08-أكتوبر-2018

تونس امتنعت عن التصويت لفائدة التحقيق في جرائم في اليمن (فائز نورالدين/أ.ف.ب)

في خضم ادعاء الديبلوماسية التونسية الحالية، التي يقودها رئيس الجمهورية التونسية الباجي قايد السبسي، أنها ديبلوماسية محايدة في الصراعات أو التجاذبات العربية-العربية، ولن تتورّط في سياسة المحاور، إلا أن الواقع يخالف المذكور. بل يبدو أن الديبلوماسية التونسية تكاد قاب قوسين من الارتماء في حضن مملكة آل سعود، التي باتت اليوم، أكثر من أي وقت مضى، عنوانًا للعجرفة وتخريب أوصال الوطن العربي وخدمة الأجندات الصهيونية.

فما معنى أن يقع تنظيم تدريبات عسكرية مشتركة بين تونس والسعودية في هذه اللحظة الإقليمية بين حرب سعودية في اليمن وأزمة خليجية بلغت مستوى الإنذار العسكري وتورط سعودي في تنفيذ صفقة القرن؟ وما معنى أو بالأحرى مغزى أن التدريبات موجّهة نحو الطيران العسكري على وجه الخصوص، إن ما علمنا أن السعودية تقود الحرب في اليمن أساسًا عبر سلاح الجو المتورّط في ارتكاب جرائم حرب أكدتها التقارير الأممية؟

ما مغزى التدريبات العسكرية التونسية مع سلاح الجو السعودي المتورّط في ارتكاب جرائم حرب في اليمن وفق التقارير الأممية؟

هذه التدريبات، التي انطلقت بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018، هي الأولى من نوعها بين البلدين، وبالتالي فهي ليست تدريبات سنوية دورية، وليست من أعراف تاريخ التعاون التونسي السعودي، الذي لم يعرف سابقًا تعاونًا عسكريا بهذا المستوى بين البلدين. ليكون انطلاقها، ومن تونس، وفي هذه اللحظة بالذات وتحديدًا مع اشتداد ضراوة الحرب في اليمن، تورّطًا تونسيًا، ربما من حيث يعلم ولا يعلم من يمسك بملف الديبلوماسية في تونس.

مردّ التحمّس السعودي لهذه التدريبات، أنها تدريبات تهم سلاح الجو، بما تشمل العمليات القتالية والإنقاذ والإمداد غيره وفق ما تم الإعلان عنه. وهذا السلاح هو الذي تقود به السعودية حربها في اليمن الذي يعاني اليوم واحدة من أشد فتراته سوداوية في تاريخه، مع انتشار للمجاعة والأوبئة وانهيار كامل للبلاد اقتصاديًا، وذلك مع ثبوت التواطئ السعودي والإماراتي في إنهاك البلاد لمصالحهما على حساب اليمنيين وهو ما جعل الحكومة "الشرعية" اليمنية تشكو اليوم جور من يزعمون المساعدة.

اقرأ/ي أيضًا: تدريبات مشتركة بين تونس والسعودية.. انتقادات ودعوات لإيقافها

بكل ذلك، يبدو أن المقاتلات السعودية، التي حلت بتونس هذه الأيام، هي في جولة تدريبية وذلك قبل عودتها لتمارس جرائمها في السماء اليمنية، وهذه إحدى صور التورط التونسي في الحرب اليمنية.

وتقوم القوات العسكرية التونسية اليوم بتدريبات مع سلاح الجو السعودي المتصدر في التحالف العربي وهو المصنف أمميًا في اللائحة السوداء  لمنتهكي حقوق الأطفال في مناطق النزاع منذ 2017. ورغم ذلك، واصل التحالف جرائمه بحق الأطفال، إذ قام في الصيف المنقضي بقصف حافلة أطفال ما أدى لمقتل 50 طفلًا وجرح العشرات، ووجهت التقارير الدولية أصابع الاتهام لسلاح الجو السعودي.

 سلاح الجو السعودي يتصدر  التحالف العربي المصنف أمميًا في اللائحة السوداء لمنتهكي حقوق الأطفال في مناطق النزاع منذ 2017

لم يعد يتعلق الأمر تونسيًا بالتورط في سياسة المحاور، وفي تورط، وإن كان غير مباشر، في التحارب في اليمن، بل أيضًا في التورط في التعامل مع سلاح جو تلاحقه الاتهامات في تورطه في أشنع جرائم الحرب، وهو ما يمسّ تباعًا من صورة الجيش التونسي وبتونس إجمالًا على المستوى الدولي. تونس أو نموذج الحد الأدنى للانتقال الديمقراطي بعد الثورات العربية التي تجندت العربية السعودية لمحاربتها في البحرين، ومصر، واليمن، وسوريا، وليبيا وأيضًا عندنا، وهي محاربة بالسلاح، والتآمر والتخريب. وكان قد وصف مفتي السعودية عبد العزيز بن عبد الله آل شيخ الثورات العربية صراحة أنها فتنة وضلال يمزّق للأمّة حسب زعمه.

