% سنة 2014
تعد هذه القصص والتجارب، نماذجًا من متاعب كثيرة ترهق كبار السن في رحلة العلاج، فهذه الفئة العمرية تعتبر نفسها "مهمشة بلا برامج ومشاريع" من شأنها أن تجعل من هذه الفترة من حياتهم مريحة، خاصة وأن تونس تتجه نحو التهرم السكاني بحسب ما أعلنته ممثّلة المعهد الوطني للإحصاء عربية الفرشيشي بتاريخ الأربعاء 11 ديسمبر/كانون الأول 2024 خلال ندوة لإعلان الانطلاق في إعداد خطّة وطنية حول التماسك الأسري بمناسبة الاحتفاء باليوم الوطني للأسرة.
إذ أن التركيبة العمرية للأسر التونسية تشهد تغيرات، أبرزها انخفاض نسبة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 0 و4 سنوات من سنة 1956 إلى غاية 2014 بسبب الانخفاض في نسبة الولادات، مقابل ارتفاع نسبة السكان ممن تجاوزت أعمارهم الـ60 سنة، حيث كانت تمثل 5% سنة 1956 لتبلغ 15% سنة 2014.
وفي السياق نفسه تؤكد المختصة في طب الشيخوخة الدكتورة يسر قمرتي في تصريحها لـ"الترا تونس" أنه وعلى الرغم من وجود بعض المبادرات في تونس، مثل مراكز رعاية المسنين وبرامج الصحة العامة، إلا أنه يتعين وضع استراتيجية وطنية واضحة ومتماسكة لتلبية الاحتياجات الخاصة للمسنين، ويشمل ذلك الخدمات الصحية المتخصصة والدعم الاجتماعي المعزز والبنية التحتية المناسبة.
مختصة في طب الشيخوخة لـ"الترا تونس": الاعتراف الرسمي بطب الشيخوخة من قبل الصناديق الاجتماعية في تونس محدود حتى الآن ورغم وجود بعض المبادرات إلا أنه يتعين وضع استراتيجية تلبي الاحتياجات الخاصة للمسنين
وبينت القمرتي في حديثها مع "الترا تونس" أن الاعتراف الرسمي بطب الشيخوخة من قبل صناديق الضمان الاجتماعي في تونس محدود حتى الآن ولا يزال الاستشفاء في المنزل أو تلقي الفحوصات والعيادات المنزلية غير معترف به من طرف أنظمة التأمين رغم الحاجة المتزايدة إليه، وتضيف "نحن في حاجة إلى تعزيز سياسات السداد وتحسين تنظيم الرعاية المنزلية".

ولفتت محدثتنا إلى نقص التدريب المتخصص في طب الشيخوخة، وعدم توفر البنية التحتية للرعاية الملائمة لكبار السن، وضعف الاعتراف المؤسسي بهذا التخصص، ومحدودية الولوج إلى خدمات الرعاية المنزلية.
أما عن الحلول فترى المختصة في طب الشيخوخة الدكتورة يسر قمرتي أنها تتمثل في تدريب مزيد من المتخصصين في طب الشيخوخة، وإدماج هذا التخصص في المناهج الجامعية، وزيادة الوعي لدى صانعي القرار السياسي بأهمية ذلك، وتخصيص موارد محددة لتلبية احتياجات المسنين.
مختصة في طب الشيخوخة لـ"الترا تونس": اختصاص طب الشيخوخة لا يزال مجهولاً نسبيًا في تونس وغير معروف لدى عموم المواطنين كما أن إمكانية الولوج إليه لا تزال محدودة
وتضيف قائلة: "بشكل عام، يوصى باستشارة طبيب الشيخوخة اعتبارًا من سن 65 عامًا، خاصة إذا ظهرت أمراض مزمنة أو فقدان الاستقلالية أو مشاكل صحية معقدة. ولكن يعتمد ذلك على الاحتياجات الفردية لكل شخص".
وعن مميزات طب الشيخوخة، أبرزت الدكتورة يسر قمرتي في حديثها مع "الترا تونس" أن الطبيب العام هو أخصائي الصحة الذي يعتني بالمرضى من جميع الأعمار ويعالج مجموعة متنوعة من الأمراض، أما طبيب الشيخوخة فهو أخصائي مدرب على التعامل مع الجوانب المعقدة للشيخوخة. إذ أنه يركز على الوقاية من أمراض كبار السن وتشخيصها وعلاجها، مع مراعاة الاحتياجات البدنية والعقلية والاجتماعية الخاصة بهذه الفئة العمرية.
ونبهت من جهة أخرى إلى أن "اختصاص طب الشيخوخة لا يزال مجهولاً نسبيًا في تونس، وغير معروف لدى عموم المواطنين، إذ يستشير كبار السن بشكل رئيسي الأطباء العامين أو غيرهم من الأخصائيين على غرار أطباء القلب وأطباء الأعصاب، حسب الأمراض التي يعانون منها. ومع زيادة عدد السكان المسنين، بدأ الاعتراف بأهمية هذا التخصص، على الرغم من أن إمكانية الولوج إليه لا تزال محدودة"، على حد تعبيرها.

