ضحايا التلوث في الرديف.. معاناة عمّقها غياب العدالة الصحية
18 مارس 2025
"بعد سنوات من العلاج، أخبرتني الطبيبة المباشرة لحالة ابني أنّ الحل الوحيد لاستقرار وضعه الصحي هو جمع أمتعتنا ومغادرة مدينة الرديف والاستقرار في مكان آخر غير ملوث"، بهذه الكلمات تحدث عبد الباسط بن حميدة مع "الترا تونس" عن معاناته وعائلته من التلوث الناجم عن إنتاج الفسفاط.
ووفق بن حميدة، فإنّ ابنه معيد البالغ من العمر 16 عامًا يعاني منذ سنوات من حساسية الغبار الناجم عن استخراج مادة الفسفاط والربو، وأنّ الحل الوحيد لاستقرار وضعه الصحي هو مغادرة المدينة التي يُحاوطها شبح التلوث مثلها مثل بقية مدن الحوض المنجمي.
يجد متساكنو الرديف والمناطق المتاخمة للحوض المنجمي أنفسهم عرضةً لمختلف الأمراض الخطرة والمزمنة بسبب التلوث الناجم عن إنتاج الفسفاط
وعلى الرغم من أنّ عائلة بن حميدة تدرك جيدًا أنّ شفاء ابنها واستقرار وضعه الصحي مرتبط بمغادرته لمسقط رأسه، غير أنها غير قادرة على مغادرة مدينة الرديف بأي حال من الأحوال باعتبار أنّ ظروفها لا تسمح لها بذلك.
الحق في العلاج.. تكاليف باهظة وغياب المرافق الصحية
وعن تكاليف العلاج، يقول عبد الباسط بن حميدة إنّه كافح على امتداد سنوات طويلة لمجابهة مصاريف باهظة لعلاج ابنه وإجراء التحاليل التي لا تنتهي، مؤكدًا أنّ عملية العلاج كانت صعبة في ظلّ نقص المستشفيات ومراكز التحليل وأطباء الاختصاص بمدينة الرديف.
وبحسب بن حميدة فإنه يضطر للتنقل إلى مدينة قفصة بشكل دوريّ لعلاج ابنه، مؤكدًا أنه يتكبد مشقة التنقل مع طفل مريض وعبء المصاريف وانتظار نتائج التحاليل لأيام باعتبار أنه يتم إرسال العينات إلى مستشفيات صفاقس أو تونس العاصمة، في ظل نقص مخابر التحاليل بالولاية، وهو ما دفعه لاحقًا إلى اتخاذ قرار بتوقيف العلاج عن ابنه.
وعن هذا القرار، يقول بن حميدة إنه اتخذه مجبرًا لا مخيّرًا بسبب ارتفاع تكاليف العلاج والتنقل ووفاة الطبيبة التي كانت تتابع الحالة الصحية لابنه، مؤكدًا أنه أصبح يكتفي بشراء أدوية تخفف عن ابنه من الصيدلية.
ويتساءل بن حميدة عن سبب ضعف القطاع الصحي في ولاية قفصة عمومًا ومدينة الرديف خصوصًا والتي يعاني سكانها من أضرار صحية بالغة جراء التلوث وتدهور الوضع البيئي.
وفي 2020 تقدم بن حميدة بقضية ضد شركة فسفاط قفصة لتعويض ابنه عن الضرر الصحي الذي لحق به نتيجة التلوث، لكن هذه الدعوى ظلت لسنوات بين قاعات المحاكم قبل أن تحكم فيها المحكمة بعدم سماع الدعوى.

