20-نوفمبر-2022
جبهة الخلاص

مقال رأي

 

عقدت جبهة الخلاص الوطني يوم السبت 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 ندوة صحفيّة يمكن اعتبارها منعطفًا مهمًّا في مسيرة جبهة الخلاص وفي مسار استعادة الديمقراطيّة. فهي المرّة الأولى التي تتوجّه فيها الجبهة إلى جهة أجنبيّة هي المنظّمة الدوليّة للفرنكوفونيّة التي تعقد قمّتها الثامنة عشرة بجزيرة جربة بتونس، وتخصّها بندوة صحفيّة. ولترسل برسائل محدّدة إلى شركاء تونس تشرح فيها موقفها من الأزمة التي تعرفها تونس في ظلّ انقلاب 25 جويلية/ يوليو 2021، وما تولّد عنه من عدم استقرار سياسي واحتقان اجتماعي في ظلّ أزمة ماليّة اقتصاديّة متصاعدة، وتدلي بموقفها حول سبل تجاوزها.

جاءت رسائل جبهة الخلاص واضحة لإدراكها سعي الانقلاب إلى تحقيق نجاح دبلوماسي على أنقاض سبات دبلوماسي وعطالة شبه كاملة عرفها معه هذا السلك

وتونس هي من بين الدول المؤسسة للمنظّمة الفرنكوفونيّة سنة 1970 إلى جانب السنغال ونيجيريا وكمبوديا، وتضم القمّة المنعقدة بجربة حوالي تسعين وفدًا وثلاثين من قادة الدول.

  • سياق انعقاد القمّة

ذكّرت الجبهة في ندوتها بالسياق الذي تنعقد فيه القمّة. وهي تدرك قبل غيرها سعي الانقلاب إلى تحقيق نجاح دبلوماسي على أنقاض سبات دبلوماسي وعطالة شبه كاملة عرفها معه هذا السلك المهمّ في سياسة الدولة الخارجيّة والتعاون الدولي الاقتصادي. ومناسبة لتفكّ سلطة الانقلاب العزلة التي تعرفها في الخارج. ومن هذا المنطلق، كانت رسائل الندوة في غاية الوضوح.  

كانت ندوة صحفيّة موفّقة من جهة التوقيت والموقف والرسائل. ولم تخلُ من أناقة سياسيّة في بسط الموقف وما أفصح عنه من تموقع سياسي ذكي على ضوء المستجدات الأخيرة وفي مقدمتها مؤتمر الفرنكوفونية. ويبدو الموقف على غير ما انتظرته منظومة الانقلاب. فقد كان التقدير بأنّ موقف الجبهة لن يخرج عن أحد موقفين: "انزعاج نمطيّ" على قاعدة نقد للفرنكوفونية يسهّل لسلطة الانقلاب الإقناع بعنوان المعركة الذي تريد الإيهام. أو "ابتهاج ساذج" يُزايد على سلطة الانقلاب في توسّلها بمنافستها في الانتصار للفرنكوفونيّة وطلب ودّ القائمين على منظّمتها. ولكنّ كان للجبهة موقف ثالث مجاوز على قاعدة استعادة المسار الديمقراطي والانفتاح على كل من ينتسب إلى الثقافة الديمقراطية والتعاون الدولي وتواصل الثقافات.

يبدو موقف جبهة الخلاص الوطني على غير ما انتظرته منظومة الانقلاب، فقد كان التقدير بأنّ موقف الجبهة لن يخرج عن أحد موقفين: "انزعاج نمطيّ" أو "ابتهاج ساذج"

في ندوتها، أصّلت الجبهة تحيّتها للضيوف وترحيبها بالقمة في وفاء الدولة التونسية بالتزاماتها. وهي الدولة التي يجتهد سعيّد في هدمها على مرأى ومسمع من ضيوفه الفرنكوفونيين. فيظهر من هو الأجدر بتمثيل الدولة.

