13-يونيو-2021

المختص في الاقتصاد والجامعي رضا الشكندالي

 

تستفحل الأزمة المالية بالبلاد التونسية في ظل أزمة اقتصادية شاملة لكافة القطاعات مما أثر على موازنة الدولة وحجم المديونية الخارجية وتراجعت مؤشرات التنمية بشكل مقلق. 

ولعل ما عمّق الأزمة الاقتصادية هو عدم الاستقرار السياسي وتنازع الصلاحيات بين رؤساء السلطة في البلاد في الوقت الذي ازدادت فيه المخاوف من عجز الدولة عن تسديد الدين الخارجي وتوجه الحكومة نحو مزيد الاقتراض من صندوق النقد الدولي وتكثيف الزيارات نحو بلدان عربية وبلدان الاتحاد الأوروبي للبحث عن منفذ للخروج من الأزمة.

في هذا السياق، أجرى "الترا تونس" هذا الحوار مع المختص في الاقتصاد والجامعي رضا الشكندالي الذي طرح جذور الأزمة وشخص مواطن العجز المالي، مقدمًا، في هذا الحوار، مقاربة خاصة للخروج منها على مستوى التصرف في المالية العمومية. 


  • هل من تشخيص للأزمة المالية التي تعيشها تونس؟ ولماذا بلغنا هذا الوضع الحرج؟

الأزمة المالية في تونس هي نتيجة لأزمة اقتصادية بعد الثورة فالقطاع العام هو الذي تحمل كل المسؤولية تحت الضغوطات الاجتماعية وتزامن ذلك مع انكماش القطاع الخاص نتيجة التخوف من مآلات الأحداث السياسية والاقتصادية فكانت تونس تعيش تحت القصف السياسي (بما في ذلك تصنيف رجال الأعمال كرجال أعمال فاسدين خاصة أولئك الذين تمتعوا بقروض)، كما أن القصف الاجتماعي كان له تأثير ومن ذلك الانفلاتات الاجتماعية والحراك الواسع مما أدى إلى عدم قدرة المؤسسات على السيطرة على العمل في مؤسساتهم وبالتالي استحالة الإنتاج وتصاعد وتيرة الاحتجاجات والاضطرابات والاعتصامات.

رضا الشكندالي: كانت المؤسسة التونسية ضحية السياسات الاقتصادية غير الملائمة بعد الثورة ومن ذلك السياسة النقدية الحذرة

كما كانت المؤسسة التونسية ضحية السياسات الاقتصادية غير الملائمة من ذلك السياسة النقدية الحذرة التي أدت إلى ارتفاع كبير على مستوى نسبة الفائدة والتجاء المستثمر إلى البنوك لتغطية التكاليف ولكن بتكلفة تمويل عالية جدًا نظرًا لارتفاع نسبة الفائدة.

كذلك أدت السياسة المعتمدة إلى تراجع قيمة الادخار التونسي فألحقت ضررًا بالاستثمار الخاص بما أن المؤسسة التونسية تورّد التجهيزات والمواد الأولية وفي تراجع قيمة الدينار ارتفاع في كلفة الاستثمار. كما أن الأداءات على مستوى الضرائب المتكررة ونسبة الضغط الجبائي العالية (20 بالمائة في 2010/ 25 بالمائة في 2021) أثقلت كاهل المؤسسات ودفعتها إلى الانكماش عن الاستثمار.

في غياب المستثمر الخاص وتدني نسبة الاستثمار من الناتج المحلي الخام من 24.1 % سنة 2010 إلى 14% سنة 2020 أي تراجع بـ10 نقاط كان الخيار أمام الدولة خلق الوظائف في القطاع العام إلى أن وصلت الذروة والتي تعرض لها صندوق النقد الدولي لأول مرة في الاتفاق الثاني سنة 2016 (اتفاق الصندوق الممدد بقيمة 2.9 مليار دينار) فاشترط أن نسبة الأجور من الناتج الإجمالي تنخفض وأصبحت الدولة لا تنتدب بالكيفية السابقة ولكن ارتفعت البطالة بشكل كبير.

من جهة أخرى الموارد الذاتية لا تكفي أمام تنامي نفقات الدولة مما أدى إلى المديونية والاختناق الذي تعيشه حاليًا تونس ووصلنا إلى الحلقة المفرغة من التداين الخارجي باعتبار أننا وصلنا إلى مرحلة أننا نحتاج مبلغًا من الموارد من العملة الصعبة تقريبًا بنفس مبلغ تسديد الديون.

الشكندالي: لم يحدث بعد الثورة تغيير على مستوى السياسات بل تثبيت للمنوال الاقتصادي الذي قام على مزايا تفاضلية لليد العاملة الرخيصة وقام على قطاع السياحة 

أعتقد أن 10 سنوات الأخيرة لم يحدث تغيير على مستوى السياسات بل تثبيت للمنوال الاقتصادي الذي قام على مزايا تفاضلية لليد العاملة الرخيصة منذ السبعينيات وقام على قطاع السياحة الذي قسم البلاد إلى جزئين شريط بحري وشريط داخلي.. هذا المنوال الاقتصادي خلق الثروة ولكن أخفق في التوزيع العادل لهذه الثروة.