العدالة القضائية غائبة أيضًا
وبالتعاون مع منظمة "محامون بلا حدود"، رفع فرع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالحوض المنجمي عديد القضايا لتعويض مواطنين من الحوض المنجمي عن الأضرار الصحية أو الأضرار التي لحقت بممتلكاتهم وأراضيهم الزراعية.
ومن بين قضايا الضرر الصحي هي قضية الطفل معيد بن حميدة، أصيل مدينة الرديّف، التي تم رفعها سنة 2020 ضدّ شركة فسفاط قفصة وتم تعزيز الملف بتقرير الطب الشرعي الذي أكد أن الطفل يعاني من الربو وأنّ وضعه الصحي سيتعكر أكثر إذا واصل العيش في نفس المدينة وأنّ مرضه له علاقة مباشرة بالنشاط المنجمي، وفق ما أكده منسق فرع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رابح بن عثمان لـ"الترا تونس".
ناشط حقوقي لـ"الترا تونس": القضايا المرفوعة ضد شركة فسفاط قفصة خصوصًا المتعلقة بالضرر الصحي تبقى في رفوف المحاكم لمدة قد تتجاوز الـ 5 سنوات
ووفق بن عثمان، فقد تم الحكم بعدم سماع الدعوى في قضية الطفل معيد رغم أن تقرير الطب الشرعي أثبت وجود علاقة واضحة بين مرض الطفل والتلوث الصادر من المجمع الكيميائي، مشيرًا إلى "وجود حسابات أخرى لا تراعي مصلحة المواطن المتضرر وإنما تراعي مصلحة شركة فسفاط قفصة".
وأكد أن القضايا المرفوعة ضد شركة فسفاط قفصة خصوصًا المتعلقة بالضرر الصحي أو استنزاف المائدة المائية تبقى في رفوف المحاكم لمدة قد تتجاوز الـ 5 سنوات، في المقابل يتم النظر في قضايا تضرر المحاصيل الزراعية بطريقة أسرع.
رابح بن عثمان: لا وجود لخارطة صحية واضحة
وحول تشكيات المواطنين في مدينة الرديف من غياب العدالة الصحية، أكد بن عثمان أنّ النشاط المنجمي دائمًا ما يكون له تداعيات بيئية وصحية خطيرة، مؤكدًا أنّ سكان مدن الحوض المنجمي يستنشقون هواءً ملوثًا ناجمًا عن استخراج الفسفاط.
وأضاف بن عثمان في حديثه مع "الترا تونس"، أنّ انتشار غبار الفسفاط يؤثر على الجهاز التنفسي للسكان ويسبب انتشار الأمراض التنفسية مثل الربو والحساسية إضافة إلى الأمراض السرطانية، وهي أمراض تنتشر بين سكان الحوض المنجمي.
كما أكد بن عثمان أنّه كان من المفترض أن تقوم شركة فسفاط قفصة أو أي مؤسسة تمارس ذات النشاط بوضع خارطة صحية وإنشاء مستشفيات ومراكز طبية تكون قادرة على استقبال ومعالجة المرضى، مذكرًا في الإطار ذاته، بأنّ المستشفى الجهوي الوحيد الذي يوجد في قفصة يعاني من نقص كبير في التجهيزات الطبية وأطباء الاختصاص.
ناشط حقوقي لـ"الترا تونس": العدالة الصحية غائبة عن مدن الحوض المنجمي ولم يتمّ وضع خارطة صحية منذ سنوات وهو ما زاد من معاناة السكان
وأوضح أنّ العدالة الصحية غائبة عن مدن الحوض المنجمي ولم يتمّ وضع خارطة صحية منذ سنوات وهو ما زاد من معاناة السكان وصعّب إمكانية حصولهم على حقهم في الولوج إلى الصحة والعلاج، واصفًا الخارطة الصحية في قفصة بـ "المنخرمة".

