مقال رأي
قد تمجد السينما التونسية نفسها بأنها سليلة أفق فكري يقوم على وعي شديد بالحرية وقضايا الإنسان أينما كان فيما يشبه الضرورة الكيانية المقدسة التي ظلت تتصاعد وتتموج مأصلة نفسها صعدًا مع التاريخ الثقافي التونسي والعربي.
هذا الأفق هو سينما المؤلف الذي يعتبرها وطنه الأبدي، حيث يواجه القبح الاجتماعي والسياسي بأدوات جمالية آسرة نابتة في أرض التفكير الحر والتفلسف المستقل، بعيدًا عن الكتابة للسينما لأغراض تجارية أو إيديولوجية أو الاعتماد على الكتابات الروائية الجاهزة والمكتوبة مسبقًا والتي تتم معالجتها فنيًا لتصبح صالحة للتنفيذ السينمائي.
من خلال سينما المؤلف تتم مواجهة القبح الاجتماعي والسياسي بأدوات جمالية آسرة نابتة في أرض التفكير الحر والتفلسف المستقل، بعيدًا عن الكتابة لأغراض تجارية أو إيديولوجية أو الاعتماد على الكتابات الروائية الجاهزة والمكتوبة مسبقًا
فسينما المؤلف روح لينة، حرّة وطليقة تخرج من عقل وفؤاد المخرج السينمائي لتنحت مشروعها الفكري والجمالي عبر الكتابة بالكاميرا والصورة وتقدمه للمتلقّي دعمًا لإنسانيته وإبهاجًا لذوقه.
لم يكن ذلك بالأمر الهيّن والسهل في تونس بل كان ثمة جملة من العناصر التاريخية التي أسهمت في إرساء هذا التوجه الفكري داخل قطاع السينما في تونس، ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عاش العالم على إيقاع سرديات استقلال الشعوب التي واجهت الاستعمار الغربي لعقود قاسية.
كما عرف هذا العالم المتجدد ثورة طلابية في فرنسا سنة 1968 ألهمت الشباب في كل مكان بما في ذلك تونس. الأمر الذي حدا بالنخبة التونسية المثقفة لإرساء سينما جديدة مرفوعة على صدى تلك التغيرات العالمية فانبرى الطاهر شريعة ومجموعة أخرى من الشباب إلى توسيع جغرافيا الجامعة التونسية لنوادي السينما التي تأسست سنة 1948، نظرًا للدور الهام الذي تقوم به هذه النوادي في نشر الوعي وفي مواجهة النقيض "السينما التجارية" المنجذبة لرأس المال انجذابًا عضويًا.
لم تكن الموجة الأولى من السينمائيين التونسيين تعتقد كثيرًا في سينما المؤلف وكانت تدافع عن النص الذي يكتبه كاتب أو روائي ضمن التوجهات الكلاسيكية والثوابت الأولى لنشأة السينما، وترى أنّ المخرج السينمائي ليس من مهامه التدخل بعمق في النص
ومن هذه المناخات والسياقات العالمية لمعت فكرة تأسيس "أيام قرطاج السينمائية" سنة 1966 لتكون صديقة للريح والكلمات وتعلي من الأغنيات في المدى فيطرب الإنسان. كان هذا المهرجان ورشة للتفكير والتدبير الجمالي وكان المؤسس الطاهر شريعة وزمرة من أبناء النوادي يقود هذا التأسيس الثقافي بروح بحار خبر أعالي البحار فلا يهزه الموج ولا تلينه الأمطار، وفي الأثناء كانت رياح السياسة في صالحهم فوزراء الثقافة أثناء فترة بناء دولة الاستقلال كانوا على وعي بما يحدث وكانوا منسجمين مع أفكار الشباب فيما تعلق بالسينما.
الجامعة التونسية لنوادي السينما وأيام قرطاج السينمائية، فتحتا نقاشًا لم يغلق إلى اليوم بخصوص سينما المؤلف، فكان الرواد في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات يناقشون بوعي شديد أعمال السينمائيين الفرنسيين الذين جربوا سينما المؤلف وذهبوا بها بعيدًا مثل أفلام جون لوك كدوار وفراسوا تريفو وجاك ريفيت.