سيقول "المبدئيّون" والمزايدون إنّ في هذا تحكيمًا للخارج في الخلاف الداخلي. ويمثّل قولهم هذا نصف الحقيقة، وقد تدعمه حقيقة أنّ ثلث أعضاء المنظمة الفرنكوفونية أنظمة انقلابيّة مناهضة لحقوق الإنسان والمشاركة الديمقراطيّة. ولكن نصف الحقيقة الآخر أنّ معركة استعادة الديمقراطية تتداخل فيها الشروط المحلية والإقليمية والدولية. ولا يخفى أنّ عشر سنوات من الانتقال المتعثّر ساعدت على الشك في جدوى الديمقراطية وساهمت في تجريف مستويات من مقومات السيادة القليلة. وجاء الانقلاب ليوصل البلاد إلى الدرجة الصفر منها. فيكون تقدير المصلحة دون أن تنفصل تمامًا عن "القيمة" عين المبدئية. وهذا مجال التقدير والمناورة في ميدان الصراع السياسي.

معركة استعادة الديمقراطية تتداخل فيها الشروط المحلية والإقليمية والدولية

  • الفرنكوفونيّة والديمقراطيّة

وذكّرت الجبهة في ندوتها، الضيوف في جربة بأنّ مصداقيّة الفرنكفونية تتحدّد بمدى مراعاتها لمواثيقها والتزاماتها المعلنة، ومنها سيادة الدول الأعضاء وصون الحريات وحقوق الإنسان ودعم التنمية والديمقراطية. وهذا الموقف هو في حقيقته أضعف الإيمان، وهو ما لا يمكن النزول تحته في مثل هذه السياقات التي لا تخلو من تعقيد.

وكان بإمكان الجبهة أن تبني موقفها على قاعدة أصلب، وقد أشارت إلى جانب منها في ندوتها دون أن تحيط بكلّ مكوناتها وتُحكم صياغتها بالوضوح المطلوب.

لعلّ أهمّ رسائل ندوة جبهة الخلاص الوطني على الإطلاق، هي أنها تمثّل العنوان السياسي الأكثر جديّة والأوسع تمثيليّة للشارع الديمقراطي والمعارض

كان منتظرًا من الجبهة أن تتوقّف في ندوتها عند التشديد على أنّ السياق الوطني (الانقلاب على الديمقراطية وتداعياته الخطيرة) الذي تنعقد فيه القمة الفرنكوفونية قد يجعل منها شاهد زور على استهداف الحقوق والحريات ويضعها في مواجهة مسار استعادة الديمقراطية. وفي هذه التأليف السياسي، إشارة قويّة إلى جهتين في المنظمة الفرنكوفونية: جهة لا تمثّل استعادة الديمقراطية في تونس أولويتَها ولا تجد حرجًا في أن يجد الانقلاب عقد القمة عنده تزكية له. وجهة لا تُخفي انتصارها للمسار الديمقراطي في تونس وفي مقدمتها كندا. وقد كان رئيس الحكومة الكندية ترودو من الذين أصرّوا على تأجيل القمة في السنة الفارطة بسبب حدث الانقلاب والوضع المضطرب في تونس.

وقد رشَحَت أمس أخبارٌ عن إمكانية إجراء لقاء بين رئيس الحكومة الكندي ورئيس جبهة الخلاص الوطني الأستاذ أحمد نجيب الشابي.

 

 

عقد الندوة أهمية قصوى بالنسبة إلى الجبهة وخطوة جديدة في مسيرتها. ولعلّ أهمّ رسائلها على الإطلاق هي أن جبهة الخلاص تمثّل العنوان السياسي الأكثر جديّة والأوسع تمثيليّة للشارع الديمقراطي والمعارض. وتقدّم نفسها النظير السياسي الأجدر بالتوجه إليه من الفاعلين الدوليين وشركاء تونس التقليديين.

وليست الجبهة هي العنوان الوحيد، ولكنها الأبرز والأكثر هيكلة وتأثيرا والأقدر على توسيع جبهة استعادة الديمقراطية وإنقاذ البلاد.

