مقال رأي
الكتابة عن فتحي الهداوي بعد رحيله ليست يسيرة. ليس فقط لصعوبة إعطائه حقّ قدره لما قدّمه من إرث حتّى فرض نفسه الممثّل الأكثر نجاحًا في تاريخ الدراما التونسية، ولكن أيضًا لاعتبار ذاتي أيضًا بحكم المعرفة الشخصية معه في علاقة إنسانية انبثقت في إطار مهني محض. ومن هذا المستوى، الحديث عن شخص افتقدناه، مهما كان رابط العلاقة الشخصية معه، يجب أن يظلّ مشوبًا بحذر أخلاقي من زاوية عدم الإسهال في المحكيّ وكشف ما كان الفقيد يترفّع عن إعلانه، خاصة وأنه شخصية كتومة في كلّ ما هو خارج عن المجال العمومي.
الحديث عن فتحي الهداوي، يجب أن يظلّ مشوبًا بحذر أخلاقي من زاوية عدم الإسهال في المحكيّ وكشف ما كان الفقيد يترفّع عن إعلانه، خاصة وأنه شخصية كتومة في كلّ ما هو خارج عن المجال العمومي
وقد اختار فتحي الهداوي عن رويّة، أن يحافظ على كتم خبر مرضه إلّا عن دائرة ضيقة جدًا، كما اختار دائمًا أن يبعد عائلته الصغيرة عن الأضواء. تعددت الشهادات حول فتحي الهداوي من أصدقائه الفنانين الذين رافقوه في محطات عديدة ليؤكدوا إجماعًا أن الفقيد كان مثالًا عن الشخص الذي تبنّى رفعة الهمّة واللباقة والتواضع منهجًا في حياته، وهو ما يعرفه المقرّبون منه.
فتحي الهداوي في جانبه الإنساني المحض هنا هو توليفة تونسية عتيقة، أضواء الشهرة محليًا وعربيًا لم تطمس شخصية "ابن الحيّ" العاصمي الذي يأنس برفقة أصحابه. الشهادات التي تعدّدت من هنا وهناك زادت في تجذير صورته لدى العامة كشخص يشبه الناس الطيبين من حولنا، هذه الصورة عمّقت بصمته في الوجدان الشعبي للتونسيين. ولا أذكر أن الناس تألمت لفقدان ممثل كما تألمت لفقدان فتحي عدا سفيان الشعري، ذلك الكوميدي الذي لايزال يزور التونسيين في بيوتهم كل ليلة رغم وفاته منذ ما يزيد عن عقد.
فتحي الهداوي لم يكن فقط ممثلًا صاحب موهبة جعلته يتربّع على عرش الدراما التونسية، فليس حقيقة أنه الممثل الأعلى أجرًا في تونس إلا مجرّد دليل فقط. فهو تفرّد في مرتبة البطل الذي لا نظير له. إذ يعلم كل منتج أنّ تأمين حضوره في بطولة المسلسل هو عربون أوّلي على النجاح الجماهيري على الأقل. وكان قد ارتبط اسمه، منذ بدايته، بمسلسلات مثّلت علامة فارقة في تاريخ الدراما التونسية ليس أولّها مسلسل "غادة" في بداية التسعينيات. مشهد رثاء "العفيف" لوالدته "خالتي خيرة" أمام قبرها هو من صنف المشاهد الخالدة في تاريخ الدراما المحلية، ولازال الجمهور يشاركه لليوم، وقد أعادوا مشاركته بكثافة بعد وفاة فتحي الهداوي. وقد ترافقت بطولاته منذ البداية مع الممثل الراحل المنصف لزعر في مسلسلات "غادة" و"العاصفة" و"الحصاد" فيما كان وقتها ربيع الدراما الرمضانية أواسط التسعينيات.
