22-نوفمبر-2020

صناعة العود مهدّدة بالاندثار في تونس (رجاء غرسة/ألترا تونس)

من كان يخمّن أن أحد شوارع العاصمة الأكثر اكتظاظًا بالضوضاء والصخب، يحتوي مكانًا مختلفًا وهادئًا إلا من صوت أوتار العود أو صوت قصّ حفيف للخشب، هي ورشة فيصل الطويهري لصناعة الآلات الموسيقية الوترية وخاصة العود، أُطلق عليها البعض "دار العود العربي".

عُلّقت في الواجهة آلات العود بوجهها المزخرف وقفاها اللامع البراق، أما صوتها، فهي رحلة يحملنا إليها العازفون لدى تجربة آلاتهم في الورشة، صوت يخاطب الوجدان قبل أن تسمعه الآذان حتى كادت الأوتار تنطق بكلمات الأغاني.

ينكبّ الرجل الخمسيني، صانع الآلات الموسيقية والمدرّس والمدرّب بالمعهد العالي للموسيقى، في ورشته بالعاصمة تونس، للقيام بتجاربه وبحوثه لصناعة آلات العود التي يسمع صوتها قبل الانتهاء منها.

زار "الترا تونس" صانع العود للتعرف على مسيرته في هذه الصناعة ولسبر أغوار هذه الصنعة في رحلة لجوء مؤقتة من ضوضاء المدينة.

اقرأ/ي أيضًا: رضا الجندوبي.. صانع عود يبعث الروح في الخشب

أسرار صناعة العود

كانت بدايات فيصل الطويهري هاوٍ للآلات الموسيقية، دفعته رغبته في تعلم العزف على آلة الكمان في سن الثالثة عشر من العمر سنة 1981 إلى العمل على صناعة آلته الخاصة به، حاله كحال التلاميذ التونسيين في عمره الذين كانوا يقضون العطل الصيفية في تعلّم حرفة. وكانت صناعة الآلات الموسيقية هي الحرفة التي تلقاها الطويهري في عطلته قبل أن يختارها مهنة له ويطور مهاراته ويتوسّع في المجال بالتدريب والدراسة. تعرف محدّثنا على صناعة كل الآلات قبل أن يعود إلى صناعة الآلات الموسيقية بتونس ليختصّ في صناعة آلة العود.

فيصل الطويهري: لا تقتصر المعرفة لصناعة العود على تركيب القطع بل يجب أيضًا التمكن من بعض العلوم منها علم الصوتيات وعلم الفيزياء

طوال الفترة التي قضّاها في هذه الحرفة، يتحدّث الطويهري عن عدة دروس مستخلصة من بينها التمكن من العلوم، فلا المعرفة لصناعة العود على بتركيب القطع بل يجب أيضًا أن تتدعّم المعرفة ببعض العلوم منها علم الصوتيات، وعلم الفيزياء، وكيفية تكوّن الصوت وخاصّيته ليتمكّن الصانع من التحكم في آلته ومعرفة الجزئيات المهمة التي سيعمل بها، وفق قوله.

إلى جانب الصناعة الجيدة، لابدّ أيضًا من اكتساب الخبرة لمعرفة الأخشاب المُستخدمة وخاصة كيفية قصّها وكيفية تأثيرها على الآلة الموسيقية، "الصانع الذي لا يحذق قصّ الأخشاب بالطريقة العلمية والجيّدة لا يتمكّن من صنع آلة جيدة"، يؤكد فيصل الطويهري. ويواصل أن الآلات الموسيقية وخاصة العود أو الكمان ليست صناعة تركيب أخشاب وإنما هي صناعة معرفة وإحساس وتمكّن من الصناعة.

يمثّل التكامل إلى درجة كبيرة، وفق محدثنا، هو الفضاء المشترك بين صانع العود وعازفه. يوضّح أن العازف هو الذي يمتحن نقاط قوّة الآلة أو ضعفها، وهو ينصح الصانع، في هذه الحالة، بالاشتغال أكثر وتحسين بعض الجزئيات، فيما يحدّد الصانع، حسب خبرته، مدار تدخّله لتحسين جودة آلته.

 

 

"كل صانع عود هو عازف"، يقول فيصل الطويهري موضحًا أن العزف يمكّن الصانع من الوقوف على الجزئيات المطلوبة في آلته والنقاط الحساسة فيها لكي يستجيب لها، مبينًا أنه ليس بالضرورة أن يكون عازفًا ماهرًا، رغم أن هذه الصناعة لا تترك مجالًا للعزف بدرجة كبيرة لأنها دائمًا تتجدد وتطوّر.