  • وضوح البديل واستقراره 

أعادت جبهة الخلاص طرح ما تسمّيه بديلها (حكومة إنقاذ وطني). وقد أشار رئيس الجبهة إلى أنّ بديل الجبهة في غاية الوضوح. بل عجب من هذا السؤال أمام بديهة وضوح بديل الجبهة. وهذا ما لم يتأكّد من خلال ما قُدّم في الندوة وفيما سبقها من مناسبات. فلا يجد المتابع صعوبة في تبيّن اختلاف ما تعرضه الجبهة باختلاف أعضائها وتصريحاتهم. وما تقدّمه الجبهة في كل مرة على أنّه بديلها لا يُعرض بالصياغة نفسها. بل إنّ المصطلح السياسي في التعبير عن هذا البديل لم يستقرّ بعد.

ولا ترد موادّ هذا البديل على الترتيب نفسه. فهناك بعض تشويش في العرض، ومن المهم ضبطه على ضوء مستجدات المشهد السياسي ومواقف الشركاء في مهمة استعادة الديمقراطية. وهو ما سيُيسّر ضبط خارطة طريق ممكنة بين القوى السياسة المناهضة للانقلاب المدافعة عن الديمقراطية وقد توحّد عندها الموقف والهدف.

مهمة "استعادة الديمقراطية" تتحوّل إلى مهمة "إنقاذ الدولة"، ويُعَدّ تفرّق المعسكر الديمقراطي من العقبات الأساسية التي تعطّل مهمة الإنقاذ المتأكّدة

وإنّ إمعان الانقلاب في هدم الدولة وعجزه عن تسيير شؤون البلاد ومواجهة الأزمة المالية الاقتصادية المتفاقمة ينبه إلى أنّ مهمة "استعادة الديمقراطية" تتحوّل إلى مهمة "إنقاذ الدولة" التي تنهار رغم ما بين المهمّتين من تداخل.

ويُعَدّ تفرّق المعسكر الديمقراطي من العقبات الأساسية التي تعطّل مهمة الإنقاذ المتأكّدة. وإذا توفّقت القوى الديمقراطية إلى الاجتماع حول شخصية وطنية موحِّدة وحكومة إنقاذ وطني تضمّ أهمّ كفاءات البلاد المجمع عليها بين أوسع القوى السياسية والمنظماتية وبخارطة طريق محدّدة، يكون لفكرة الإنقاذ مصداقية، ويكون أفق إنقاذ الدولة قد انفتح ومساره قد انطلق فعليًا.

إمعان الانقلاب في هدم الدولة وعجزه عن تسيير شؤون البلاد ومواجهة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة ينبه إلى أنّ مهمة "استعادة الديمقراطية" تتحوّل إلى مهمة "إنقاذ الدولة"

ولحكومة الإنقاذ مهمّتان: مواجهة الأزمة المالية الاقتصادية والوصول بالبلاد إلى انتخابات تشريعية ورئاسية واستعادة مسار بناء الديمقراطية. ويبدو أنّه لا أفق خارج مرحلة انتقالية جديدة قد يُختلف في مدتها وفي مرجعيتها الدستورية ولكنها في كل الأحوال استعادة للديمقراطية وتجاوز لحالة الانقلاب والتفرّغ لمحو آثارها المدمّرة.

تشير خلاصات مراحل الانتقال في تجارب عديدة إلى أنّ التعجيل بالانتخابات سبب مباشر في انقسام القوى السياسية التي التقت على بناء الديمقراطية أو استعادتها. فيكون تقديم بناء المؤسسات وتسيير المرحلة بطريقة تشاركية واسعة وتحقق استقرار نسبي للمؤسسات أنجع السبل لاستعادة الديمقراطية. وفي كل الأحوال يبقى عقد التسويات الضرورية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه مهمة النخب. ويُرجى ألا تتأخّر هذه المرّة كي لا تصبح عملية الإنقاذ مستحيلة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"