والأنكى في هذه التدريبات العسكرية هو صعود ضابط سعودي على منبر قاعدة سيدي حمد في بنزرت ليخطب وسط جنودنا، في مشهد يعمّق من صورة مصطنعة لتونس لدى جزء كبير من السعوديين، أنها بلد بحاجة لفتح إسلامي، وها قد جاء الفتح المبين من ضباط سلاح الجو السعودي، هكذا تتعمّق الصورة عندهم ببساطة. إذ تداول سعوديون هذا الفيديو بادعاء أنها أول خطبة في قاعدة سيدي حمد، وذلك في محاولة لممارسة دور تجيده وتسعى مملكة آل سعود للعبه دائمًا من أجل تعزيز نفوذها المعنوي.

وما يثير وجه التحفظ، على وجه الخصوص، هو صورة تلقي العسكري التونسي لخطاب ديني من عسكري سعودي، والحال أن الخطاب الديني الرسمي في مملكة آل سعود مساهم في انتشار الفكر المتطرف وخطاب الكراهية في صفوف الشباب التونسي الذي انخرط في النزعات الإرهابية في السنوات الأخيرة. وتسعى تونس حاليًا، ضمن الخطط المعلنة في الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب، لتجديد الخطاب الديني وتطوير مضامينه، ولا أعتقد أن الخطاب الرسمي السعودي هو مرجعية لنا في هذا الجانب، بل يستهدف الخطاب الديني المندوب تونسيًا مواجهة ذاك الخطاب السعودي الذي لا مشاحة في القول بأنه مصدر الخطاب الداعشي.

لا أعتقد أن الخطاب الرسمي السعودي هو مرجعية لتونس بل يستهدف الخطاب الديني المندوب مواجهة ذلك الخطاب السعودي الذي لا مشاحة في القول إنه مصدر الخطاب الداعشي

ويُستذكر، في هذا الإطار، تصريح وزير الشؤون الدينية السابق عبد الجليل بن سالم سنة 2016 حينما صرح في جلسة برلمانية إنه قال للسفير السعودي في تونس "أصلحوا مدرستكم فالإرهاب تاريخيًا متخرج منكم"، وهي جملة كانت كفيلة بإقالة الوزير. ومما صرّح به الوزير المقال استذكارًا لما قاله للسفير حينها "أقول لكم كعالم ومفكر، التكفير لم يصدر عن أي مدرسة أخرى من مدارس الاسلام، لم يصدر التكفير والتشدد إلا من المدرسة الحنبلية ومن المدرسة الوهابية فأصلحوا عقولكم".

إن التورط التونسي في الاصطفاف إلى جانب السعودية، لم تعكسه مؤخرًا التدريبات العسكرية فقط، بل سبقته حادثة ديبلوماسية ستظل عارًا في تاريخ الديبلوماسية التونسية. إذ امتنعت تونس في مجلس حقوق الإنسان الأممي على التصويت لفائدة التمديد للجنة التحقيق في جرائم الحرب في اليمن، وذلك اصطفافًا منها مع السعودية والإمارات اللتان تقودان الحرب. بل وكان الامتناع مصوّبًا تجاه اللجنة التي يترأسها الحقوقي التونسي كمال الجندوبي. وللإشارة تضم هذه اللجنة أيضًا خبيرين إثنين من أستراليا والمملكة المتحدة، وقد صوت هذان البلدان لفائدة اللجنة أما الجندوبي فقد أحرجته ديبلوماسية بلاده وخانته، كما خانت دماء اليمنيين، وسعت لمباركة جرائم الحرب في اليمن. ولكن كان ضمير الإنسانية أقوى، إذ صوت المجلس الأممي لفائدة اللجنة، ولم ينفع الامتناع التونسي في الحيلولة دون مواصلتها لأعمالها.

اقرأ/ي أيضًا: بسبب التقرير الأممي حول اليمن.. حملة سعودية إماراتية ضد كمال الجندوبي

والمريب أن التورط التونسي مع السعودية بلغ إلى درجة إصدار الخارجية التونسية بيانًا حول الأزمة السعودية الكندية التي اندلعت، خلال الصيف الماضي، على خلفية انتقادات كندا لأوضاع حقوق الإنسان في مملكة آل سعود. إذ دعم بيان لخارجية تونس الموقف السعودي من خلال التأكيد على "أهميّة عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول واحترام سيادتها الوطنية"، والسؤال أي مصلحة لنا في هكذا بيان؟ وأين هي، على الأقل، ديبلوماسية الحياد في الأزمات أو التوترات الديبلوماسية بين الدول؟ هو بيان يناصر السعودية فاستثمرته وسائل إعلامها على غرار ما عنونت قناة العبرية في أوت/أغسطس 2018 " تونس تدعم السعودية ضد تدخل كندا"! بل ويصطف هذا البيان ضد كندا، والأنكى أن هذه الأزمة كانت نتاجًا لموقف مبدئي كندي من انتهاكات حقوق الإنسان بشكل غير مسبوق في زمن ولي العهد السعودي محمد ابن سلمان. وقد كان على الخارجية التونسية على الأقل ملازمة الصمت بدل إصدار بيان ينضاف لقائمة العار للديبلوماسية التونسية.