لم تكن الموجة الأولى من السينمائيين التونسيين تعتقد كثيرًا في سينما المؤلف وكانت تدافع عن النص الذي يكتبه كاتب أو روائي ضمن التوجهات الكلاسيكية والثوابت الأولى لنشأة السينما، وترى أنّ المخرج السينمائي ليس من مهامه التدخل بعمق في النص ودوره هو ترجمة الفكرة المتفق حولها بالكاميرا ضمن تمشٍّ جمالي ودرامي مختار ومن هؤلاء نذكر مخرجين مثل عمار الخليفي والناصر الكتاري وإبراهيم باباي.
الموجة الثانية من السينمائيين التونسيين التي ضمت عبد اللطيف بن عمار والنوري بوزيد والفاضل الجزيري أرست سينما المؤلف في تونس وهو ما أثمر أعمالًا فنية على نحو مختلف وغير معهود وحصدت الجوائز الكبرى في المهرجانات السينمائية الشهيرة
لكنها موجةٌ منفتحة وغير متشددة فمهدت الطريق للموجة الثانية التي أرست سينما المؤلف في تونس، إرساءً ليس بعده عود. ومن أسماء هذه الموجة نذكر عبد اللطيف بن عمار والنوري بوزيد والفاضل الجزيري ومحمود بن محمود ومفيدة التلاتلي والطيب الوحيشي والناصر خمير، وذلك رغم اختلاف توجهاتهم الإيديولوجية والسياسية واختياراتهم الجمالية والفلسفية.
وأثمر ذلك أعمالًا فنية على نحو مختلف وغير معهود خلقت دوائر من الجدل الثقافي المطلوب، وحصدت الجوائز الكبرى في التظاهرات والمهرجانات السينمائية الشهيرة ضمن هالات من التنويه والإعجاب.
وما انفكت الصحافة السينمائية في العالم تشيد بأيام قرطاج السينمائية كمرجعية فكرية ملهمة لهؤلاء المتوجين، معتبرةً إياها أرضًا للسينما الجادة والحرة والمدافعة عن القضايا الإنسانية بأدوات سينما المؤلف.
كما سنح هذا المناخ داخل أيام قرطاج السينمائية إلى استقبال تجارب عربية تهتم بسينما المؤلف فكانت تونس منصة لرواجهم ورواج إنتاجهم وأفكارهم، ومن هؤلاء المخرجين نذكر المصريين يوسف شاهين وداوود عبد السيد وعاطف الطيب، والجزائريين محمد الأخضر حامينا ومرزاق علواش، الأمر الذي خلق تيارًا سينمائيًا عربيًا يشتغل على سينما المؤلف.
وكثيرًا ما طرحت الأسئلة الثقافية والفكرية حول سينما المؤلف للنقاش في المنتديات واللقاءات مع الكتاب وصناع السينما من مخرجين وممثلين ومنتجين وموزعين التونسيين والعرب والأفارقة، وخاصة التساؤلات المتعلقة بجانب الإنتاج بالمردود الاقتصادي للفيلم السينمائي الذي ينحى الجدة والتفكير والتثوير أو "الفيلم الكشاف" حول القضايا المحلية والعالمية.
حتى الموجات السينمائية التي تلت حقب التأسيس واصلت الانتماء لعقيدة سينما المؤلف، واعتبرتها وصية وتيمة لا بد من التشبث بها.. بل ويُعتقد أن هوية السينما التونسية تتجسد أساسًا في فلسفة سينما المؤلف التي تعبر عن المجتمع وتترجم آماله
لكن يبدو أنّ سينما المؤلف سمقت ولا تعرف الانحناء وإنّما هي في اتجاء سماء التاريخ والحقيقة والخلود. وحتى الموجات السينمائية التي تلت حقب التأسيس واصلت الانتماء لعقيدة سينما المؤلف، وهي تعتبر ذلك وصية وتيمة لا بد من التشبث بها.. بل ويُعتقد أن هوية السينما التونسية تتجسد أساسًا في فلسفة سينما المؤلف التي تعبر عن المجتمع وتترجم آماله وتسند أحلامه في العدم والحرية، في النجاة والموت معًا، في استواء بين الحضور والغياب، في روح واحدة قلبها الزمان ووجهها الخلود المضيء.
سينما المؤلف في تونس باتت الخيط الناظم بين كل الموجات والحقب رغم تغير مضامين الأفلام وزوايا الطرح وارتباطها بالتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية في تونس وخارجها. وهي نتاج لما أرسته الجامعة التونسية من وعي نقدي لدى النخب المتخرجة منها. وهي امتداد لفكرة نوادي السينما التي راجت في النصف الأول من القرن العشرين.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"