اقرأ/ي أيضًا: منتدى الحقوق الاقتصادية يطرح جملة من الحلول لإنقاذ الاقتصاد التونسي

  • هل تعتبر أن الاقتصاد التونسي قائم على التداين وليس على المشاركة حاليًا؟ 

اقتصاد المشاركة هو الذي يشارك فيه الفاعلون الاقتصاديون عبر الادخار الذي يمرّ بالقنوات المنظمة عبر السوق المالية، مشاركة السوق المالية على مستوى تمويل الاستثمار ضعيف جدًا، واقتصادنا الحالي اقتصاد ديون فنسبة الرسملة أي مدى إسهام السوق المالية في تمويل الاستثمار في حدود 5% أو 6% فالاستثمارات الخاصة تمول عن طريق القروض البنكية والاستثمارات العمومية تمول أساسًا عن طريق الديون الخارجية فهذا المنوال لا يثير إلا المديونية الكبيرة التي نحن نعاني منها والتي بلغ فيها عجز موازنات الدولة إلى حدود 11 % سنة 2020. وكذلك المديونية العمومية التي بلغت حاليًا 92 % من الناتج المحلي الإجمالي هذا دون اعتبار الديون المتخلدة بالمؤسسات العمومية.

وسبب إفلاس هذه المؤسسات العمومية أساسًا هو السياسة المرنة لسعر الصرف التي أدت إلى تراجع قيمة الدينار التونسي فالدولة التونسية دفعت المؤسسات العمومية إلى الاقتراض بالعملة الصعبة من الخارج تحت ضمان الدولة. هذه السياسة أضرت بميزانية الدولة بما أن المبلغ الذي ستسدده الحكومة التونسية مرتفع بشكل كبير.

الشكندالي: سبب إفلاس عديدة المؤسسات العمومية أساسًا هو السياسة المرنة لسعر الصرف التي أدت إلى تراجع قيمة الدينار التونسي

فالملاحظ على مستوى موازنة الدولة أن الاقتراض الداخلي مكلف جدًا جراء السياسة النقدية الحذرة والتي جعلت من نسبة الفوائد ترتفع فمبالغ الفوائد المدفوعة من البنوك التونسية بلغت سنة 2021 2400 مليار على أصل دين من 4900 مليار بينما الدين الخارجي 1800 مليار على أصل فائدة 6900 مليار.

وبما أن المؤسسات الوطنية تأخذ فوائد كبيرة جدًا على الاقتراض فقد انتهجت الدولة سياسة الترفيع في نسبة الفائدة والتي جعلت من البنوك تمول ميزانية الدولة دون أي مخاطر وذلك يعتبر أكبر ضمانة لها من تمويل استثمارات خاصة محفوفة بمخاطر.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| محمد صالح العياري (خبير جبائي): هذه الإجراءات اللازمة للإصلاح الجبائي

  • هل من مقاربة شاملة لحلحلة الأزمة المالية الحالية؟ وما مدى تفاعل المؤسسات المالية مع الوضع الراهن؟ 

من أهم عوامل عدم تطور الضرائب أو الموارد الجبائية للدولة التي تمكنها من تقليص المديونية هو عامل الثقة والشفافية والشكوك.. إذ أن الحكومة التونسية لا تقتدر على التصرف الرشيد في الموارد الجبائية يعني تهرب المواطن التونسي من الجباية لعدم الثقة في أن ما يدفعه من ضرائب سيعود عليه بالنفع ولا ثقة له في أن تلك الضرائب ستساهم في تحسين الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية، إذًا هناك شكوك على مستوى شفافية التصرف وعلى مستوى الموارد الجبائية.

وبالتالي الحل أن نتجاوز هذا الإشكال ونبني الثقة والشفافية على مستوى التصرّف في المال العام وهو ما قد يقلص من التهرب الضريبي ويدفع المستثمرين إلى القيام بالواجب الضريبي.

الشكندالي: من أهم عوامل عدم تطور الضرائب أو الموارد الجبائية للدولة التي تمكنها من تقليص المديونية هو عامل الثقة والشفافية والشكوك

الشكل الحالي لميزانية الدولة يتضمن عنوانًا 1 وعنوانًا 2 وبالاعتماد على مبدأ من مبادئ الميزانية الحالية وهو عدم تخصيص الموارد الجبائية، لا يمكن أن نعرف أين تذهب هذه الموارد ولا نعرف أين تستعمل هذه الديون، في الاستثمارات أو في دفع الأجور؟.

قال ممثل البنك الدولي وممثل البنك الأوروبي في 2020 صراحة "نحن أقرضنا تونس مبالغ كبيرة ولكن لم نشهد شيئاً على أرض الواقع" ويعني ذلك شكوكًا في عدم شفافية استعمال القروض الدولية كما سمعنا محافظ البنك المركزي يقول إنه يرفض الإقراض المباشر لميزانية الدولة لأنه لا يعرف أين تذهب هذه الديون؟.

