06-سبتمبر-2020

امتد تصوير الفيلم الوثائقي عشرية كاملة رصدًا لحياة 3 شبان في حي "فتح الله"

 

يوجد حي "فتح الله" بمدينة جبل الجلود، التي تشكلت في النصف الثاني من القرن العشرين قرب المناطق الصناعية الغربية للعاصمة تونس، وتشقها القطارات البطيئة والمتهالكة التي تدخل محطة النهاية بساحة برشلونة قادمة من مختلف المدن البعيدة. وباتت تُعرف جبل الجلود بمدينة الشهيد شكري بلعيد لأنه بها نشأ وحلم بتغيير واقع الوطن، ولكنّ رحل بلعيد وبقيت جبل الجلود مدينة مشرّعة على الهامش والحنين والأمل.

قضت المخرجة وداد الزغلامي عشرية كاملة من 2007 إلى 2017 في حي "فتح الله" في جبل الجلود إعدادًا لفيلمها الوثائقي

حي "فتح الله" لا فرق بينه وبين أحياء عديدة أخرى منتشرة بضواحي تونس مثل الملاسين أو التّضامن أو حي النّور أو سيدي حسين أو حي السّلامة أو الجبل الأحمر أو بوستيل، هي أحزمة سكنية تحدّها أساسًا الآفاق الغربية للبلد، تنام مؤبّدة في حمرة آجرها وضاجّة بالحياة والأحلام ككل الأحياء التي تتشكّل عنوة على حدود المدن الكبرى. إنها أحياء صانعة لديناميكية تونس الكبرى وإيقاعاتها المختلفة عكس ما تذهب إليه التصنيفات السوسيولوجية الكلاسيكية التي تطلق عليها جزافًا كليشيه مفرغًا ورتيبًا مثل "أحزمة العنف".

اقرأ/ي أيضًا: "فتح الله تي في".. ساعة الحقيقة بتوقيت جبل الجلود

يبدو "فتح الله" منصهرًا في خاصرة جبل الجلود كأنه وجهها القديم المتجدد على الدوام، حيث تذبل الأحلام على الأرصفة والمنعطفات والأزقة لتينع من جديد على وقع دوائر "الشيخة" و"اللعبة"، وهي كلها تسميات لمخدّرات خفيفة تسري في الحي بطرق ووسائل مختلفة بعيدًا عن الأعين المتلصّصة للبوليس.

هذه الجغرافيا الصغيرة سحرت كاميرا السينمائية التونسية وداد الزغلامي سحرًا خاصًا حيث جذبها عالم "فتح الله" بجبل الجلود فدخلت ولم تخرج، سكنتها الأحياء والأزقة والقصص وقهقهات الشباب وأساليبهم في التهكم على السلطة وقسوة الحياة. عشرية بأكملها (من 2007 إلى 2017) قضتها كاميرا الزغلامي باندهاش متابعة الحياة اليومية لعدد من شباب الحي.

يبدو "فتح الله" منصهرًا في خاصرة جبل الجلود كأنه وجهها القديم المتجدد على الدوام

 

وداد الزغلامي مولودة سنة 1985 ببلجيكا لأم بلجيكية وأب تونسي إيطالي، نشأت ودرست السينما ببلجيكا قبل أن تعود إلى تونس صائفة 2007 لتتعرف على مجموعة من شباب صناع موسيقى الراب فقررت متابعتهم في أحيائهم في جبل الجلود وإنجاز شريط وثائقي حولهم. لكن ومع بداية التصوير، تغير كل شيء ليصبح الشريط مصبوغًا بالسياسة وتعرية الوضع الاجتماعي السيء لجيل بأكمله تعرض للتهميش و"الحقرة" بل لوطن بأسره، فتحوّلت مهمة المخرجة إلى كشّاف للأوضاع السيئة التي يعيشها التونسيون في ظل النظام النوفمبري.

"تيقا بلاكنا" و"بازمان" و"حليم اليوسفي"، ثلاثي شريط " فتح الله تي في 10 سنوات وثورة لاحقًا" تعلقت همتهم بالموسيقى والفن من أجل التعبير عن أوضاعهم بل من أجل تغيير أوضاعهم. كانت الموسيقى سارية أمل يستندون إليها وملاذهم من أتون اليومي القاسي بجبل الجلود. مثلت موسيقى الريغي والرّاب التي تنجز بأدوات تقنية بسيطة وفي غرف فوق الأسطح وتكتب كلماتها في المقاهي الشعبية وأثناء الجلسات الخمرية التي تنتظم بالملعب الرياضي بجبل الجلود، المجال الأقرب للتعبير عن واقعهم الذي تفوح منه روائح الفقر والبطالة وانكسارات أحلام الشباب.