اقرأ/ي أيضًا: "ابن الأرض" لمحمد الغربي.. حينما يُبعث الإنسان من رحم الكمنجة

ويواصل أن الصانع يعرف الصوت الذي سيصدر عن الآلة وهو بصدد الاشتغال عليها بفضل الخبرة، ممّا يمكّنه من الاستجابة لطلبات العازف فيما يتعلق بخاصية الصوت في الآلة، وذلك باختيار تركيبة الأخشاب الملائمة لهذا الصوت إذا ما كان حادًا أو ثريًا على سبيل المثال.

الخبرة أيضًا في اعتماد حسابات دقيقة تجعل من الطويهري يحقق حوالي 80 في المائة من طلبات حرفائه من العازفين، وهذا يعتبر مرضي جدًا، وفق تأكيده. فيما يُعتبر خشب البلسندر وخشب الأرابل من أحسن الأنواع في هذه الصناعة، وهي أخشاب ليست موجودة في تونس ويضطرّ الحرفيّون لدفع عدّة معاليم لاستيرادها.

مراحل صناعة العود

في الركن الداخلي من الورشة، رُصّفت الأخشاب، وعلى الطاولة في الوسط عود غير مكتمل، وهناك تحت آلة الثقب زخرفة توحي بالفن المعماري الإسلامي، هو قالب بيضاوي الشكل شبيه بنصف إجاصة ثُبّت عليه شريط رقيق من الخشب.

عن مراحل صناعة العود ،حدّثنا الطويهري عن رحلة تنطلق باختيار الأخشاب وقصّها بعناية وخبرة ومعرفة ميزاتها، ثم تجفيفها، مشيرًا الى أنه يتم الاشتغال في الغالب بأخشاب جافة، وتليها مرحلة تركيب الصندوق الصوتي فتجفيفه، ثم تنظيفه وصقله وطباعته.

في الأثناء، يتم صناعة اليد والبنجق والوجه وتركيبها جميعًا، ثم تركيب الوجه بصناعة شمسياته وتجهيز الفتحات التي تخضع أيضًا لحسابات دقيقة حسب نوعية الصوت المطلوب والانتظارات منها. ولاحقًا يتم تركيب الوجه على "القصعة"، ثم عملية التنظيف والتّزيين الذي يحمي العود من الكدمات ويضفي عليه جمالية. 

ثم يتم تركيب الملمس، وتبدأ عملية التشطيب من صقل وتركيب "فرسة" العود، وتتلوها مرحلة الدّهان التي تستغرق وقتًا أيضًا من تجهيز وتلميع، وثم مرحلة تركيب "الملاوي" وبعدها تركيب الأوتار قبل المرور إلى مرحلة التجربة التي تحدّد جاهزية العود للتسليم.

صناعة مميّزة لكن مهدّدة بالاندثار

يبيّن صانع العود أن نصف إنتاج الورشة، التي انطلق نشاطها منذ عام 1995، موجّه إلى طلبات خارجية مبينًا "مازال الطلب على العود ممتاز جدًا، ويوجد عازفون ممتازون في تونس" ملاحظًا أنه كغيره من القطاعات تأثر بجائحة كورونا وتحديدًا بركود نشاط الموسيقيين.

فيصل الطويهري: الاشتغال على العود المشرقي على الطريقة التونسية أعطى نتائج جيّدة جدًا

وقال إن العود الذي جُلب إلى تونس ازدهر وحافظ على النسخة الأصلية لصوت العود العربي إلى جانب العود الشرقي. ويختلف العود العربي عن الشرقي بأنه يستجيب للطبوع أو المقامات التونسية مثل "النوى" أو "المحيّر" أو غيرها، مؤكدًا الطويهري أن الاشتغال على العود المشرقي على الطريقة التونسية أعطى نتائج جيّدة جدًا.

في جانب آخر، يؤكد محدثنا أن صناعة العود في تونس اليوم مهدّدة بالاندثار، وذلك أمام قلة اليد العاملة وعدم اهتمام الدولة بالتكوين في هذا القطاع. وأفاد أنه ينشط في تونس 5 حرفيون في هذه الصناعة وهم متقدّمون في السنّ، وليس هناك إقبال على تعلّم هذه الصناعة.

كما تحدث أن قلة المواد الأولية وشحّها كبّد الصّانعين مصاريف وأداءات باهظة، مؤكدًا أنه رغم اندراجها ضمن الصناعات التقليدية، لا يوجد تشجيع على جلب الأخشاب المكلفة لصناعة الآلات الموسيقية وخاصة العود.

ويشير الطويهري، في ختام حديثه لـ"ألترا تونس"، إلى الاعتقاد الخاطئ أن العود المستورد هو الأحسن، والحال يتم تصدير العود التونسي إلى الخارج، مؤكدًا أن العود المحلي، بشهادة المشارقة والغربيين، يتميّز روح خاصة تؤدي كل الأدوار، وفق تعبيره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سمر بن عمارة.. العازفة التي أنّثت "الزُكرة"

"تراتيل" العشق.. رحلة "إسرافيل" في عوالم "الديدجيريدو"