وقال بن عثمان، إنّ سكان ولاية قفصة يضطرون للتنقل إلى ولايات الساحل أو صفاقس أو تونس العاصمة للعلاج، مؤكدًا أنهم يتكبدون عناء التنقل في أسطول نقل مهترئ إلى الولايات الأخرى والمستشفيات البعيدة للولوج إلى الصحة.
ووفق رابح بن عثمان، فإن جميع مراحل إنتاج الفسفاط التي تبدأ من التفجير إلى النقل ثم الغسيل والتخلص من الفضلات، لا يتم فيها احترام المعايير البيئية، مؤكدًا أنّ "شركة فسفاط قفصة قامت باعتداءات صارخة على البيئة".
وسبق أن دقّ المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ناقوس الخطر في علاقة بالوضع الصحي بمدينة الرديف، حيث أكد أنّ القطاع الصحي هناك يشكو من عديد النقائص منذ سنوات عديدة.
وأشار المنتدى إلى أنّ المستشفى المحلي أصبح مجرد بناية استقبال للمرضى وأشبه بمركز "إنصات وتوجيه" بسبب افتقاده لكل الاختصاصات الطبية باستثناء قسم التوليد الذي تشرف عليه طبيبة أجنبية.
ناشط مدني: الأمراض والتلوث عاملان يفتكان بسكان الرديّف
من جهته، يصف رئيس الجمعية التونسية للعدالة البيئية والصحية بالرديّف سمير مصباح، الوضع الصحي بمدينة الرديف بـ"الكارثي"، مؤكدًا انتشار عديد الأمراض في مدن الحوض المنجمي بسبب التلوث مثل الربو الذي لم يكن منتشرًا في السابق.
وأضاف مصباح في حديث مع "الترا تونس"، أنّ سكان الحوض المنجمي يعانون من انتشار الأمراض الخبيثة الناجمة عن الإشعاعات والأتربة المتبقية من مخلفات إنتاج الفسفاط، إضافة إلى انتشار مرض الليشمانيا بسبب غياب محطة تطهير، وتصريف مياه الصرف الصحي في الطبيعة.
وقال رئيس الجمعية التونسية للعدالة البيئية والصحية بالرديّف، إنّ نسبة ربط مدينة الرديّف بشبكات الصرف الصحي لم تتجاوز 40% في حين تكاد تكون شبه غائبة في بقية مدن الحوض المنجمي.
وأكد أنّ ضعف الربط بشبكات التطهير وتكدّس المياه الراكدة ساهما في انتشار الحشرات السامة التي تسببت في انتشار مرض الليشمانيا في صفوف سكان مدينة الرديف خصوصًا، إضافة إلى وجود مراكز إنتاج الفسفاط داخل مناطق العمران.
ناشط مدني لـ"الترا تونس: انتشار أمراض خبيثة ناجمة عن الإشعاعات ومخلفات إنتاج الفسفاط في الحوض المنجمي، ومرض الليشمانيا الناتج عن غياب محطة تطهير
ووفق مصباح، فإنّ كل تلك التجاوزات تسببت في غرق مدينة الرديّف في التلوث وهو ما أثر على الوضع الصحي للسكان وتسبب لهم في أمراض عديدة مثل الربو والأمراض الخبيثة والأمراض الجلدية، مقابل نقص الولوج للعدالة الصحية.

