10-مارس-2020

عديدة هي النكت التي تجتاح مواقع التواصل الاجتماعي في علاقة بوباء كورونا (Chung Sung-Jun/Getty)

 

"كثر الهّم يضحّك"، مثل شعبي تونسي يعبّر عن كيفيّة تحوّل الألم والوجع والمشاكل إلى ضحك إذا تفاقمت وكثرت عند أي شخص، وهذا ما ينطبق ما نعيشه هذه الأيام بسبب "الكورونا".

عديدة هي النكت التي تجتاح مواقع التواصل الاجتماعي في علاقة بوباء "كورونا" الذي أصبح حديث العالم، إذ أضحى جميع سكّان هذا الكوكب الأزرق مذعورين بسبب سرعة انتشاره وما يسبّبه من وفيات. لكنّ حديث التونسي عن هذا الفيروس يختلف عمّا يتداوله جلّ سكان هذا العالم ممّا أفقده وقعه المرعب عند شريحة كبيرة من التونسيين.

صابرين الجلاصي (باحثة في علم الاجتماع) لـ"ألترا تونس": انتشار النكات هو نتاج لتحولات مجتمعية جعلت القيم الاجتماعية تتراجع ويخف تأثيرها الموجّه للسلوك الفردي

اقرأ/ي أيضًا: من أبطالها السبسي والغنوشي والشاهد.. الأزمة الاقتصادية في النكت التونسية

ولكنّ هذه الموجة من النكات وأساليب التندّر ليست بجديدة عن المجتمع التونسي، فهو لم يترك كارثة أو أزمة أو مشكلة إلّا وجعلها محلّ تهكّم واستهزاء. فلا سلم منه الإرهاب ولا مشاكل الأحزاب ولا الأوضاع الاقتصاديّة المتردية وحتى يومي المواطن المتردّي.

فلا يمرّ يوم أو حادث في البلاد إلّا ويتدفّق سيل من التعليقات والصور والفيديوهات المفبركة الساخرة التي تتفّه المشكل. فهل أضحى التونسي لا يتفاعل مع الأحداث إلّا بروح ساخرة؟ ولماذا كلّ هذه اللامبالاة مع كلّ مصيبة؟ وكيف يفسّر علم الاجتماع هذه الظاهرة الغريبة؟ أسئلة يجيب عنها "ألترا تونس" في هذا التقرير.

نسج النكات شكل من أشكال التضامن بين أفراد المجتمع

السخرية من الأزمات هي سمة رئيسيّة عند رواد مواقع التواصل الاجتماعي أملًا فى تخفيف ضغوطاتها النفسية والعصبية، وهو ما يعبّر عنه في علم الاجتماع بـ"سوسيولوجيا النكتة"، باعتبارها مرآة تعكس واقع مجتمع غارق في الأزمات والمشاكل، وهو ما فسّره الفيلسوف الفرنسي "هنري برجسون" بـ"محاولة لقهر القهر".

وفي هذا السياق، تؤكّد الباحثة في علم الاجتماع صابرين الجلاصي لـ"ألترا تونس" أنّ النكت متنفس نقدي ساخر لواقع اجتماعي متأزم، مبينة أنها تخفي الجانب الخفي للواقع والذي يتسم بمرحلة التراكم التي تؤدي إمّا للانفجار من أجل تغيير هذا الواقع أو لعدم اللامبالاة حتى بقضايا الوطن، وكنتاج لهذا ضعف للهوية الوطنية، على حدّ تعبيرها.

سامي نصر (باحث في علم الاجتماع) لـ"ألترا تونس": النكت هي "سلاح الصامتين" في الثقافة الإنسانية لأنها وسيلة من وسائل التعبير الاجتماعي

وأوضحت أن انتشار النكات هو نتاج لتحولات مجتمعية جعلت القيم الاجتماعية تتراجع ويخف تأثيرها الموجّه للسلوك الفردي، مضيفة "لأننا اليوم بتنا نتحدّث عن العصبيّة الافتراضيّة وهي نتاج لتطور المنظومة الاجتماعية الجديدة تكون فيها وسائل التواصل الاجتماعية أحد أهم مرتكزاتها بل أنها تمضي لتشكيل حضارة ثقافية جديدة لها مفرداتها ولغتها ورموزها".

