26-مايو-2023
رمل

تعدّ تونس من البلدان التي تملك ثروات هامة من الرمل لكنها مهددة بسبب سوء الاستغلال (Getty)

 

الرمل كما الغابة والبحر هو شقيق آخر للإنسان في رحلته الدّؤوب الشائكة والرائعة عبر قرون طويلة من الحضارة وما يربض في أغوارها من قوة وضعف وحرب وسلم، تأتي كلّها في مواجهة العدم ونشدانًا للخلود، فحضور الرمل كان ملهمًا لدروب الحياة بل كان راية من رايات الحياة وعلامة من علامات حسن العيش ونقاء الحضور في اتجاه الأبدية. ولعلّ المتاحف في شتى بقاع العالم تقدّم البلوّر المستخرج من مادة الرمل كأجود منجز بشري طيلة القرون الماضية، بل وتقدّمه كشاهد وكراوٍ موقّع لرحلة البقاء الشاقة.

كما كان الرمل من المواد الأولى التي أخضعها الإنسان للبيع والمبادلات التجارية بعد اكتشافه السريع لأهميتها في الاستعمالات الحياتية اليومية كالبناء والفلاحة وخصوصًا صناعات الزجاج.

تعدّ تونس من البلدان التي تملك ثروات هامة من الرمل المميز الذي ساهم في بناء التاريخ الحضري المحلّي وجانب من الحضارة الأوروبية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط

 وتونس تعدّ من البلدان التي تملك ثروات هامة من الرمل المميز الذي ساهم في بناء التاريخ الحضري المحلّي وجانب من الحضارة الأوروبية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، وذلك على مر عهود طويلة وخصوصًا العهد الروماني حيث كانت مملكة نوميديا تبيعهم الرمل والرخام والحجارة. وقد اكتشفت أهمية مادة الرمل في تونس منذ الحضارة القبصية جنوب غرب البلاد وأيضًا مع الاستقرار الحضري في العهود النوميدية بالساحل التونسي وبأقصى الشمال الغربي مع الحدود الجزائرية. 

كما بينت البحوث والحفريات الأثرية العلمية التي أشرف عليها باحثون جامعيون بالمعهد الوطني للتراث التابع لوزارة الثقافة التونسية أن مادة الرمل تم توظيفها في البناء والتشييد وخصوصًا الحجارة الرملية والجيرية الطيّعة التي شيّد بها التونسيون الأوائل رباطاتهم وتحصيناتهم ودور العبادة والمنازل والحمامات والقصور والأسواق وأسوار مدنهم.

 

صورة
تحول الرمل إلى ثروة بديلة يضاهي الطلب عليها أو يفوق في بعض الأحيان مادة البترول (Getty)

 

وبهذا الخصوص، أوضح الدكتور أمير بن صالح الأستاذ بكلية العلوم الاقتصادية والتصرف بسوسة وهو مختص في التجارة العالمية والعقود بين الشركات الدولية، أن "الرمل التونسي هو من الرمال المطلوبة بالأسواق العالمية وأن هناك شركات تونسية وأجنبية تقوم بتصديرها عبر الموانئ التونسية وأن النصيب الأوفر منها يذهب أساسًا إلى الأسواق الأوروبية وتحديدًا إلى الأسواق الإيطالية والفرنسية وهي أسواق تقليدية بالنسبة للتجارة التونسية بشكل عام"، مرجعًا ذلك إلى القرب الجغرافي والعلاقات الاستعمارية القديمة. 

واعتبر بن صالح، في تصريح لـ"الترا تونس"، أن ما وصفها بـ"العقود الاحتكارية التي تحوزها الشركات الأوروبية هي في غالب الأحيان لا تعود بالنفع والفائدة على الدولة والمجتمع لأنها مصبوغة بالعلاقات السياسية التي تجمع تونس بمستثمري  الدول الأجنبية"، حسب تقديره.    

الدكتور أمين بن صالح (مختص في التجارة الدولية): الرمل التونسي هو من الرمال المطلوبة بالأسواق العالمية وهناك شركات تونسية وأجنبية تقوم بتصديرها النصيب الأوفر منها يذهب أساسًا إلى الأسواق الأوروبية وخاصة الإيطالية والفرنسية

ومن جهته، تحدث الأستاذ عبد الجليل التيمومي المهندس المختص في مجال الجيولوجيا عن الطبيعة بالبلاد التونسية التي تتميّز بتنوّع جيولوجي نادر، فهي تجمع البحر بالصحراء والجبال بالسهول والغابات المطيرة بالسباسب القاحلة، مضيفًا أن هذه الطبيعة كانت على مرّ العصور محل مطامع المغيرين والمحتلين والغزاة.

 

 

وبيّن التيمومي، في حديث مع "الترا تونس"، أن الرمل التونسي هو واحد من الثروات الهامّة التي نهبها الاستعمار الفرنسي لعقود طويلة ومن بعده الشركات الفرنسية والإيطالية المستثمرة في هذا المجال، مشيرًا إلى أن الرمل هو كثروات الملح والنفط والغاز والفسفاط والخشب وزيت الزيتون، يحاط  بكثير من الغموض والريبة وعدم الوضوح على مستوى الأرقام والمعطيات والمؤشرات التي تقدمها الجهات الرسمية التونسية، وهو ما يدعمه مهندسون فلاحيون وأساتذة في الجيويلوجيا والبيئة ونشطاء بالمجتمع المدني المختص في مجال متابعة وضع الثروات الطبيعية التونسية والذين طالبوا في أكثر من مرة الدولة التونسية عن طريق وزارة الطاقة بمراجعة القوانين المنظمة لاستغلال هذه الثروات وطرق وآليات الاستثمار فيها ومراجعة العقود القديمة التي يعود بعضها إلى أزمنة الاستعمار الفرنسي لتونس.     

