29-مايو-2019

الاستقالات البلدية تهدد الديمقراطية المحلية (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

مقال رأي

 

تصدير:

قد أوقع القلب في الأشجان والكمد ... هوى حبيب يسمّى المجلس البلدي (بيرم التونسي)


منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات البلدية سنة 2018 وما حف بها من تحالفات حزبية وأيديولوجية اتسم بعضها بالغرابة وعدم التجانس، والأمر يشي بأزمات في الأفق كان المواطن التونسي يستشعرها في ظل عدم تغير أوضاعه في مستوى الخدمات البلدية وفي مستوى تشريكه في وضع الاستراتيجيات التي تهم منطقته وفق ما تفرضه مبادئ السلطة المحلية كما سطّرها دستور 2014.

ويبدو أن حدس المواطنين كان في محلّه على ضوء ما تعرفه البلاد في الآونة الأخيرة مما وُصف بـ"التململ البلدي" المفاجئ والمثير للانتباه بالنظر إلى الاستقالات الجماعية المتتالية في 9 مجالس بلدية على الأقل حتى الآن، وهي بلديات سوق الجديد وباردو والعيون وسكرة والبهرة والسرس وتيبار ونعسان وكسرى، مع الإشارة إلى أن الاستقالة المتزامنة لأغلبية المستشارين البلديين تؤدي إلى إعلان انحلال المجلس البلدي. فيما لا تزال تنتشر تهديدات بالاستقالة في بلديات أخرى من ولايات سوسة ومنوبة والقصرين.

يبدو أن الأحزاب التي فشلت في الاستحقاق الانتخابي البلدي السابق تعمل على وضع الهشيم في النار خاصة بعد إعلان مواعيد الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة

وتعود هذه الاستقالات، وفق البيانات المنشورة لأصحابها، لانفراد رؤساء البلديات بالقرار وتغييب باقي الأعضاء المنتخبين في مسائل تهم التسيير وأيضًا تهميش الإطار الإداري والتقني للبلدية وعدم الأخذ برأيه والتعامل مع المواطنين من منطلق الولاء الحزبي.

لكن باطن هذه الاستقالات يُقرأ على عدة أوجه لعل أبرزها الوجه السياسي، إذ يبدو أن الأحزاب التي فشلت في الاستحقاق الانتخابي البلدي تعمل على وضع الهشيم في النار خاصة بعد إعلان مواعيد الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة. إذ تطمح هذه الأحزاب إلى انتخابات جزئية تعيد عبرها ترتيب المجالس البلدية من جديد بما يخدم مصلحتها الحزبية خاصة وأن القانون الانتخابي يمكّن من تزكية المرشح للانتخابات الرئاسية من 40 من رؤساء المجالس المحلية المنتخبة.

اقرأ/ي أيضًا: بعد استقالة بعض أعضائها.. هل يؤثر الصراع الحزبي على عمل البلديات؟

وقد أدخل تصاعد نسق الاستقالات والتلويح بها نوعًا من الإرباك على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي اقترح رئيسها نبيل بافون مؤخرًا على مجلس نواب الشعب تنقيح القانون الانتخابي حتى تتمكن الهيئة من تأجيل أو تعليق إجراء الانتخابات البلدية الجزئية حتى لا تؤثر أو تشوش وفق قوله على الناخبين في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019. كما طالبت الهيئة الحكومة بتمويلات إضافية استعدادًا للانتخابات البلدية الجزئية التي من المتوقع عقدها في عديد البلديات من ولايات مختلفة جراء موجة الاستقالات المتتالية.

ويمس الوجه الآخر لهذه الاستقالات من رمزية الباب السابع من الدستور المتعلق بالحكم المحلي والذي يأمل منه الشعب التونسي تغيير أوضاعه وإحداث توازنات تنموية جديدة تنهي مع الإملاءات المركزية ومع التفاوت الجهوي المكرس منذ عقود طويلة، وتدق أركان "الديمقراطية الجهوية" التي عدّت هاجسًا من هواجس النخب والطبقة السياسية بعد الثورة.

تطمح عديد الأحزاب إلى انتخابات جزئية تعيد عبرها ترتيب المجالس البلدية من جديد بما يخدم مصلحتها الحزبية خاصة وأن القانون الانتخابي يمكّن من تزكية المرشح للانتخابات الرئاسية من 40 من رؤساء المجالس المحلية المنتخبة

ولكي نتفادى ما حصل من هزات قد تفقد الثقة في الحكم المحلي الناشئ، لعله بات من الضروري تنقيح مجلة الجماعات المحلية بما لا يسمح بمثل هكذا استقالات أو على الأقل يصعّب شروطها الإجرائية، مع ضرورة تنظيم مسألة الائتلافات المشكلة بعد الانتخابات بطريقة يتحمل فيها الفائز الأول مسؤوليته في إدارة السلطة المحلية لأن الاستقالات، سواء الحاصلة أو المتوقع حصولها، هي نتيجة شبه حتمية لما حدث بعد التصريح بنتائج الانتخابات البلدية الأخيرة.

لكن يبقى الجانب الأخلاقي هو الأهم على الإطلاق، فأن يستقيل مجلس بلدي منتخب منحه المواطن صوته على إثر انتخابات شفافة ونزيهة من أجل إدارة شؤونه المحلية ثم يتخلى عنه في منتصف الطريق من أجل مصالح حزبية وأيديولوجية ضيقة، فهذا الأمر إن دل على شيء فهو يدل على فتور الإحساس بالمسؤولية وضعف الوازع الوطني.

كما تُطرح للنقاش من جديد مسألة الوعي المواطني بأهمية اختيار المواطنين لممثليهم على أساس الكفاءة والمهارة في التسيير والإجماع على الصفة الاعتبارية والرمزية للشخصيات المترشحة للبلدية وإدارة الشأن العام المحلي. إذ يجب ألا يكون الاختيار على أساس نوازع ذاتية وحزبية ضيقة تكون نتائجها كارثية في مستوى الإدارة المحلية في ظل ضرورة حسن إدارة الخلافات واقتراح الحلول العملية مع تشريك فعلي وحقيقي للمجتمع المدني والنخب المحلية.

إن الاستقالات البلدية الآخذ نسقها في التصاعد بقدر ما هي تهديد للديمقراطية المحلية والانتقال الديمقراطي في تونس، فهي تجعلنا في مواجهة مع أنفسنا حتى نستخلص العبر ونواصل بثبات بناء تونس الجمهورية الثانية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ذوو الاحتياجات الخاصة في الانتخابات البلدية.. حطب بلا دخان

حمّى المبادرات المواطنية.. الطبيعة تأبى الفراغ