ويؤكد مصباح أنّ المستشفى المحلي بالرديف يعاني من نقص كبير في الأجهزة الطبية اللازمة وفي أطباء الاختصاص، مؤكدًا وجود طبيب جراح وحيد وطبيبة توليد فقط، إضافة إلى نقص الأدوية وفقدان أدوية الأمراض المزمنة في مرات عديدة.
كما أشار محدث "الترا تونس" إلى غياب مركز لتصفية الدم في مدينة الرديف رغم وجود موافقة مبدئية بإحداثه، مؤكدًا أنّ مرضى القصور الكلوي بالمدينة يضطرون للتنقل إلى مدينة المتلوي من أجل العلاج.
وقال، في ذات السياق، إنه تم سنة 2014 إنجاز قسم للأطفال في المستشفى الجهوي بالرديف غير أنه لم يقدم إلى اليوم أي خدمات للأطفال ولا يزال مغلقًا ويتم استعماله في مجال آخر، داعيًا إلى ضرورة تحسين الوضع الصحي بالرديف وبكل مدن الحوض المنجمي الذي فتكت الأمراض والتلوث بسكانها وأطفالها وبيئتها.
دراسة: النشاط المنجمي أثر على صحة المواطنين
وجاء في دراسة بعنوان "مستقبل التنمية بالحوض المنجمي بعد أو بدون فسفاط"، أنّ تأثير النشاط المنجمي على الصحة العامة بالجهة تجاوز العاملين به إلى عائلاتهم ومدنهم بشكل كامل.
وأشارت الدراسة إلى أنّ تقنية تثرية الفسفاط بالتهوية التي كانت تستعمل منذ ثلاثينات القرن الماضي وإلى حدود أواخر الثمانينات قد حولت مدن الحوض المنجمي الى مدن الغبار بامتياز، حيث تنبعث من وحدات الإنتاج مئات الأطنان من الغبار الداكن يوميًا الذي يتساقط على المنازل ويتركز بالهواء.
ويتسبب تلوث الهواء في جعل سكان المدن المنجمية الأكثر عرضة للأمراض الصدرية والحساسية وغيرها من الأمراض المرتبطة بتلوث نوعية الهواء. وجاء في الدراسة أنّ السكان يعانون من انتشار عديد الأمراض مثل أمراض السيليكوز وأمراض الكلى والمجاري البولية وتساقط الأسنان واصفرارها، بسبب تركيز مادتي الكربونات والفليور بهذه المياه المعدة للشرب والاستعمال اليومي لسكان المدن المنجمية.
الكلمات المفتاحية

التلوث يجتاح خليج المنستير والثروة السمكية في خطر
ممثل عن منتدى الحقوق لـ"الترا تونس": نتمسك بعقد مجلس وزاري خاص بخليج المنستير لأن له سلطة القرار المالي الذي بمقتضاه يوفّر الاعتمادات من ميزانية الدولة أو عبر قروض وتوزيعها لإنقاذ ما تبقى من خليج المنستير من منظومات بيئية ومنظومات إنتاج

الإعلان عن نتائج البكالوريا في تونس.. من الصحف الورقية إلى الإرساليات الإلكترونية
يوم الإعلان عن نتائج البكالوريا في تونس، يعتبر يومًا مقدسًا واستثنائيًا في حياة المترشحين، ولئن تعددت طرق ووسائل الإعلان عنها عبر الزمن، تبقى لحظة التصريح بنتائج "الباك" سابحة في هيبتها وسطوتها النفسية

"الهوية الممزّقة".. تجارب أمهات تونسيات في تربية أبنائهن بالمهجر
الباحث في علم الاجتماع ماهر الزغلامي يسلّط الضوء في حديثه مع "الترا تونس" على ظاهرة "الهوية الممزقة" التي يعاني منها أبناء المهاجرين العرب والمسلمين

وزارة المالية تدعو المعنيّين بدفع الضريبة على الثروة العقارية إلى تسوية وضعيتهم
وزارة المالية التونسية تدعو الأشخاص الخاضعين للضريبة على الثروة العقارية إلى تسوية وضعيتهم قبل موفّى شهر جوان 2025..

ملف قيس سعيّد القادم تحت عنوان "الثورة الإدارية"
"الالتقاء بين إرساء حكم فردي رئاسوي انتهى إلى موازين قوى تفرض على الإدارة العودة إلى بيت الطاعة السياسي. الغربلة تتم ببطء لكن بوضوح، البقاء والارتقاء مرتبط بالانخراط في مشروع الرئيس"

حريق في زغوان والحماية المدنية تكشف التفاصيل لـ"الترا تونس"
نشب ظهر الاثنين 23 جوان/يونيو 2025، حريق بمنطقة جرادو من معتمدية الزريبة التابعة لولاية زغوان، في حدود الساعة 13:32، أتى على نحو 5 هكتارات

لقاء الترجي وتشيلسي.. الكنزاري يعلّق على غياب البلايلي ويصف المباراة بـ"التاريخية"
لقاء حاسم يوم الأربعاء 25 جوان 2025 بين الترجي التونسي وتشيلسي الإنجليزي للتعرّف على المتأهل إلى الدور الثاني من منافسات كأس العالم للأندية 2025