اقرأ/ي أيضًا: الشكندالي: لتقليص التداين الخارجي من الضروري الذهاب في 4 ميزانيات خاصة

أحاول خلال هذه المقاربة المقدمة هنا إحلال الثقة والشفافية والتصرف الرشيد ولا بد من إعادة تبويب ميزانية الدولة وأقترح تقسيمها إلى 4 موازنات: 

1 – موازنة الأجور والدعم 

هذه الموازنة تهم دخل الموظف واقترحت تمويلها من الضرائب أو ما يهم الدخل فالمواطن التونسي الأجير يدفع بعد الدخل وبالتالي لابد أن الضريبة على الدخل تذهب مباشرة لتمويل موازنة الأجور والدعم ويعني ذلك أن الأداء على الاستهلاك الأداء على القيمة المضافة ومعلوم الاستهلاك والمعاليم غير المباشرة تذهب مباشرة لتمويل الميزانية.

وإذا ما طبقنا هذه المقاربة على ميزانية 2021 نلاحظ أن مجموع موارد ميزانية الأجور والدعم تبلغ 25.2 مليار دينار وهي تعطينا فائضًا بـ1.7 مليار دينار وبالتالي لا خوف على أجور الموظفين ولا يمكن الحديث عن إفلاس الدولة وينقص الضغط بالتالي على الحكومة التونسية أثناء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

2 - ميزانية نفقات الاستهلاك ووسائل المصالح وكل ما يمكّن الدولة من الاشتغال 

هذه الميزانية تمول أساسًا بهذا الفائض 1.7 مليار دينار والفلسفة أن الدولة تسهم فيها بالمصالح الديوانية والخزينة وهذا يمكننا من 3.1 مليار دينار بالنسبة لسنة 2021  ونحن نعرف أن النفقات ازدادت بنسبة 40% سنة 2020 وهناك نوع من الترف على مستوى استعمالات الدولة في الآن نفسه والذي اتفقت فيه مع صندوق النقد الدولي على إجراءات موجّهة.

3 - ميزانية نفقات التنمية 

نفقات تهم المؤسسة التونسية وتهم تحسين البنية التحتية ودفع الاستثمار الخاص والعام، والمقاربة الجديدة تسعى إلى البحث عن مصادر التمويل وأساسًا الانتفاع من الضريبة على أرباح الشركات  (في حدود 3.2 مليار دينار سنة 2021)، ونعني بذلك شركات القطاع العام والخاص باعتبار أن الشراكة بينهما قائمة على مستوى إنجاز المشاريع والتمويل، هذه الموارد من القطاع العام والخاص توفر 5.3 مليار دينار سنة 2021  في حين أن  المبلغ المرصود في ميزانية الدولة 7.1 مليار دينار.

4 - ميزانية الديون 

ميزانية الديون الأهم على الإطلاق لأنها تعكس صورة الدولة التونسية في الداخل ولعلها تعبر عن منسوب ثقة المواطن في دولته كما هي تعبر عن ثقة المؤسسات الدولية في الحكومة التونسية، وبالنسبة لهذه السنة نعاني اختناقاً مالياً شديدًا وبالتالي أقترح أنه لابد من نسبة صفرية للفائدة على الدين الداخلي لأن البنوك التونسية انتفعت من سياسة الترفيع في نسبة الفائدة وانتفعت بمنظومة خاطئة والإجراءات الموجعة لابد أن توجع من انتفع بهذه المنظومات الخاطئة فلا بد من ضريبة على أرباح البنوك في إطار مقاومة "اقتصاد الريع".

الشكندالي: البنوك التونسية انتفعت من سياسة الترفيع في نسبة الفائدة وانتفعت بمنظومة خاطئة والإجراءات الموجعة لابد أن توجع من انتفع فلا بد من ضريبة على أرباح البنوك في إطار مقاومة "اقتصاد الريع"

ونلاحظ أن الناتج الصافي البنكي ارتفع من 3.6 مليار دينار سنة 2017 ليناهز 5 مليار دينار سنة 2020 وأمام هذه الأرباح الخيالية أرى أن تتنازل عن الفائدة، كما أقترح تدخل البنك المركزي في ميزانية الديون كمراقب على مستوى مآلات الديون وبالتالي لا خوف أن تذهب إلى غايات استهلاكية عوض غايات استثمارية.

من جهة أخرى لا أرى ضرورة في إصدار الدولة لرقاع خزينة لأن نسبة الادخار في أتعس حالاتها 4 % سنة 2020 في حين كانت في حدود 21 %  سنة 2010 وربما لا يقبل التونسيون على هذا الاكتتاب رغم أن نسب الفائدة مغرية، وفي تدني نسبة الادخار عدم قدرة للبنوك على تمويل الاستثمار الخاص.



اقرأ/ي أيضًا: 

حوار| آرام بلحاج: تعهدات تونس مع صندوق النقد قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي

حوار| هشام العجبوني: صعوبات في الاقتراض الداخلي وهذا مقترحنا حول البنك المركزي