الكلمات المفتاحية

العمل المستقل في تونس.. حرية مهنية تواجه هشاشة قانونية وإدارية
شهدت السنوات الأخيرة في تونس توسعًا ملحوظًا في ظاهرة العمل المستقل أو ما يُعرف بـ"العمل الحر" (Freelance)، حيث اختار العديد من الشباب هذا النمط من الشغل بحثًا عن حرية مهنية واستقلال مادي خارج أطر الوظيفة التقليدية، إلا أن هذا التوجّه المستجد يثير إشكالات متعددة تتعلق بوضعية هؤلاء داخل المنظومة القانونية والإدارية والاجتماعية الوطنية

سرديات تُضيء مهنة النادل في تونس
في آلاف المقاهي المنتشرة على طول البلاد التونسية، هناك شريحة مهنية لا يُستهان بها تضم آلاف الندل.. ثمة شخصيات وهبتها الحياة ما لم توهبها المدارس، استثنائية وألمعية بحضورها الطاغي أثناء أدائها لعملها

الكفيف في تونس.. مسيرة مضنية بين عزلة رقمية وفجوة معرفية
"الترا تونس" نقل من خلال التقرير التالي تجارب تلاميذ وطلبة من ذوي الإعاقة البصرية في مسيرة التحصيل الدراسي

طقس تونس.. غيوم جزئية مع أمطار في عدد من المناطق
معهد الرصد الجوي: درجات الحرارة القصوى تتراوح بين 21 و25 درجة بالشمال والوسط، وتصل إلى 30 درجة في بقية المناطق

التمديد للهيئة التسييرية للنادي الرياضي الصفاقسي لثلاثة أشهر
انعقد مساء السبت 15 نوفمبر 2025، اجتماع اللجنة العليا للدعم بالنادي الرياضي الصفاقسي، بمركب الفريق، بحضور رئيسها سفيان لوعزيز، ونائبيه عماد المسدي وعبد الرحمان الفندري، إلى جانب عدد من الأعضاء ورؤساء سابقين وممثلي هيكل السوسيوس والهيئة التسييرية

احتجاجات شط السلام بقابس.. الأهالي يواجهون تسربات المجمع والغاز المسيل للدموع
شهدت منطقة شطّ السلام بولاية قابس، مساء السبت 15 نوفمبر 2025، احتجاجات ليلية للمواطنين على تسربات الغاز الملوّث الصادرة عن المجمع الكيميائي، وهو ما أدى إلى تدخل أمني استخدم فيه الغاز المسيل للدموع بشكل مكثف، ما أسفر عن حالات اختناق واعتقالات في صفوف المتظاهرين، وفق ما أكده رئيس فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بقابس، أحمد شلبي لـ"الترا تونس"

نائب في البرلمان: "المناخ العام لم يعد آمنًا والشعب يشعر بأنه في حالة سراح مؤقت"
شدّد النائب في البرلمان التونسي مليك كمون، يوم السبت 15 نوفمبر 2025، خلال جلسة عامة عُقدت السبت للنظر في ميزانية وزارة العدل، على أنّ "أخطر ما يهدد الدولة اليوم هو فقدان المواطن ثقته في المنظومة القضائية وقدرة مؤسساتها على ضمان محاكمة عادلة وشفافة دون وساطات أو ضغوط". وقال في مداخلته: "الخطر اليوم هو أزمة الثقة بين المواطن وقدرة الدولة على ضمان محاكمة عادلة وشفافة"، وفق تعبيره