النكت هي "سلاح الصامتين" في الثقافة الإنسانية لأنها وسيلة من وسائل التعبير الاجتماعي، بل هي عادة تكون وسيلة للنقد أو تقويم أو تعبير عن رفض ممارسات معيّنة. وهي من هذا المنطلق شكل من الأشكال التعبيرية الجديدة، لأنها تخلّص الفرد من الخوف وتعدّ متنفس للضغط الذي تمارسه السلطة عليه في ظل ما يعيشه من أزمات على المستوى الأمني والاجتماعي والسياسي. كما أنها وسيلة للمقاومة وتسعى لخلق توازن رمزي لدى الأفراد والجماعة، حسب ما تفسّر محدّثتنا، التي تشير إلى أنّ هذا الاستهزاء وقت الأزمات يعتبر من أهم أشكال المقاومة الثقافية في مجتمع يعاني من الاحتقان والضغط بكل أشكاله.

وتقول صابرين الجلاصي إنّ التندّر عبر مواقع التواصل الاجتماعي يعتبر شكلًا من أشكال التضامن بين الأفراد ووسيلة تفاعل وتقريب وجهات النظر بين الأفراد، مبينة أن النكات تحاكي الأزمات وتعتبر وسيلة للدفاع مضادّة ضدّ السلطة والنماذج المجتمعية السائدة لصالح الفرد والجماعة.

اقرأ/ي أيضًا: النكت الدينية.. جرأة نقدية أم تطاول على المقدسات؟

ظاهرة التندّر شكل من أشكال التطبيع مع الأزمات

وفي نفس السياق، يؤكد الباحث في علم الاجتماع سامي نصر لـ"ألترا تونس" أنّ هذه الظاهرة ليست جديدة وأنّ المناطق التي تكثر فيها الأزمات هي أكثر المناطق التي بها نكت شعبية، مضيفًا أن في تونس تتمركز أساسًا في الجريد والكاف نظرًا لقساوة المناخ والتهميش والنظرة الدونية مما جعلت هذه النكت تلقى رواجًا.

ويضيف أنّ النكت والأمثال كانت في ما مضى إعلامًا بديلًا وتطورت عبر فيسبوك لكنّها حافظت على نفس دور الأساسي. وقسّم سمير نصر تفشي النكت الشعبية أو التندر في فترة الأزمات إلى ظاهرة طبيعية وأخرى خطيرة، موضحًا أنه يمكن اعتبارها وسيلة دفاعيّة يواجه بها المجتمع أزماته ويتحدّى بها مشاكله اليوميّة ويقاوم بها مرارة ما يعيشه.

سامي نصر لـ"ألترا تونس": التونسي يعيش حالة تخضرم بين الفوبيا من كل ما هو خطير وما يحوله لوضع تهكم وضحك

ويبيّن الباحث في علم الاجتماع أنّ التونسي يعيش حالة تخضرم بين الفوبيا من كل ما هو خطير وما يحوله لوضع تهكم وضحك وهذا يعتبر الجانب الخطير من هذه المسألة، على حدّ قوله.

ويضيف "في هذه الفترة تفاقمت، هذه الظاهرة أكثر من المعتاد ممّا يجعلنا نتحدّث عن تطبيع مع الأزمات التي لم نعد نعطها حجمها الحقيقي. وتحوّل التندّر إلى شكل من أشكال التطبيع مع الأزمات والظروف الصعبة التي يعيشها التونسي ممّا يفقدها خطورتها"، حسب تعبيره.

ونوّه محدّثنا إلى إمكانية أن تكون هناك عمليات ممنهجة خاصّة في ما يتعلّق بالجانب السياسي مما يجعل المتلقّي لا يفكّر ولا يقاوم ولا حتّى يعالج، مبرزًا أنه من هنا تنقص نسبة الاحتجاج ممّا يجعل موجة التندّر تقلّص نسبة الاحتجاج وتمتصّ حدّة الاحتقان الاجتماعي.

"إذا رأيت الناس تكثر الكلام المضحك وقت الكوارث فاعلم أن الفقر قد أقبع عليهم وهم قوم بهم غفلة واستعباد ومهانة كمن يساق للموت وهو مخمور"، هكذا قالها العلامة ابن خلدون وكأنّه تنبّأ بزمان تصبح فيه أوجاع الناس ومآسيهم والمخاطر التي قد تترصّدهم مادّة للضحك ونسج النكات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف تفاعل التونسيون مع فيروس كورونا؟.. قراءة سوسيولوجية ونفسية

الأكلة المدرسية في تونس.. برتقال متعفّن ومعلّم يحتج