كانت كاميرا المخرجة وداد الزغلامي متفانية في التقاط زخارف الهامش في "فتح الله"

 

كانت كاميرا المخرجة وداد الزغلامي متفانية في التقاط زخارف الهامش في "فتح الله" وحي ثامر بجبل الجلود، والاسترسال في نضده فوتوغرافيًا، لتبدو الأزقة والأنهج والبيوت والأسطح في أوج الإثارة السينمائية بل تتحول عبر الكثير من اللقطات إلى دلالات سوسيولوجية بعيدًا عن الشكلانيات التي تتطلبها السينما الوثائقية التي يحشر فيها العمل.

"فتح الله تي في" لم يتكلف قط أي نوع من الاستعارات السينمائية، بل كانت كاميراه متناغمة ومتماهية مع أحاديث الشباب المستجوبين. كانت كلمات شباب جبل الجلود مغمّسة في الشعرية والصدقية مما أضفى على الشريط جماليات غير معهودة، يقولون همومهم وأحزانهم وانتصاراتهم وتعلقهم بالأمل بعفوية وإيجابية نادرة، لقد بدوا منتصرين وعاليي الهمة رغم كل شيء.

خاض شريط "فتح الله تي في" في السياسة بشجاعة تصريحًا وتلميحًا سواء زمن الدكتاتورية أو زمن الحرية بعد الثورة

اقرأ/ي أيضًا: "سوبيتاكس".. فيلم هامش الإدمان والبذاءة في مواجهة مركز أشدّ بذاءة

كما لم يغب عن الشريط حضور الأغاني والموسيقى والعزف، لقد كانت عصبه الحيوي وسلاح مقاومة جيل بأكمله. هو قدر ساهم في تغيير حال هذه المجموعة من الشباب حينما جعلتهم الموسيقى يحلمون بالسفر والنحت في صخرة المصير رغم تقصير الوطن. كما كانت الموسيقى رسالة عاتية لبقية شباب تونس من أجل الحلم ومن أجل تغيير الحال، إنهم يلعبون بالكلمات على صفيح من موسيقى وسياسة وأشياء أخرى.

شريط "فتح الله تي في" خاض في السياسة بشجاعة تصريحًا وتلميحًا سواء زمن الدكتاتورية أو زمن الحرية بعد الثورة، حيث كانت التصريحات جريئة ومحرّكة للسيرورة التاريخية للشريط. رتّقت كاميرا وداد الزغلامي اللحظتين السياسيتين بانسيابية كتابة الرواية لتخلص إلى أنّ حال جبل الجلود كنموذج عن باقي المناطق الشعبية بقي كما هو لم يتغير: نفس المشاهد، ونفس المآسي الاجتماعية بل تفاقم إلى الإمعان في "الحرقة" والاتجار بالمخدرات. كما كان أثر السياسة منعكسًا على ملامح أبناء جبل الجلود، فبين الأخاديد على الوجوه وفي النظرات التائهة والحالمة تلمح إهمال الدولة لأبنائها.

لم يغب عن الشريط حضور الأغاني والموسيقى والعزف

 

في الشريط طاقة إيحائية يمكن لمسها بعيون القلب عندما نرى نجاحات الشباب الذين اقتفت آثارهم كاميرا وداد الزغلامي طيلة عشر سنوات، فهذا حليم اليوسفي يسافر إلى بلجيكا بعد زواجه من مخرجة الشريط ويخوض بأوروبا تجارب إنسانية وفنية هامة أسهمت في نضجه الموسيقىّ والفني ليعود إلى تونس ويبعث فرقة موسيقية سمّاها "قول تره"، وهي تلقى هذه الأيام رواجًا كبيرًا لدى الشباب على اعتبار أنها تقدم موسيقى بديلة وأغان لم تتعود عليها الأذن التونسية من قبل لقدرتها على التقاط الواقع كما هو دون تزييف أو تحوير وإعادة تقديمه موسيقيًا.

ختامًا، يمكن القول إن "فتح الله تي في" هو شريط ملحمي التقط الحياة اليومية لضاحية شعبية من ضواحي العاصمة فأضاء عتمتها ومسح من على جبينها أتربة الزمن بجماليات بسيطة تاركًا للمتلقى البحث عن الحقيقة التي يشتهى من ذاك الكمّ الهائل من الحقائق الاجتماعية والسياسية والثقافية الملقاة على قارعة الطريق.

مخرجة الفيلم الوثائقي وداد الزغلامي (رمزي العياري/ألترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف تناولت الدراما التونسية الأمراض النفسية؟

المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر.. عندما تنتصر إرادة الشعب للذاكرة الثقافية