وطبعًا، لا ننسى أن السعودية لازالت تستضيف المخلوع بن علي وترفض تسليمه رغم صدور بطاقة جلب دولية بحقه. ويتقاطع هذا الامتناع السعودي مع انعدام الرغبة الرسمية من تونس لفتح هذا الملف مع السعوديين للمطالبة بمن تلاحقه عشرات القضايا متعلقة بالفساد المالي وقتل شهداء الثورة وغيرها.

هذا ومن المنتظر أن تستضيف تونس القمة العربية القادمة في مارس/آذار 2019، وهي قمة صورية ستكون، كما كانت سابقاتها، قمة الخذلان والضحك على الذقون خاصة في هذه اللحظة العصيبة التي تمرّ بها الأمة العربية، وفي ظل مخططات تصفية القضية الفلسطينية بتآمر عربي تقوده السعودية والإمارات. كان يمكن لتونس، حفظًا لماء الوجه ورفضًا للعب دور شاهد الزور، أن ترفض تنظيم القمة، كما رفضتها المغرب قبل سنتين لأن "القمة العربية لا يمكن أن تشكل غاية في حد ذاتها، أو أن تتحول إلى مجرد اجتماع مناسباتي" كما قال حينها بيان الخارجية المغربية. أما تونس، تقبل تنظيم قمة ستكون مخرجاتها قطعًا مثل سابقاتها، إدانة واستنكار على الورق لا أكثر.

لا ننسى أن السعودية لا تزال تستضيف المخلوع بن علي وترفض تسليمه رغم صدور بطاقة جلب دولية بحقه

تفرط تونس، في الأثناء وبكل اصطفافها مع مملكة آل سعود، في الحد الأدنى من رصيد المصداقية تجاه القضايا العادلة خاصة في الوطن العربي، كما تضع قدمًا في لعبة المحاور العربية، التي يدعي السبسي أنه غير معني بها، بل وتتورط في حرب اليمن تارة بالتصويت في الأمم المتحدة وتارة بمشاركة القاتل تدريباته في سماء تونس قبل عودته لقصف اليمنيين.

يأتي هذا الخذلان التونسي والاستقالة عن المواقف المبدئية وتناسي الرسائل التونسية الموجبة باسم الثورة، رغم أن السعودية، وبمنطق المصلحة، لم تقدم لتونس الكثير. إذ لم تطلق بعد يدها للاستثمار الاقتصادي رغم وطأة الأزمة الاقتصادية، فلازالت الاستثمارات السعودية المعلنة محدودة، وقد تركزت مثلًا هباتها على المواقع الدينية، وهو استثمار موجّه يخدم تعزيز صورتها الدينية.

وقد أدى التزلف الرسمي التونسي تجاه الاستثمار السعودية للمهانة والمس من صورة الدولة التونسية، وذلك حينما ظهر وزير التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية محمد صالح العرفاوي، في سبتمبر/أيلول 2018 ضمن وفد رسمي سعودي تونسي يرفع صورة للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز وأخرى لولي عهده محمد بن سلمان.

والأهم في كل ذلك أن السعودية لم تقدم لتونس ما قدمته لدول أخرى كمصر، ولم تبرهن فعلًا أنها دولة صديقة سخية في وقت الأزمات، وهي بالطبع غير معنية بالدفع نحو إنجاح نموذج الانتقال الديمقراطي في تونس. ولكن تسعى باستثماراتها المحدودة للتذكير أنها لم تغفل عن تونس، وذلك على خلاف حليفتها الإمارات التي لازال قرارها غير المعلن بعدم الاستثمار في تونس ساريًا، في محاولة لإنهاك تجربة الانتقال الديمقراطي التي مازالت تتقدم، وإن بخطى بطيئة، رغم كل مخططات التشويه والإفشال.

ولكن الخشية، كل الخشية، أن يكون الاصطفاف التونسي اليوم مع مملكة آل سعود، هو، في حقيقته، ثمن الاستثمارات السعودية في تونس على محدوديتها، وحينها تكون الطامة الكبرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في لزوم تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني

في تونس.. هل اغتالوا محمد الزواري مرتين؟