لم يكن فتحي الهداوي ممثلًا مؤديًا، بل مثقفًا واعيًا.. وكان ساخطًا على وضع إنتاج الدراما خاصة بعد الثورة وتحدث عن انتشار الإنتاج الخاص عبر منتجين ليست لهم أي دراية بالإنتاج
تباعًا، ثبّت الهداوي بصمته في رائعة "قمرة سيدي محروس" في رمضان 2002 من تأليف السيناريست الأكثر تألقًا في الدراما علي اللواتي، ولازال المسلسل يشهد متابعة هامّة مع الإعادات الدورية له حتى الآن. وتتابعت النجاحات في "صيد الريم" (2008) ثمّ في سلسلة أعمال دورية شبه سنوية بعد الثورة لاقت جلّها إشادة جماهيرية ونقدية على حد السواء. وفتحي -الشخصية خفيفة الظل في الواقع- لم يتردّد في خوض مغامرة بطولة سلسلة كوميدية بعد الثورة بعنوان "الرئيس" مجسدًا دور رئيس "دولة البرمقلي" وهو ديكتاتور بطريقة ساخرة.
في هذا الجانب، فتحي هو ممثّل مثقّف، وقلّة هم الممثلون من هذا الصنف إذ طالما كشفت المقابلات الصحفية معه عن وعي عميق بدور المثقف، ودور الفن في المشهدية المجتمعية والسياسية. حاضر قبل بضع سنوات في دائرة مستديرة نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات حول نشأة الدراما، وهو الذي كان شاهدًا عن ربيع الدراما السورية عبر مشاركاته في الدراما التاريخية على نحو جعلته نجمًا عربيًا في هذا الصنف من المسلسلات على وجه التحديد. تحدث وقتها عن كيفية تحويل قنوات التمويل لإنعاش الدراما بعد حرب الخليج نحو سوريا وخاصة عبر تكوين شركة "سوري الشام الدولية".
السياسي كان عنصرًا محددًا في هذا الاستثمار. فتحي أشار تونسيًا لانتشار الدراما التلفزية بعد انقلاب بن علي باعتبار الدراما من الآليات الخطيرة والنافذة لتغيير عقليات الشعوب عبر توجيه رسائل معيّنة. وهو طالما أكد أنه لا يعتبر التمثيل مهنة في تونس بسبب غياب الصناعة الدرامية، لكنه كان يأمل أن تتحول تونس إلى قطب درامي بدون تعقيدات أيديولوجية. وقد كان ساخطًا على وضع إنتاج الدراما خاصة بعد الثورة وتحدث عن انتشار الإنتاج الخاص عبر منتجين ليست لهم أي دراية بالإنتاج وفق قوله. فتحي الهداوي بالنهاية لم يكن مجرّد ممثل مؤدٍ بل مثقفًا واعيًا. للتذكير كان مرشحًا لوزارة الثقافة في حكومة حبيب الجملي عام 2020 وكان يأمل وقتها في وضع مشروع ثقافي شامل.
طالما أكد فتحي الهداوي أنه لا يعتبر التمثيل مهنة في تونس بسبب غياب الصناعة الدرامية، لكنه كان يأمل أن تتحول تونس إلى قطب درامي بدون تعقيدات أيديولوجية
والمتفرّد في مسيرته الفنية مقارنة بجيله ليس تربّعه على عرش الدراما المحلية، ولكن جمعُه بين التجارب السينمائية الأوروبية والعربية والتونسية إضافة للمسرح، دون عن مغامراته الدورية في أضخم أعمال الدراما التاريخية التي جعلته ممثلًا عربيًا من الطراز الأول: يوسف بن تاشفين في "المرابطون والأندلس"، وحرقوص بن الزهير السعدي في "الحسن والحسين"، وأبي سفيان في مسلسل "عمر".
برحيل فتحي الهداوي، تفقد الدراما التونسية عملاقها، وهي خسارة لا يسهل تعويضها مطلقًا لأن فتحي كان ممثلًا متفردًا من طراز أولئك الذين يندر تكرارهم في زمن وجيز. اختار أن يرحل بصمت عن التونسيين قبل عائلته وأصدقائه وزملائه، وهو رحيل فخم يشبه فخامته كلّما تحدّث. ولكن سيظلّ حاضرًا على الدّوام بإبداعاته، فأمثاله لا يغيبون مطلقًا. وعلى الدولة التونسية، في الأثناء، أن تخلّد ذكراه بما يليق ما قدّمه للثقافة والفن في تونس.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"