الأستاذ عبد الجليل التيمومي (مختص في الجيولوجيا):  الرمل التونسي هو واحد من الثروات الهامّة التي نهبها الاستعمار الفرنسي لعقود طويلة ومن بعده الشركات الفرنسية والإيطالية المستثمرة في هذا المجال

وأوضح المهندس الجيولوجي أن "في العقود الأخيرة ومع تزايد استعمال البلور في الحياة اليومية للإنسان، وأيضًا مع تطور التكنولوجيات الخاصة بتكرير الرمل وصناعات البلور، فإنه ثمة طلب متزايد من البلدان المتقدمة يشبه النهم على مادة الرمل، فتحوّل بذلك الرمل إلى ثروة بديلة يضاهي الطلب عليها أو يفوق في بعض الأحيان مادة البترول، وفق قوله.

 

صورة
تعدّ تونس من البلدان التي تملك ثروات هامة من الرمل (Getty)

 

وأشار المهندس عبد الجليل التيمومي إلى أنه ومع اكتشاف رمل الكوارتز الذي يستعمل في العديد من المجالات الصناعية والتقنية والطبيّة الدقيقة مثل تطويعه لإستخراج مادة السيليكون وتصنيع اللاقطات الشمسية (الخلايا الفولتوضوئية) والألياف البصرية ومرايا اللوحات الإلكترونية، تحولت هذه المادة إلى ثروة حقيقية يمكن أن تدر على الدول التي تملكها الخير الكثير، مبينًا أن تونس لم تهتم بعد بموضوع رمالها وهو ما أدى إلى سوء استغلالها وربما هناك فساد إن دققنا جيدًا في الأمر، حسب تصوره.

عبد الجليل التيمومي: مع اكتشاف أهمية رمل الكوارتز تحولت هذه المادة إلى ثروة حقيقية يمكن أن تدر على الدول التي تملكها الخير الكثير لكن تونس لم تهتم بعد بموضوع رمالها وهو ما أدى إلى سوء استغلالها

كما تحدث الدكتور أمير بن صالح عن العقود المبرمة بين الدولة التونسية والشركات التونسية والأجنبية، مشيرًا إلى أنها لا تضمن في جوهرها القانوني حقوق الشعب التونسي، وفق تقديره.

وأضاف أنّ أكثر من نصف الكميات الجملية المستخرجة من المقاطع التونسية للرمل تصدّر خامًا عبر ميناء مدينة سوسة والذي يعتبر المنفذ البحري الوحيد لرمل تونس في اتجاه العالم حتى أن أغلب أنشطة الميناء ترتكز على تصدير هذه المادة الطبيعية التي يبلغ سعر الطن الواحد منها حوالي 60 دينارًا وهي تسعيرة لا ترقى لمستوى بيوعات الرمل في العالم وخصوصًا الأنواع الجيدة منه. 

 

 

كما أشار بن صالح إلى أنه في ظل الانفلات السياسي والإداري والقانوني الذي عمّ البلاد في السنوات الأخيرة أسندت الدولة التونسية تراخيص "عشوائية " لمستثمرين في مجال مقاطع الرمل ورمل الكوارتز لعل أهمها "مقطع برج حفيظ" بولاية نابل. 

وطالب الأستاذ بن صالح الدولة التونسية بأن تكون شفافة في موضوع الرمل وأن لا تفرط في هذه الثروة الوطنية وأن تسن قوانين جديدة تنظم العقود والاستغلال واقترح أن نقلص من التصدير الخام للرمل مقابل تطوير الصناعات التحويلية المتعلقة به وهو ما يفسح المجال نحو تقليص البطالة وتنمية مدخول تونس من العملة الصعبة.

الدكتور أمين بن صالح: في ظل الانفلات السياسي والإداري والقانوني الذي عمّ البلاد في السنوات الأخيرة أسندت الدولة التونسية تراخيص "عشوائية " لمستثمرين في مجال مقاطع الرمل ورمل الكوارتز

وفيما يتعلق بانعكاسات أنشطة مقاطع الرمل على البيئة في تونس، بيّن الجيولوجي عبد الجليل التيمومي أن بعض المقاطع الجديدة بولاية نابل دمّرت النسيج الغابي للمنطقة واعتدت على المجال الفلاحي فلوّثته واقتلعت جرافات المقطع آلاف الزياتين العتيقة.

وأشار محدثنا إلى أن سكان وأهالي المنطقة المحيطين بهذه المقاطع قد تظلموا مما يحدث  لغاباتهم وفلاحتهم، لكن لا أحد استمع إليهم بما في ذلك المستثمرين أنفسهم. 

وأشار الدكتور بن صالح إلى أن قانون المالية لسنة 2023 سلط ضريبة جديدة على تجارة الرمل في تونس قدرها 100 دينار على الطن الواحد وهو ما أثار حفيظة المستثميرن التونسيين والأجانب على حد سواء، وهددوا بالتوقف عن النشاط مطالبين الدولة التونسية بالعدول عن هذه الضريبة التي اعتبروها مجحفة، معتبرًا ذلك مناورة من قبلهم حتى يتواصل استغلال ثروة الرمل من دون منفعة تذكر للتونسيين. 

وأضاف أنه حان الوقت الآن لإحداث "الديوان الوطني للرمل" حتى يشرف على العقود وإسناد الرخص والمراقبة والمتابعة واقتراح تعديل القوانين ذات العلاقة ورسم خريطة واضحة للمقاطع ونقاط وجود الرمل بأنواعه.